موسوعة أصول الفقه

المسألةُ الرَّابعةُ: انتفاءُ المانِعِ


أوَّلًا: مفهومُ انتفاءِ المانِعِ
المَقصودُ بانتِفاءِ المانِعِ: دَفعُ كُلِّ مانِعٍ يُؤَدِّي إلى عَدَمِ ثُبوتِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ [956] يُنظر: بحث ((انتفاء المانع وأثره في ثبوت الأحكام الفقهية)) لأحمد الرخ - مجلة قطاع الشريعة والقانون بجامعة الأزهر (العدد: 8/ص:669). .
فإذا كان القَتلُ مانِعًا مِنَ الإرثِ، فانتِفاءُ المانِعِ هو انتِفاءُ القَتلِ، والحُكمُ يَتَوقَّفُ وجودُه على وُجودِ السَّبَبِ والشَّرطِ وانتِفاءِ المانِعِ، فإذا تَوافرَ سَبَبُ الإرثِ، كالقَرابةِ أوِ المُصاهَرةِ، وتَوافرَت شُروطُه، كمَوتِ المورِّثِ وحياةِ الوارِثِ بَعدَ مَوتِ المورِّثِ وغيرِهما مِنَ الشُّروطِ، وانتَفى المانِعُ مِنَ القَتلِ والرِّدَّةِ ونَحوِهما؛ ثَبت الحُكمُ، وهو الحَقُّ في الإرثِ.
فإذا وُجِدَتِ الأسبابُ والشُّروطُ وانتَفتِ المَوانِعُ وجَبَ وُقوعُ الحُكمِ لدَلالةِ تلك الأدِلَّةِ على وُقوعِه، وإذا عُدِمَتِ الشُّروطُ أو وُجِدَتِ المَوانِعُ سَقَطَ وُقوعُ الحُكمِ لدَلالةِ تلك الأدِلَّةِ على سُقوطِه، وإن عُدِمَتِ الأسبابُ سَقَطَ وُقوعُ الحُكمِ لعَدَمِ الدَّليلِ على وُقوعِه [957] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (2/67). .
مِثالُ ذلك: الزَّوالُ سَبَبٌ لوُجوبِ الظُّهرِ، والبُلوغُ شَرطٌ فيه، والحيضُ مانِعٌ مِنه؛ فإذا وُجِدَ الزَّوالُ والبُلوغُ وانتَفى الحيضُ وجَبَت صَلاةُ الظُّهرِ، وإن عُدِمَ البُلوغُ أو وُجِد الحيضُ سَقَطَ وُجوبُ صَلاةِ الظُّهرِ، وإن عُدِمَ الزَّوالُ سَقَطَ وُجوبُ الظُّهرِ أيضًا.
مثالٌ آخَرُ: رُؤيةُ الهلالِ سَبَبٌ لوُجوبِ صَومِ شَهرِ رَمَضانَ، والإقامةُ والقُدرةُ شَرطٌ، والحيضُ مانِعٌ؛ فإذا وُجِدَتِ الرُّؤيةُ والإقامةُ والقُدرةُ، وعَدَمُ الحيضِ؛ وجَبَ الصَّومُ، وإذا عُدِمَتِ الإقامةُ بسَفرٍ، وعُدِمَتِ القُدرةُ بمَرَضٍ، أو وُجِد الحَيضُ؛ سَقَطَ وُجوبُ الصَّومِ، وإن عُدِمَتِ الرُّؤيةُ سَقَطَ الوُجوبُ.
مثالٌ آخَرُ: وُجودُ النِّصابِ سَبَبٌ لوُجوبِ الزَّكاةِ، ودَوَرانُ الحَولِ شَرطٌ في وُجوبِها، والدَّينُ مانِعٌ لوُجوبِها، فإذا وُجِدَ النِّصابُ ودَوَرانُ الحَولِ وعَدَمُ الدَّينِ، وجَبَتِ الزَّكاةُ، وإذا عُدِم دَورانُ الحَولِ أو وُجِدَ الدَّينُ، سَقَطَتِ الزَّكاةُ، وكذلك إذا عُدِمَ النِّصابُ [958] يُنظر للأمثلة السابقة: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (2/67، 68). .
ثانيًا: التَّداخُلُ بينَ الشَّرطِ وعَدَمِ المانِعِ
سَبَقَ بيانُ أنَّ الشَّرطَ يَلزَمُ مِن عَدَمِه العَدَمُ، ولا يَلزَمُ مِن وُجودِه وُجودٌ ولا عَدَمٌ لذاتِه، وعليه يَكونُ تَأثيرُ الشَّرطِ في حالةِ العَدَمِ، ولا تَأثيرَ لَه في حالةِ الوُجودِ.
والمانِعُ تَأثيرُه في حالةِ الوُجودِ، ولا تَأثيرَ لَه في حالةِ العَدَمِ، ولمَّا كان تَأثيرُ المانِعِ في حالةِ الوُجودِ بعَدَمِ الحُكمِ أصبَحَ وُجودُ الحُكمِ مُرتَبطًا بعَدَمِ المانِعِ، بحيثُ إذا عُدِم المانِعُ أمكنَ وُجودُ الحُكمِ، وإذا لَم يُعدَمِ المانِعُ لَم يوجَدِ الحُكمُ، وهذا مَعنى الشَّرطِ.
قال القَرافيُّ: (القاعِدةُ أنَّ عَدَمَ المانِعِ يُعتَبَرُ في تَرتيبِ الحُكمِ، ووُجودُ الشَّرطِ أيضًا مُعتَبَرٌ في تَرتيبِ الحُكمِ، مَعَ أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهما لا يَلزَمُه مِنه الحُكمُ؛ فقَد يُعدَمُ الحيضُ ولا تَجِبُ الصَّلاةُ، ويُعدَمُ الدَّينُ ولا تَجِبُ الزَّكاةُ؛ لأجلِ الإغماءِ في الأوَّلِ، وعَدَمِ النِّصابِ في الثَّاني، وكِلاهما يَلزَمُ مِن فَقدِه أنَّه العَدَمُ، ولا يَلزَمُ مِن تَقَرُّرِه وُجودٌ ولا عَدَمٌ، فهما في غايةِ الالتِباسِ؛ ولذلك لَم أجِدْ فقيهًا إلَّا وهو يَقولُ: عَدَمُ المانِعِ شَرطٌ، ولا يُفرِّقُ بينَ عَدَمِ المانِعِ والشَّرطِ البَتَّةَ) [959] ((الفروق)) (1/111). .
فهذا التَّقارُبُ المَذكورُ بينَ عَدَمِ المانِعِ والشَّرطِ أحدَث خِلافًا بينَ الأُصوليِّينَ والفُقَهاءِ في عَدَمِ المانِعِ: هل يُعَدُّ شَرطًا في ثُبوتِ الأحكامِ، أو أنَّ عَدَمَ المانِعِ مُختَلِفٌ عنِ الشَّرطِ، فلا يَكونُ شَرطًا؟
والرَّاجِحُ: أنَّ عَدَمَ المانِعِ ليس شَرطًا، وهو اختيارُ القَرافيِّ [960] يُنظر: ((الفروق)) (1/111)، ((نفائس الأصول)) (4/1852). ، وابنِ السُّبكيِّ [961] يُنظر: ((الإبهاج)) (5/1923). ، وغَيرِهما [962] يُنظر: ((الفوائد السنية)) للبرماوي (1/262)، ((التحبير)) للمرداوي (3/1075). ؛ وذلك لأنَّ القَولَ بهذا يَلزَمُ مِنه مُحالٌ، وما لَزِمَ مِنه مُحالٌ فهو مُحالٌ.
وبيانُ ذلك: أنَّ الشَّكَّ في وُجودِ المانِعِ وعَدَمِه يوجِبُ أن يَتَرَتَّبَ الحُكمُ على سَبَبِه؛ لأنَّ الأصلَ عَدَمُ المانِعِ [963] فإذا شَكَّ هل طَلَّقَ أم لا، فلا شيءَ عليه، أو هل ارتَدَّ أم لا، وَرِثَ، أو قَتَلَ أم لا، عُصِمَ دَمُه. يُنظر: ((نفائس الأصول)) للقرافي (5/2287). ، والشَّكُّ في وُجودِ الشَّرطِ وعَدَمِه يَلزَمُ مِنه عَدَمُ تَرَتُّبِ الحُكمِ على سَبَبِه؛ لأنَّ الأصلَ عَدَمُ الشَّرطِ، فلَو كان عَدَمُ المانِعِ شَرطًا، لَزِمَ مِنَ الشَّكِّ في المانِعِ الشَّكُّ في الشَّرطِ، ويَلزَمُ أن يَثبُتَ الحُكمُ، وألَّا يَثبُتَ؛ فالقَتلُ مانِعٌ مِنَ الإرثِ، فلَو شَكَّ في وُجودِه فالأصلُ عَدَمُه فيَثبُتُ الإرثُ ولَو قُلْنا عَدَمُ المانِعِ شَرطٌ في الحُكمِ فلَو شَكَّ في القَتلِ فقَد شَكَّ في شَرطِ الحُكمِ، والشَّكُّ في الشَّرطِ لا يُثبِتُ الحُكمَ؛ لأنَّ الأصلَ عَدَمُ الشَّرطِ، فلا يَثبُتُ الحُكمُ وهو الإرثُ؛ للشَّكِّ في الشَّرطِ، فيَلزَمُ أن يَثبُتَ الحُكمُ وألَّا يَثبُتَ، فلا يَصِحُّ لإفضائِه إلى المُحالِ، فلا يُجعَلُ عَدَمُ المانِعِ شَرطًا إلَّا بدَليلٍ مُنفصِلٍ [964] يُنظر: ((نفائس الأصول)) للقرافي (4/1852)، ((ترتيب الفروق)) للبقوري (1/108)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (5/1923)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (1/262)، ((التحبير)) للمرداوي (3/1075). .
والفرقُ بينَهما -على تَقديرِ التَّغايُرِ- أنَّ الشَّرطَ لا بُدَّ أن يَكونَ وصفًا وُجوديًّا، وأمَّا عَدَمُ المانِعِ فعَدَميٌّ.
ويَظهَرُ أثَرُ ذلك في أنَّ عَدَمَ المانِعِ يُكتَفى فيه بالأصلِ، والشَّرطُ لا بُدَّ مِن تَحَقُّقِه، فإذا شَكَّ في شيءٍ يَرجِعُ لهذا الأصلِ؛ ولذلك عُدَّت الطَّهارةُ شَرطًا؛ لأنَّ الشَّكَّ فيها مَعَ تيَقُّنِ ضِدِّها المُستَصحِبِ يَمنَعُ انعِقادَ الصَّلاةِ [965] يُنظر: ((الفوائد السنية)) للبرماوي (1/262)، ((التحبير)) للمرداوي (3/1075). .

انظر أيضا: