موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ السَّابعةُ: السُّكرُ


السُّكرُ: غَيبةُ العَقلِ مِن خَمرٍ أو ما يُشبِهُه حَتَّى يَختَلطَ الكلامُ ويَحصُلَ الهَذَيانُ [755] يُنظر: ((أصول الفقه)) للخضري (ص: 113). .
والسَّكرانُ: هو الذي يَخلِطُ في كلامِه، ويَسقُطُ تَمييزُه بينَ الأعيانِ. ولَو كان يُميِّزُ بينَ السَّماءِ والأرضِ، وبينَ الذَّكرِ والأُنثى [756] يُنظر: ((القواعد)) لابن اللحام (ص: 62)، ((التحبير)) للمرداوي (3/1189)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/508). .
وهذا التَّعريفُ قَريبٌ مِن قَولِ الإمامِ أحمَدَ: السَّكرانُ: الذي إذا وُضِعَت ثيابُه في ثيابِ غَيرِه لَم يَعرِفْها، أو إذا وُضِعَ نَعلُه في نِعالِهم لَم يَعرِفْه، وإذا هَذى فأكثَرَ كلامَه، وكان مَعروفًا بغيرِ ذلك [757] يُنظر: ((القواعد)) لابن اللحام (ص: 62). .
واختَلَف العُلَماءُ في السَّكرانِ حالَ سُكرِه: هل هو مُكلَّفٌ أو لا؟ على أقوالٍ:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّ السَّكرانَ غيرُ مُكَلَّفٍ.
وهو مَذهَبُ كثيرٍ مِنَ الأُصوليِّينَ [758] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/ 116)، ((المهمات)) للإسنوي (7/296)، ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (3/ 269)، ((حاشية البجيرمي على شرح المنهج)) (4/ 3)، ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/339). ((أصول الفقه على منهج أهل السنة)) للسعيدان (1/456). ، وحَكاه المازَريُّ عن جُمهورِ المُحَقِّقينَ [759] يُنظر: ((إيضاح المحصول من برهان الأصول)) (ص71). ، وهو قَولُ الباقِلَّانيِّ [760] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (1/ 241). ، وأبي المَعالي الجُوَينيِّ، والغَزاليِّ [761] ((البرهان في أصول الفقه)) لأبي المعالي الجويني (1/ 16)، ((المستصفى)) للغزالي (ص: 68)، ، وابنِ قُدامةَ [762] ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/ 156). .
وذلك لأنَّ السَّكرانَ في حالةِ سُكرِه لا يَفهَمُ الخِطابَ؛ فهو زائِلُ العَقلِ كالمَجنونِ، والصَّبيِّ غيرِ المُميِّزِ. فلَو طُلِبَ مِنه امتِثالُ ما يَقتَضيه الخِطابُ -وهو في حالَتِه تلك-: لَكان ذلك تَكليفًا بما لا يُطاقُ؛ حيثُ وُجِّهَ إليه خِطابٌ وهو لا يَفهَمُ المَقصودَ مِنه، وطُلبَ مِنه امتِثالُه، وهذا مُحالٌ [763] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/ 116). ويُنظر أيضًا: ((أصول الفقه على منهج أهل السنة)) للسعيدان (1/457-461). .
القَولُ الثَّاني: أنَّ السَّكرانَ مُكلَّفٌ.
وهو مَذهَبُ عامَّةِ الحَنَفيَّةِ [764] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (10/ 4930- 4931)، ((المبسوط)) للسرخسي (24/34)، ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 189)، ((الكافي)) للسغناقي (5/2354)، ((التوضيح)) لصدر الشريعة (2/391)، ((سلم الوصول)) للمطيعي (1/318). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ [765] يُنظر: ((تحرير الفتاوى)) للعراقي (2/ 775)، ((البيان)) للعمراني (10/ 69)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (2/ 408). ويُنظر: ((حاشية البجيرمي على شرح المنهج)) (4/ 3). ، ونصَّ عليه الشَّافِعيُّ [766] يُنظر: ((الأم)) (5/ 235، و6/ 5). ، وذهب إليه بعضُ الحناِبلةِ، كأبي يَعلى [767] يُنظر: ((المسائل الفقهية)) لأبي يعلى (2/ 157). ، ولأحمَدَ نصوصٌ في تكليفِه [768] يُنظر: ((القواعد)) لابن اللحام (ص: 60). .
قال السَّمعانيُّ: (أفعالُ السَّكرانِ وأقوالُه داخِلةٌ تَحتَ التَّكليفِ في قَولِ عامَّةِ الفُقَهاءِ) [769] ((قواطع الأدلة)) (1/ 116). .
قالوا: إنَّ السُّكرَ يَمنَعُ استِعمالَ العَقلِ لفَترةٍ مِنَ الزَّمَنِ، ثُمَّ بَعدَها يَعودُ العَقلُ سَليمًا مُفكِّرًا، فيَلزَمُه جَميعُ التَّكاليفِ الشَّرعيَّةِ. إنَّما الذي وقَعَ للسَّكرانِ حالَ السُّكرِ هو انعِدامُ القَصدِ [770] يُنظر: ((عوارض الأهلية)) للجبوري (ص: 357). .
وقال ابنُ قُدامةَ: (وأمَّا السُّكرُ ومَن شَرِبَ مُحرَّمًا يُزيلُ عَقلَه وقتًا دونَ وقتٍ، فلا يُؤَثِّرُ في إسقاطِ التَّكليفِ، وعليه قَضاءُ ما فاتَه في حالِ زَوالِ عَقلِه. لا نَعلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّه إذا وجَبَ عليه القَضاءُ بالنَّومِ المُباحِ، فبالسُّكرِ المُحَرَّمِ أَولى) [771] ((المغني)) (2/52). .
فلَم يَجعَلوا السُّكرَ مُسقِطًا للتَّكليفِ ولا مُضيِّعًا للحُقوقِ ولا مُخَفِّفًا لمِقدارِ الجَرائِمِ التي تَصدُرُ مِنَ السَّكرانِ؛ لأنَّه جَريمةٌ، والجَريمةُ لا يَصحُّ أن يَستَفيدَ مِنها صاحِبُها [772] يُنظر: ((أصول الفقه)) للخضري (ص: 114). .
القَولُ الثَّالثُ: التَّفرِقةُ بينَ السَّكرانِ بطَريقٍ غيرِ مَحظورٍ، وما كان بطَريقٍ مَحظورٍ
فما كان بطَريقٍ غيرِ مَحظورٍ، كسُكرِ المُضطَرِّ إلى شُربِ الخَمرِ، والسُّكرِ الحاصِلِ مِنَ الأدويةِ، فهذا حُكمُه مُماثِلٌ للإغماءِ؛ لا يَصِحُّ مَعَه تَصَرُّفٌ ولا طَلاقٌ ولا عتاقٌ.
وما كان طَريقُه مُحَرَّمًا فهذا لا يُبطِلُ التَّكليفَ، فتَلزَمُ السَّكرانَ الأحكامُ، وتَصِحُّ عِبارَتُه مِنَ الطَّلاقِ والعتاقِ والبيعِ والإقرارِ، وتَزويجِ الصِّغارِ، والتَّزَوُّجِ، والإقراضِ والاستِقراضِ؛ وذلك لأنَّ العَقلَ قائِمٌ، وإنَّما عَرَضَ فواتُ فَهمِ الخِطابِ بمَعصيةٍ، فيبقى التَّكليفُ مُتَوجِّهًا في حَقِّ الإثمِ، ووُجوبِ القَضاءِ للعِباداتِ التي تُقضى شَرعًا، وهذا اختيارُ بَعضِ الحَنَفيَّةِ، كالخَبَّازيِّ [773] يُنظر: ((المغني)) (ص: 389). ، وابنِ عابِدينَ [774] يُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (3/ 239). ، والزَّيلَعيِّ [775] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) (5/ 3). ، وبعضِ الشَّافِعيَّةِ، كالشِّيرازيِّ [776] يُنظر: ((المهذب)) (3/ 3). ، وبعضِ الحنابِلةِ كالحجَّاويِّ [777] يُنظر: ((الإقناع)) (4/ 301). .
وإذا وصَلَ الإنسانُ إلى حالٍ لا يَعقِلُ فيها شيئًا ولا يَعرِفُ طَريقَه، ولا يَعرِفُ أشياءَه الخاصَّةَ، فهو غيرُ مُكَلَّفٍ وقتَئِذٍ. ولا يَلزَمُ مِن ذلك أن يُعذَرَ في أقوالِه وأفعالِه المُتَعَلِّقةِ بحُقوقِ الآدَميِّينَ، بَل يُؤاخَذُ عليها، ويُعاقَبُ عُقوبةَ الصَّاحي، وهذا إذا كان سُكرُه باختيارِه وتَناوُلِه للمُسكِرِ. وأمَّا إذا لَم يَبلُغْ به السُّكرُ هذا المَبلَغَ، فيَكونُ مُكلَّفًا بأقوالِه وأفعالِه؛ لأنَّه يَعقِلُ الخِطابَ ويَفهَمُه، فصَحَّ خِطابُه. ولأنَّ كثيرًا مِمَّنِ اعتادوا شُربَ الخَمرِ مِنَ الكُفَّارِ والفُسَّاقِ لا تَذهَبُ عُقولُهم ولا يَفقِدونَ التَّمييزَ، فهم يَقومونَ بأعمالِهمُ التِّجاريَّةِ والصِّناعيَّةِ، ويَعقِدونَ الصَّفقاتِ وهم على هذه الحالِ [778] يُنظر: ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 87). .
وقيل: إنَّه تُعتَبَرُ أفعالُه دونَ أقوالِه، فتَبطُلُ تَصَرُّفاتُه القَوليَّةُ، وأمَّا فِعلُه فيَلزَمُه. وهو رِوايةٌ عنِ الإمامِ أحمَدَ [779] يُنظر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/507). .
وقيل: إنَّه مُكَلَّفٌ فيما هو عليه دونَ ما هو لَه تَغليظًا عليه. وهذا القَولُ نَقله الإسنويُّ في التَّمهيدِ وجهًا عِندَ الشَّافِعيَّةِ [780] يُنظر: ((التمهيد في تخريج الفروع على الأصول)) (ص113). .

انظر أيضا: