موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الثَّامِنةُ: الإكراهُ


الإكراهُ هو: حَملُ الغيرِ على أن يَفعَلَ ما لا يَرضاه، ولا يَختارُ مُباشَرَتَه لَو خُلِّيَ ونَفسَه [781] يُنظر: ((شرح التلويح على التوضيح)) للتفتازاني (2/414). .
ولكي يَتَّضِحَ كونُ المُكرَهِ مُكلَّفًا أو لا، يَنبَغي النَّظَرُ في المُكرَهِ نَفسِه، ومَدى وُصولِه إلى دَرَجةِ الاضطِرارِ، فالإكراهُ نَوعانِ:
النَّوعُ الأوَّلُ: إكراهٌ وصَلَ إلى دَرَجةِ الاضطِرارِ والتَّلجِئةِ
اتَّفقَ العُلَماءُ على أنَّ الـمُكرَهَ إذا وصَلَ إلى حَدِّ الاضطِرارِ؛ بحيثُ لا يَبقى لَه قُدرةٌ ولا اختيارٌ [782] ومِثالُه: ما لَو أُلقيَ مِن مَكانٍ مُرتَفِعٍ على صَبيٍّ فماتَ، أو رُبِطَ وأدخِلَ في دارٍ حَلَف ألَّا يَدخُلَها. والمَذكورُ هو تَعريفُ الجُمهورِ للإكراهِ المُلجِئِ، وما عَدا ذلك مِن أنواعِ الإكراهِ، كالتَّهديدِ بالقَتلِ، أوِ الضَّربِ، أوِ السَّجنِ، فهو إكراهٌ غيرُ مُلجِئٍ عِندَهم. أمَّا الحَنَفيَّةُ فعِندَهمُ الإكراهُ المُلجِئُ: هو أن يَكونَ التَّهديدُ فيه بقَتلٍ أو قَطعِ طَرَفٍ أو جَرحٍ أو ضَربٍ مُبَرِّحٍ أو حَبسٍ مُدَّةً طَويلةً، مِمَّن يَستَطيعُ أن يَفعَلَ ذلك، وغَيرُ المُلجِئِ عِندَ أكثَرِ الحَنَفيَّةِ هو ما كان التَّهديدُ فيه بأقَلَّ مِمَّا ذُكِرَ في المُلجِئِ. يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (5/ 182)، ((التلويح)) للتفتازاني (2/ 395). ويُنظر أيضًا: ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 61). ؛ فهو غيرُ مُكَلَّفٍ في هذه الحالِ؛ لأنَّ نِسبةَ ما يَصدُرُ عنه مِنَ الفِعلِ كنِسبةِ حَرَكةِ المُرتَعِشِ إليه، فهذا مَسلوبُ الإرادةِ والاختيارِ؛ فإنَّ المُرتَعِشَ في الحَقيقةِ لا يوصَفُ بكونِه مُكرَهًا في رِعدَتِه، وكذا السَّاقِطُ مِن مَوضِعٍ مُرتَفِعٍ؛ فهو كالآلةِ لا اختيارَ لَه، فهو غيرُ مُكَلَّفٍ؛ إذ تَكليفُه والحالةُ هذه تَكليفٌ بما لا يُطاقُ. وهذا لا نِزاعَ فيه [783] يُنظر: ((المغني)) لعبدالجبار (11/393)، ((الإحكام)) للآمدي (1/154)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/344)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/370)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (2/415)، ((البحر المحيط)) للزركشي (2/ 73)، ((التحبير)) للمرداوي (3/1200)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/509)، ((آراء المعتزلة الأصولية)) للضويحي (ص: 294). .
ومِمَّن نَقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ نورِ الدِّينِ [784] قال ابنُ نورِ الدِّينِ: (فأمَّا أداءُ الحيِّ إلى حَدٍّ لا يَبقى لَه فيه اختيارٌ، كما إذا أُلقيَ مِن شاهقِ جَبَلٍ، فقَتَلَ إنسانًا بثِقلِه، فغيرُ مُكَلَّفٍ، ولا داخِلٍ في الخِطابِ اتِّفاقًا). ((تيسير البيان)) (3/ 402). ، وابنُ حَجَرٍ [785] قال ابنُ حَجَرٍ: (... كمَن أُلقيَ مِن شاهِقٍ وعَقلُه ثابتٌ، فسَقَطَ على شَخصٍ فقُتِل؛ فإنَّه لا مَندوحةَ لَه عنِ السُّقوطِ ولا اختيارَ لَه في عَدَمِه، وإنَّما هو آلةٌ مَحضةٌ، ولا نِزاعَ في أنَّه غيرُ مُكَلَّفٍ إلَّا ما أشارَ إليه الآمِديُّ مِنَ التَّفريعِ على تَكليفِ ما لا يُطاقُ). ((فتح الباري)) (12/ 312). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/182)، ((جامع العلوم والحكم)) (2/ 372). ، والشِّنقيطيُّ [786] قال الشِّنقيطيُّ: (الإكراهُ قِسمانِ: قِسمٌ لا يَكونُ فيه المُكرَهُ مُكلَّفًا بالإجماعِ، كمَن حَلَف لا يَدخُلُ دارَ زيدٍ مَثَلًا، فقَهَرَه مَن هو أقوى مِنه، وكبَّلَه بالحَديدِ، وحَمَلَه قَهرًا حَتَّى أدخَلَه فيها، فهذا النَّوعُ مِنَ الإكراهِ صاحِبُه غيرُ مُكَلَّفٍ، كما لا يَخفى؛ إذ لا قُدرةَ لَه على خِلافِ ما أُكرِهَ عليه). ((مذكرة أصول الفقه)) (ص: 39). .
النَّوعُ الثَّاني: إكراهٌ لَم يَصِلْ إلى حَدِّ الاضطِرارِ والتَّلجِئةِ
وهو أن يُحمَلَ على أمرٍ يَكرَهُه ولا يَرضاه، ولَكِنَّه تَتَعَلَّقُ به القُدرةُ والاختيارُ؛ لأنَّ المُكرَهَ يَختارُ أخَفَّ الأمرينِ المُكرَهَينِ لَه، مِنَ المُكرَهِ عليه والمُكرَهِ به، ويَحصُلُ التَّهديدُ بما لا إتلافَ فيه، كحَبسٍ وضَربٍ لا يُؤَدِّي إلى تَلَفٍ، وغَيرِهما مِمَّا يُمكِنُ الصَّبرُ عليه عادةً، ويَنتَفي مَعَه الرِّضا ولا يَفسُدُ الاختيارُ، وقد وقَعَ الخِلافُ فيه، والرَّاجِحُ جَوازُ تَكليفِ المُكرَهِ غيرِ المَلجَأِ. وهو قَولُ جَماهيرِ الأُصوليِّينَ [787] يُنظر: ((البرهان)) للجويني (1/16)، الرازي ((المحصول)) (2/267- 268)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/158)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/503)، ((البحر المحيط)) للزركشي (2/ 74)، ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/ 343). قال ابنُ العَرَبيِّ: (اتَّفقَ أهلُ السُّنَّةِ على جَوازِ تَكليفِ المُكرَهِ، وخالَف في ذلك جَماعةٌ مِنَ المُبتَدِعةِ). ((المحصول)) (ص: 25). وقال الزَّركشيُّ: (المُكرَهُ مُكلَّفٌ بالفِعلِ الذي أُكرِهَ عليه خِلافًا للمُعتَزِلةِ). ((سلاسل الذهب)) (ص: 148). وقال السَّمعانيُّ: (قال بَعضُ المُتَكلِّمينَ: إنَّ فِعلَ المُكرَهِ لا يَدخُلُ تَحتَ التَّكليفِ). ((قواطع الأدلة)) (1/ 117- 118). .
قال السَّمعانيُّ: (وأمَّا المُكرَهُ ففِعلُه داخِلٌ تَحتَ التَّكليفِ؛ لأنَّه يَقدِرُ على تَركِه بأن يَستَسلمَ بما خُوِّفَ به، وهذا بخِلافِ حَرَكةِ المُرتَعِشِ، لا يوصَفُ بأنَّه مُكرَهٌ عليها؛ لأنَّه لا يَقدِرُ على تَركِها، فالإكراهُ لا يُنافي العِلمَ والقَصدَ، فلا يُنافي دُخولَ فِعلِه تَحتَ اقتِدارِه واختيارِه، فلَم يَسقُطِ التَّكليفُ) [788] ((قواطع الأدلة)) (1/ 117- 118). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (وقد دَلَّ القُرآنُ على أنَّ مَن أُكرِهَ على التَّكلُّمِ بكلمةِ الكُفرِ، لا يَكفُرُ، ومَن أُكرِهَ على الإسلامِ لا يَصيرُ به مُسلِمًا، ودَلَّتِ السُّنَّةُ على أنَّ اللَّهَ سُبحانَه تَجاوَزَ عنِ المُكرَهِ فلَم يُؤاخِذْه بما أُكرِهَ عليه، وهذا يُرادُ به كلامُه قَطعًا، وأمَّا أفعالُه ففيها تَفصيلٌ، فما أُبيحَ مِنها بالإكراهِ فهو مُتَجاوَزٌ عنه، كالأكلِ في نَهارِ رَمَضانَ، والعَمَلِ في الصَّلاةِ، ولُبسِ المَخيطِ في الإحرامِ، ونَحوِ ذلك.
وما لا يُباحُ بالإكراهِ فهو مُؤاخَذٌ به، كقَتلِ المَعصومِ وإتلافِ مالِه، وما اختُلِف فيه، كشُربِ الخَمرِ، والزِّنا والسَّرِقةِ، هل يُحَدُّ به أو لا؟ فالاختِلافُ هل يُباحُ ذلك بالإكراهِ أو لا؟ فمَن لَم يُبِحْه حَدَّه به، ومَن أباحَه بالإكراهِ لَم يَحُدَّه، وفيه قَولانِ للعُلَماءِ، وهما رِوايَتانِ عنِ الإمامِ أحمَد.
والفرقُ بينَ الأقوالِ والأفعالِ في الإكراهِ: أنَّ الأفعالَ إذا وقَعَت لَم تَرتَفِعْ مَفسَدَتُها، بَل مَفسَدَتُها مَعَها، بخِلافِ الأقوالِ؛ فإنَّها يُمكِنُ إلغاؤُها وجَعلُها بمَنزِلةِ أقوالِ النَّائِم والمَجنونِ، فمَفسَدةُ الفِعلِ الذي لا يُباحُ بالإكراهِ، ثابتةٌ بخِلافِ مَفسَدةِ القَولِ؛ فإنَّها إنَّما تَثبُتُ إذا كان قائِلُه عالِمًا به مُختارًا لَه) [789] ((زاد المعاد)) (5/291- 292). ويُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/372- 274)، ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 45)، ((معالم أصول الفقه)) للجيزاني (ص: 350). .
وقَولُ الجُمهورِ: إنَّ المُكرَهَ مُكلَّفٌ، وإنَّ الإكراهَ لا يَمنَعُ التَّكليفَ، لا يَعني مُؤاخَذَتَه على كُلِّ ما أُكرِهَ عليه. فالحُكمُ الفِقهيُّ لِما يَفعَلُه المُكرَهُ فيه تَفصيلٌ، وبيانُه فيما يَلي:
1- الإكراهُ بحَقٍّ على بيعِ مالِه لسَدادِ الغُرَماءِ ونَحوِ ذلك، فهذا يَنفَذُ ويَصِحُّ.
2- الإكراهُ بغيرِ حَقٍّ، وهذا يَختَلفُ حُكمُه باختِلافِ المُكرَهِ عليه، فهو إمَّا أن يَكونَ قَولًا أو فِعلًا.
فأمَّا الأقوالُ فهي أنواعٌ؛ مِنها:
1- العُقودُ الماليَّةُ، كالبيعِ والإجارةِ ونَحوِ ذلك، وهذه لا تَصِحُّ ولا تَنعَقِدُ عِندَ الجُمهورِ [790] وذَهَبَ الحَنَفيَّةُ إلى أنَّها فاسِدةٌ لا باطِلةٌ، ويُمكِنُ تَصحيحُها برِضا العاقِدَينِ بَعدَ ارتِفاعِ التَّهديدِ والإكراهِ. يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (5/ 182). قال ابنُ تَيميَّةَ: (وإذا أُكرِهَ على العُقودِ، كالبيعِ والنِّكاحِ والطَّلاقِ والظِّهارِ والإيلاءِ والعِتقِ ونَحوِ ذلك، فمَذهَبُ الجُمهورِ كمالِكٍ والشَّافِعيِّ وأحمَدَ، أنَّ كُلَّ قَولٍ أُكرِهَ عليه بغيرِ حَقٍّ فهو باطِلٌ، فلا يَقَعُ به طَلاقٌ ولا عتاقٌ، ولا يَلزَمُه نَذرٌ ولا يَمينٌ ولا غيرُ ذلك، وأمَّا أبو حَنيفةَ فيُفرِّقُ بينَ ما يَقبَلُ الفسخَ عِندَه ويَثبُتُ فيه الخيارُ، كالبيعِ ونَحوِه، فلا يَلزَمُ مَعَ الإكراهِ، وما ليس كذلك، كالنِّكاحِ والطَّلاقِ والعتاقِ، فيَلزَمُ مَعَ الإكراهِ. وأمَّا المُكرَهُ بحَقٍّ، كالحَربيِّ على الإسلامِ، فهذا يَلزَمُه ما أُكرِهَ عليه باتِّفاقِ العُلَماءِ). ((مجموع الفتاوى)) (8/ 504). .
2- العِتقُ والنِّكاحُ والطَّلاقُ، وهي عُقودٌ لا تَقبَلُ الفَسخَ، وهذه لا تَقَعُ مَعَ الإكراهِ عِندَ الجُمهورِ [791] وعِندَ الحَنَفيَّةِ تَقَعُ؛ لأنَّها تَقَعُ مَعَ الهَزلِ، فمَعَ عَدَمِ الرِّضا كذلك، ولَكِن يَرجِعُ على مَن أكرَهه لضَمانِ ما لَحِقَه مِنَ الخَسارةِ. يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (10/ 4912)، ((المبسوط)) للسرخسي (6/ 176). .
3- الأقوالُ المُحَرَّمةُ، كالنُّطقِ بكَلِمةِ الكُفرِ، وهذه يُعَدُّ الإكراهُ عُذرًا مُسقِطًا لعُقوبَتِها إن نَطَق بها وقَلبُه مُطمَئِنٌّ بالإيمانِ، كما قال تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [النحل: 106] . والنُّطقُ بها رُخصةٌ، فإن صَبَرَ على الأذى وامتَنَعَ أُثيبَ على ذلك، وأمَّا القَذفُ ونَحوُه فالإكراهُ يُسقِطُ عُقوبَتَه والإثمَ المُتَرَتِّبَ عليه [792] ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 90). .
وأمَّا الأفعالُ فهي أنواعٌ؛ مِنها:
1 ـ أفعالُ الكُفرِ، كتَمزيقِ المُصحَفِ والذَّبحِ للصَّنَمِ، ونَحوِ ذلك، وهذه كالنُّطقِ بالكُفرِ يُرَخَّصُ للمُكرَهِ في فِعلِها إن فعَلَها وقَلبُه مُطمَئِنٌّ بالإيمانِ على الصَّحيحِ.
2 ـ قَتلُ المَعصومِ أو جَرحُه أو قَطعُ طَرَفٍ مِن أطرافِه، والإكراهُ لا يُبيحُ ذلك باتِّفاقٍ؛ فالفاعِلُ يَأثَمُ باتِّفاقٍ.
3 ـ الزِّنا: والإكراهُ عليه لا يُبيحُه باتِّفاقٍ، واختَلَفوا في إقامةِ الحَدِّ على المُكرَهِ، والصَّوابُ: أنَّه لا حَدَّ عليه؛ لأنَّ الحُدودَ تُدرَأُ بالشُّبُهاتِ، والإكراهُ شُبهةٌ قَويَّةٌ، وأمَّا المُكرِهُ فلا حَدَّ عليه باتِّفاقٍ [793] ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 91). .
شُروطُ الإكراهِ:
قال ابنُ حَجَرٍ: (شُروطُ الإكراهِ أربَعةٌ:
1- أن يَكونَ فاعِلُه قادِرًا على إيقاعِ ما يُهَدِّدُ به، والمَأمورُ عاجِزًا عنِ الدَّفعِ ولَو بالفِرارِ.
2- أن يَغلبَ على ظَنِّه أنَّه إذا امتَنَعَ أوقَعَ به ذلك.
3- أن يَكونَ ما هَدَّدَ به فَوريًّا، فلَو قال: إن لَم تَفعَلْ كذا ضَربَتُك غَدًا، لا يُعَدُّ مُكرَهًا، ويُستَثنى ما إذا ذَكرَ زَمَنًا قَريبًا جِدًّا، أو جَرَتِ العادةُ بأنَّه لا يُخلِفُ.
4- أن لا يَظهرَ مِنَ المَأمورِ ما يَدُلُّ على اختيارِه) [794] ((فتح الباري)) (12/311). ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (7/ 384)، ((القواعد)) للحصني (2/ 306). .

انظر أيضا: