موسوعة أصول الفقه

المسألةُ الثَّانيةُ: الفَسادُ


أوَّلًا: تعريفُ الفَسادِ
1- تعريفُ الفَسادِ لُغةً:
الفسادُ: خُروجُ الشَّيءِ عنِ الاعتِدالِ، قَليلًا كان ذلك أو كثيرًا، ويُستَعمَلُ ذلك في النَّفسِ والبَدَنِ، والأشياءِ الخارِجةِ عنِ الاستِقامةِ. والمَفسَدةُ: خِلافُ المَصلَحةِ، والفسادُ ضِدُّ الصَّلاحِ [1051] يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (2/519)، ((المفردات)) للراغب (ص:636)، ((مختار الصحاح)) للرازي (ص:239). .
2- تعريفُ الفَسادِ اصطِلاحًا:
الفسادُ يُقابلُ الصِّحَّةَ على رَأيِ الفُقَهاءِ والمُتَكلِّمينَ؛ فكُلُّ ما جَرى هناك مِن خِلافٍ فإنَّه يَجري هنا [1052] يُنظر: ((تحرير محل النزاع)) لفاديغا موسى (2/601). ويُنظر أيضًا: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/ 444)، ((تقريب الوصول)) لابن جزي (ص:172)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (1/409). .
فمَن قال: الصِّحَّةُ: وُقوعُ الفِعلِ كافيًا في سُقوطِ القَضاءِ، قال: إنَّ الفسادَ: هو وُقوعُ الفِعلِ غيرَ كافٍ في سُقوطِ القَضاءِ. ومَن قال: الصِّحَّةُ: موافَقةُ الأمرِ، قال: الفسادُ: مُخالَفةُ الأمرِ، فعلى هذا لَو صَلَّى المُتَطَهِّرُ ظَنًّا مِنه أنَّه مُحدِثٌ، وجَبَ القَضاءُ على القَولَينِ، لَكِنْ عِندَ المُتَكلِّمينَ لكونِها باطِلةً بالمُخالَفةِ، وعِندَ الفُقَهاءِ لفواتِ الشَّرطِ، وهو العِلمُ بوُجودِ الطَّهارةِ.
وشَبيهٌ بهذا ما لَوِ اشتَبَهَتِ القِبلةُ على أحَدٍ، فصَلَّى إلى جِهةٍ بغيرِ اجتِهادٍ، فوافقَ جِهةَ القِبلةِ الصَّحيحةَ، فهو مُخالِفٌ بتَركِ الاجتِهادِ، فتَكونُ باطِلةً على رَأيِ المُتَكلِّمينَ، وتَصِحُّ عِندَ بَعضِ الفُقَهاءِ؛ لوُقوعِها بشُروطِها، فتَكفي في سُقوطِ القَضاءِ [1053] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/ 444). .
ثانيًا: الفرقُ بينَ الفسادِ والبُطلانِ
لَم يُفرِّقْ جُمهورُ الأُصوليِّينَ بينَ الفاسِدِ والباطِلِ، بَل اعتَبَروهما مُتَرادِفينِ ومَعناهما واحِدٌ، على وَفقِ ما سَبَقَ بيانُه في تَعريفِ الفاسِدِ. وهو الرَّاجِحُ [1054] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص:76)، ((التحقيق والبيان)) للأبياري (1/804)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/183)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/445). .
وفرَّقَ الحَنَفيَّةُ بينَ الباطِلِ والفاسِدِ؛ فالباطِلُ عِندَهم ما كان غيرَ مَشروعٍ لا بأصلِه ولا بوصفِه، بينَما الفاسِدُ ما كان مَشروعًا بأصلِه غيرَ مَشروعٍ بوَصفِه [1055] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/272)، ((فصول البدائع)) للفناري (1/232). .
وعَبَّر بَعضُهم عنِ الفاسِدِ بأنَّه ما كان مَشروعًا في نَفسِه، فائِتَ المَعنى مِن وَجهٍ؛ لمُلازَمةِ ما ليس بمَشروعٍ إيَّاه، مَعَ تَصَوُّرِ الانفِصالِ في الجُملةِ، بأن يَنفصِلَ ما ليس بمَشروعٍ عنِ العَقدِ، فيَصِحُّ العَقدُ. وأمَّا الباطِلُ فهو ما كان فائِتَ المَعنى مِن كُلِّ وجهٍ، مَعَ وُجودِ صورةِ العَقدِ؛ إمَّا لانعِدامِ مَحَلِّ التَّصَرُّفِ، كبَيعِ المَيتةِ والدَّمِ، أو لانعِدامِ أهليَّةِ المُتَصَرِّفِ، كبَيعِ المَجنونِ والصَّبيِّ الذي لا يَعقِلُ [1056] يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص:39). .
فالفاسِدُ عِندَهم: كبَيعِ الدِّرهَمِ بالدِّرهَمينِ؛ فإنَّه مَشروعٌ مِن حيثُ إنَّه بَيعٌ مَنهيٌّ عنه؛ لأجلِ الزِّيادةِ، فلَوِ اتَّفَقا على إسقاطِها صَحَّ البَيعُ. والباطِلُ عِندَهم: كبيعِ الملاقيحِ والمَضامينِ [1057] المَضامينُ: ما في بُطونِ الإناثِ. والمَلاقيحُ‏:‏ ما في أصلابِ الفُحولِ‏. وقيل العَكسُ، المَضامينُ‏:‏ ما في أصلابِ الفُحولِ، والمَلاقيحُ‏:‏ ما في بُطونِ الإناثِ. يُنظر: ((فقه المعاملات المالية)) للدرر السنية (1/211). -أي: بَيعِ الأجِنَّةِ في بُطونِ البَهائِمِ، وبيعِ الأصلابِ في بُطونِ الذُّكورِ- وإنَّما بَطَلَ ذلك؛ لعَدَمِ اليَقينِ بوُجودِ المَبيعِ الذي هو رُكنٌ مِن أركانِ البَيعِ، وعَدَمِ القُدرةِ على تَسليمِه [1058] يُنظر: ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (1/396)، ((فصول البدائع)) للفناري (1/232). .
والرَّاجِحُ -كما تَقَدَّمَ- هو عَدَمُ التَّفرِقةِ بينَ الباطِلِ والفاسِدِ اصطِلاحًا؛ لأنَّ مُقتَضى التَّفرِقةِ بينَهما أن يَكونَ الفاسِدُ هو المَوجودَ على نَوعٍ مِنَ الخَلَلِ، والباطِلُ هو الذي لا تَثبُتُ حَقيقَتُه بوجهٍ، وقد قال اللهُ تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22] ؛ فسَمَّى السَّماواتِ والأرضَ فاسِدةً على فرضِ وُجودِ شَريكٍ، وهذا يَقتَضي أنَّ العالَمَ يَستَحيلُ وُجودُه لحُصولِ التَّمانُعِ لا أنَّه يَكونُ مَوجودًا على نَوعٍ مِنَ الخَلَلِ؛ فقَد سَمَّى اللَّهُ تعالى الذي لا تَثبُتُ حَقيقَتُه بوَجهٍ فاسِدًا، وهو خِلافُ ما قالوه في الفَرقِ بينَ الباطِلِ والفاسِدِ، وإن كان مَأخَذُهم في التَّفريقِ مُجَرَّدَ اصطِلاحٍ، وهم مُطالَبونَ بمُستَنَدٍ شَرعيٍّ يَقتَضي اختِلافَ الحُكمِ المُرَتَّبِ عليهما [1059] يُنظر: ((تحقيق المراد)) للعلائي (ص:73). .
ومِن أجلِ ذلك وقَعَ تَفريقُ الجُمهورِ بينَ الباطِلِ والفاسِدِ في بَعضِ أبوابِ الفِقهِ [1060] منها بابُ الكِتابةِ والنِّكاحِ والحَجِّ وغَيرِها. يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (2/82)، ((التمهيد)) للإسنوي (ص:59)، ((المنثور)) للزركشي (3/15)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (1/440). قال الزَّركشيُّ الشَّافِعيُّ: (اعلَمْ أنَّ أصحابَنا فرَّقوا بينَ الفاسِدِ والباطِلِ في مَواضِعَ: أوَّلُها وثانيها: الخُلعُ والكِتابةُ؛ فالباطِلُ مِنهما ما كان على غيرِ عِوَضٍ مَقصودٍ، كالمَيتةِ، أو رَجَعَ إلى خَلَلٍ في العاقِدِ، كالصِّغَرِ والسَّفَهِ، والفاسِدُ خِلافُه... وثالثُها: الحَجُّ يَبطُلُ بالرِّدَّةِ ويَفسُدُ بالجِماعِ. وحُكمُ الباطِلِ: أنَّه لا يَجِبُ قَضاؤُه ولا يَمضي، بخِلافِ الفاسِدِ. هذا حُكمُ ما يَطرَأُ، وأمَّا الفاسِدُ ابتِداءً فيُتَصَوَّرُ فيما إذا أحرَمَ بالعُمرةِ ثُمَّ جامَعَ، ثُمَّ أدخَلَ عليها الحَجَّ، فالأصَحُّ أنَّه يَنعَقِدُ فاسِدًا... ورابعُها: العاريَّةُ...). ((البحر المحيط)) (2/ 26). وقال ابنُ عُثيمين: (والفاسِدُ والباطِلُ بمَعنًى واحِدٍ إلَّا في مَوضِعينِ: الأوَّلُ: في الإحرامِ؛ فرَّقوا بينَهما بأنَّ الفاسِدَ ما وَطِئَ فيه المُحرِمُ قَبلَ التَّحَلُّلِ الأوَّلِ، والباطِلُ: ما ارتَدَّ فيه عنِ الإسلامِ. الثَّاني: في النِّكاحِ؛ فرَّقوا بينَهما بأنَّ الفاسِدَ ما اختَلَف العُلَماءُ في فسادِه، كالنِّكاحِ بلا وَليٍّ، والباطِلُ: ما أجمَعوا على بُطلانِه، كنِكاحِ المُعتَدَّةِ). ((الأصول من علم الأصول)) (ص: 14). ، وليس هذا نَقضًا لقاعِدَتِهم في عَدَمِ الفَرقِ بينَهما، وإنَّما وقَعَ ذلك لكونِ التَّفريقِ حاصِلًا بمُستَنَدٍ شَرعيٍّ اقتَضى ذلك [1061]  يُنظر: ((القواعد)) لابن اللحام (ص:152). .

انظر أيضا: