موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ السَّادِسةُ: عَدَمُ البُلوغِ


عَدَمُ البُلوغِ مانِعٌ مِن مَوانِعِ التَّكليفِ [742] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/ 154)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/ 180)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (1/ 37). .
ومِنَ الأدِلَّةِ على ذلك:
1- قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((رُفِعَ القَلَمُ عن ثَلاثٍ: ... وعنِ الصَّغيرِ حَتَّى يَكبَرَ)) [743] أخرجه النسائي (3432) واللفظ له، وابن ماجه (2041)، وأحمد (24694).  وأخرجه أبو داود (4398) بلفظ: (وعن المبتلَى حتى يبرَأَ) بدَلَ المجنون، ورواه الحاكم (2350)، والبيهقي (11453) بلفظ: (وعن المعتوهِ حتَّى يُفيقَ) من حديث عائشة رَضِيَ اللهُ عنها. صحَّحه الحاكم وقال: على شرط مسلم، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (3/392)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (3432). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
قَولُه: ((رُفِع القَلَمُ)) مَعناه امتِناعُ التَّكليفِ لا أنَّه رُفِعَ بَعدَ وَضعِه [744] يُنظر: ((المجموع)) للنووي (6/ 253). .
2- الإجماعُ: ومِمَّن نَقَلَ ذلك: النَّوويُّ [745] قال النَّوويُّ: (اتَّفقوا على أنَّ الصَّبيَّ لا تَكليفَ عليه، ولا يَأثَمُ بفِعلِ شيءٍ، ولا بتَركِ شيءٍ، لَكِن يَجِبُ على وليِّه أداءُ الزَّكاةِ ونَفقةُ القَريبِ مِن مالِه، وكذا غَرامةُ إتلافِه ونَحوُه). ((المجموع)) (3/6). .
3- أنَّ الصَّبيَّ سَواءٌ كان مُميِّزًا أو غيرَ مُميِّزٍ [746]اختَلَفتِ التَّقديراتُ التي تَضبِطُ سِنَّ التَّمييزِ، وأغلَبُها يَدورُ حَولَ سِنِّ سَبعِ سِنينَ، وعَلَّلوا ذلك بأن قالوا: لأنَّه حينَئِذٍ يَستَنجي وحدَه، ويَأكُلُ وحدَه ويَشرَبُ، ولقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((إذا بَلَغَ الغُلامُ سَبعَ سِنينَ أُمِرَ بالصَّلاةِ)). أخرجه أبو داود (494)، والترمذي (407)، وأحمد (15339) واللفظ له من حديثِ سَبرةَ بنِ مَعبدٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الترمذي، وابن خزيمة في ((الصحيح)) (2/196)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (948)، والنووي في ((المجموع)) (3/10)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (494)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (15339)، والأمر لا يكون إلا بعد القدرة على الطهارة. يُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (3/566). ويُنظر أيضًا: ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (2/239)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (1/390)، ((منح الجليل)) لعليش (1/190). وبَعضُ الفُقَهاءِ يُرجِعُ صِفةَ التَّمييزِ إلى ضَوابطَ عَقليَّةٍ غيرِ مُرتَبطةٍ بعُمرٍ مُحَدَّدٍ، فقيلَ: المُميِّزُ هو الذي يَفهَمُ الخِطابَ ويَرُدُّ الجَوابَ، ولا يَنضَبطُ بسِنٍّ، بَل يَختَلفُ باختِلافِ الأفهامِ. يُنظر: ((القواعد)) لابن اللحام (ص: 34)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/225)، ((بغية المقتصد)) للوائلي (10/6127)، ((تيسير علم أصول الفقه)) للجديع (ص: 87). لا فَهمَ لَه ولا قَصدَ، والمُميِّزُ مَعَ كونِه يَفهَمُ لَكِنَّ فهمَه لَم يَكمُلْ فيما يَتَعَلَّقُ بالقَصدِ إلى الامتِثالِ قَصدًا صَحيحًا [747] يُنظر: ((التلخيص)) للجويني (1/ 138)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/431) و(14/115)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/499- 500). .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (قَد تُسقِطُ الشَّريعةُ التَّكليفَ عَمَّن لَم تَكمُلْ فيه أداةُ العِلمِ والقُدرةِ تَخفيفًا عنه، وضَبطًا لمَناطِ التَّكليفِ، وإن كان تَكليفُه مُمكِنًا، كما رُفِعَ القَلَمُ عنِ الصَّبيِّ حَتَّى يَحتَلمَ وإن كان لَه فهمٌ وتَمييزٌ، لَكِنَّ ذاك لأنَّه لَم يَتِمَّ فَهمُه، ولأنَّ العَقلَ يَظهَرُ في النَّاسِ شيئًا فشيئًا، وهم يَختَلفونَ فيه، فلَمَّا كانتِ الحِكمةُ خَفيَّةً ومُنتَشِرةً قُيِّدَت بالبُلوغِ) [748] ((مجموع الفتاوى)) (10/345). ويُنظر: ((أصول الفقه على منهج أهل السنة)) للسعيدان (1/399). .
تَكليفُ الصَّبيِّ المُميِّزِ:
أمَّا الصَّبيُّ المُميِّزُ فليس بمُكلَّفٍ، وهو قَولُ الجُمهورِ [749] يُنظر: ((القواعد)) لابن اللحام (ص: 34)، ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 36). ونسبه ابن اللحام إلى الأكثر. يُنظر: ((المختصر في أصول الفقه)) (ص: 69). ؛ وذلك لأنَّ الدَّليلَ قَد ورَدَ برَفعِ التَّكليفِ قَبلَ البُلوغِ، ومِن ذلك حَديثُ: ((رُفِعَ القَلَمُ عن ثَلاثةٍ... )) [750] لَفظُه: عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ: لَقَد عَلِمتُ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((رُفِعَ القَلَمُ عن ثَلاثةٍ: عنِ الصَّبيِّ حَتَّى يَبلُغَ، وعنِ النَّائِمِ حَتَّى يَستيقِظَ، وعنِ المَعتوهِ حَتَّى يَبرَأَ)). أخرجه أبو داود (4402) واللفظ له، وأحمد (1328) بنحوه. صحَّحه ابن حزم في ((المحلى)) (9/206)، والنووي في ((المجموع)) (6/253)، والسخاوي في ((الأجوبة المرضية)) (2/767)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4402)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4402). ، وأحاديثُ: النَّهيُ عن قَتلِ الصِّبيانِ حَتَّى يَبلُغوا كما ثَبَتَ عنه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في وصاياه لأُمَرائِه عِندَ غَزوِهم للكُفَّارِ [751] لَفظُه: عن بُرَيدةَ بنِ الحُصَيبِ الأسلَميِّ قال: ((كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أمَّر أميرًا على جيشٍ أو سَرِيَّةٍ، أوصاه في خاصَّتِه بتقوى اللهِ، ومَن معه مِن المُسلِمينَ خَيرًا، ثمَّ قال: اغزُوا باسمِ اللهِ في سبيلِ اللهِ، قاتِلوا مَن كَفَر باللهِ، اغزُوا ولا تَغُلُّوا، ولا تَغدِروا، ولا تَمْثُلوا، ولا تَقتُلوا وليدًا...)). أخرجه مسلم (1731). والنَّهيُ عن قَتلِ الصِّبيانِ أخرجه البُخاريُّ (3015)، ومُسلم (1744) مِن حَديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، ولَفظُ البُخاريِّ: (وُجِدَتِ امرَأةٌ مَقتولةٌ في بَعضِ مَغازي رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فنَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن قَتلِ النِّساءِ والصِّبيانِ). ، وأحاديثُ أنَّه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- كان لا يَأذَنُ في القِتالِ إلَّا لمَن بَلَغَ سِنَّ التَّكليفِ [752] لَفظُه: عن نافِعٍ قال: (حَدَّثَني ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَرَضَه يَومَ أُحُدٍ وهو ابنُ أربَعَ عَشرةَ سَنةً فلَم يُجِزْني، ثُمَّ عَرَضَني يَومَ الخَندَقِ وأنا ابنُ خَمسَ عَشرةَ فأجازني). أخرجه البخاري (2664) واللفظ له، ومسلم (1868). .
ولأنَّ المُميِّزَ مَعَ كونِه يَفهَمُ لَكِنَّ فهمَه لَم يَكمُلْ فيما يَتَعَلَّقُ بالقَصدِ إلى الامتِثالِ قَصدًا صَحيحًا، فتَمييزُه تَمييزٌ ناقِصٌ بالنِّسبةِ إلى تَمييزِ المُكلَّفينَ، فجَعَلَ الشَّارِعُ البُلوغَ عَلامةً لظُهورِ العَقلِ، وعِلمًا ظاهرًا على أهليَّتِه للتَّكليفِ، وضابطًا له [753] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/ 186)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (1/ 37)، ((معالم أصول الفقه)) للجيزاني (ص: 346). قال ابنُ قُدامةَ: (فأمَّا الصَّبيُّ المُميِّزُ فتَكليفُه مُمكِنٌ؛ لأنَّه يَفهَمُ ذلك، إلَّا أنَّ الشَّرعَ حَطَّ التَّكليفَ عنه تَخفيفًا؛ لأنَّ العَقلَ خَفِيٌّ، وإنَّما يَظهَرُ فيه على التَّدريجِ؛ إذ لا يُمكِنُ الوُقوفُ بَغتةً على الحَدِّ الذي يُفهَمُ به خِطابٌ). ((روضة الناظر)) (1/155). .
وقيلَ بتَكليفِه؛ لأنَّه يَفهَمُ الخِطابَ؛ ولذلك سُمِّيَ مُميِّزًا، لأنَّه يُميِّزُ الأقوالَ والأفعالَ بَعضَها مِن بَعضٍ، خيرًا وشَرًّا، وجيِّدًا ورَديئًا [754] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/ 186). .

انظر أيضا: