موسوعة أصول الفقه

المَسألة الأولى: الصِّحَّةُ


أوَّلًا: تعريفُ الصِّحَّةِ
1- تعريفُ الصِّحَّةِ لُغةً
أصلُ هذه المادَّةِ يَدُلُّ على البَراءةِ مِنَ المَرَضِ والعَيبِ، وعلى الاستِواءِ؛ فالصِّحَّةُ في البَدَنِ: ضِدُّ السَّقَمِ وذَهابِ المَرَضِ، وهي حالةٌ طَبيعيَّةٌ تَجري أفعالُه مَعَها على المَجرى الطَّبيعيِّ، والصِّحَّةُ: البَراءةُ مِنَ العيبِ، ويُقالُ: صَحَّتِ الصَّلاةُ: إذا أسقَطَتِ القَضاءَ، وصَحَّ العَقدُ: إذا تَرَتَّبَ عليه أثَرُه، وصَحَّ القَولُ: إذا طابَقَ الواقِعَ، وصَحَّ الشَّيءُ يَصِحُّ، فهو صَحيحٌ [1008] يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (1/381)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/281)، ((مختار الصحاح)) للرازي (ص:173)، ((المصباح المنير)) للفيومي (1/333). .
2- تعريفُ الصِّحَّةِ اصطِلاحًا
عَرَّف الأُصوليُّونَ الصِّحَّةَ بتَعريفاتٍ مُتَعَدِّدةٍ يَجمَعُها مَسلَكانِ:
- مَسلَكٌ عامٌّ يَجمَعُ بينَ صِحَّةِ العِبادةِ والمُعامَلةِ في تَعريفٍ واحِدٍ.
- مَسلَكٌ خاصٌّ يَجعَلُ لصِحَّةِ العِبادةِ تَعريفًا، ولصِحَّةِ المُعامَلةِ تَعريفًا آخَرَ [1009] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (1/130)، ((مختصر ابن الحاجب)) ضمن ((بيان المختصر)) (1/407)، ((تحرير محل النزاع في مسائل الحكم الشرعي)) لفاديغا (2/593). .
تَعريفُ الصِّحَّةِ اصطِلاحًا بناءً على المَسلَكِ العامِّ:
مِن أصَحِّ ما عُرِّفت به الصِّحَّةُ أنَّها: موافَقةُ الفِعلِ ذي الوَجهَينِ لأمرِ الشَّرعِ [1010] يُنظر: ((جمع الجوامع)) للسبكي ضمن شرحه ((تشنيف المسامع للزركشي)) (1/178)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (1/264)، ((التحبير)) للمرداوي (3/1086). .
وقيلَ هي: تَرَتُّبُ المَقصودِ مِنَ الفِعلِ عليه [1011] يُنظر: ((التحرير)) لابن الهمام ضمن ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (2/234). ويُنظر: ((الشامل)) لعبدالكريم النملة (1/336-337). .
شَرحُ التَّعريفِ المُختارِ وبيانُ مُحتَرَزاتِه:
جُملةُ "ذي الوَجهَينِ": تَعني ما يُمكِنُ وُقوعُه تارةً مُستَكمِلًا أركانَه وشُروطَه، بحيثُ يَتَرَتَّبُ عليه حُكمُه، وتارةً مُختَلًّا فيه شيءٌ مِن ذلك، فلا يَتَرَتَّبُ عليه حُكمُه، وذلك كالبيعِ والصَّلاةِ والصَّومِ؛ فإنَّها تَقَعُ أحيانًا ويَتَرَتَّبُ عليها أحكامُها، وتارةً تَقَعُ مُختَلَّةً لا يَتَرَتَّبُ عليها حُكمُها، وهذا القيدُ احتِرازٌ عَمَّا لا يَقَعُ إلَّا على جِهةٍ واحِدةٍ، كرَدِّ الوديعةِ، فإمَّا أن تُرَدَّ الوديعةُ أو لا، فلا يوصَفُ ذلك بالصِّحَّةِ وعَدَمِها [1012] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (1/178)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (1/264). .
تَعريفُ الصِّحَّةِ اصطِلاحًا بناءً على المَسلَكِ الخاصِّ:
رَأى أصحابُ هذا المَسلَكِ أنَّ الصِّحَّةَ تُطلقُ على العِباداتِ تارةً، وعلى المُعامَلاتِ تارةً أُخرى، فأفرَدوا كُلَّ واحِدٍ مِنهما بحَدٍّ.
فعَرَّف المُتَكلِّمونَ صِحَّةَ العِبادةِ بأنَّها موافَقةُ أمرِ الشَّرعِ في ظَنِّ المُكلَّفِ، فإذا وقَعَتِ العِبادةُ موافِقةً للشَّرعِ فهي صَحيحةٌ، سَواءٌ أسَقَطَتِ القَضاءَ أم لَم تُسقِطْه [1013] يُنظر: ((التحصيل)) لسراج الدين الأرموي (1/178)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/441)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (2/181، 182). .
أمَّا الفُقَهاءُ فيَرَونَ أنَّ الصِّحَّةَ هي ما أسقَطَ القَضاءَ؛ فالعِبادةُ لا توصَفُ بالصِّحَّةِ إلَّا إذا أسقَطَتِ القَضاءَ [1014] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (1/130)، ((الفائق)) لصفي الدين الهندي (1/164)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (1/253). .
فصَلاةُ مَن ظَنَّ أنَّه مُتَطَهِّرٌ صَحيحةٌ في عُرفِ المُتَكلِّمينَ؛ لأنَّها موافِقةٌ للأمرِ المُتَوجَّهِ إليه، والقَضاءُ وجَبَ بأمرٍ مُتَجَدِّدٍ، وغيرُ صَحيحةٍ عِندَ الفُقَهاءِ؛ لأنَّها لا تُسقِطُ القَضاءَ [1015] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (1/112)، ((الإحكام)) للآمدي (1/130)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص:76). .
والنِّزاعُ بينَهما لَفظيٌّ، فالخِلافُ في التَّسميةِ هل تُسَمَّى صَحيحةً أم لا؟؛ لأنَّ الفريقينِ اتَّفقا على جَميعِ الأحكامِ، فاتَّفقا على أنَّ هذا المُصَلِّيَ موافِقٌ لأمرِ اللهِ سُبحانَه وتعالى، مُثابٌ على صَلاتِه، وأنَّه لا يَجِبُ عليه القَضاءُ إذا لَم يَطَّلِعُ على الحَدَثِ، وأنَّه يَجِبُ عليه القَضاءُ إذا اطَّلَعَ، وإنَّما اختَلَفوا في وَضعِ لَفظِ الصِّحَّةِ هل يَضَعونَه لِما وافقَ الأمرَ، سَواءٌ وجَبَ القَضاءُ أم لَم يَجِبْ، أو لِما لا يُمكِنُ أن يَتَعَقَّبَه قَضاءٌ؟ فلَم يَبقَ النِّزاعُ إلَّا في التَّسميةِ [1016] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص:77)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/ 443). ويُنظر أيضا: ((الشامل)) لعبدالكريم النملة (1/338-339). .
قال الطُّوفيُّ: (ومَذهَبُ الفُقَهاءِ أوفَقُ للُّغةِ؛ لأنَّ العَرَبَ إنَّما تُسَمِّي صَحيحًا ما سَلِمَ مِن جَميعِ جِهاتِه، كالآنيةِ التي لا كَسرَ فيها، فهذه الصَّلاةُ ليست سالِمةً مِن كُلِّ جِهةٍ وعلى كُلِّ تَقديرٍ، بَل هي بتَقديرِ الذِّكرِ يَتَبيَّنُ فسادُها، ويَجِبُ قَضاؤُها باتِّفاقٍ) [1017] ((شرح مختصر الروضة)) (1/ 443). .
واتَّفَقوا على تَعريفِ صِحَّةِ المُعامَلةِ بأنَّها ما تَرَتَّب أثَرُها عليها، أي: تَرَتَّبَت أحكامُها المَقصودةُ عليها، كمِلكِ المَبيعِ في البيعِ، ومِلكِ البُضعِ في النِّكاحِ، فإذا أفادَ مَقصودَه فهو صَحيحٌ [1018] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (1/112)، ((الإحكام)) للآمدي (1/131)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/445)، ((الشامل)) لعبدالكريم النملة (1/340). .
ثانيًا: الفرقُ بينَ الصِّحَّةِ والإجزاءِ
لكي يُفرَّقَ بينَ الصِّحَّةِ والإجزاءِ يَحسُنُ أوَّلًا بيانُ مَعنى الإجزاءِ. وقد اختَلَف الأُصوليُّونَ في ذلك؛ فقيلَ: الإجزاءُ: هو الاكتِفاءُ بالفِعلِ في سُقوطِ الأمرِ أوِ التَّعَبُّدِ، أو: هو كَونُ الفِعلِ كافيًا في الخُروجِ عن عُهدةِ التَّكليفِ، وهذا القَولُ مَنسوبٌ للمُتَكلِّمينَ [1019] يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص:137)، ((المحصول)) للرازي (1/113)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (2/657)، ((التحبير)) للمرداوي (3/1092). .
وقيلَ: الإجزاءُ: هو كونُ الفِعلِ كافيًا في سُقوطِ القَضاءِ، وهو تَعريفُ الصِّحَّةِ عِندَ الفُقَهاءِ [1020] يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 138)، ((المحصول)) للرازي (1/113)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (2/660)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (2/69) ((التحبير)) للمرداوي (3/ 1092). .
وحَرَّرَ الآمِديُّ المَقصودَ بالإجزاءِ مُبيِّنًا اتِّفاقَ الكُلِّ على أنَّ الإتيانَ بالمَأمورِ به على الوَجهِ الذي أُمِرَ به يَكونُ مُجزِئًا، بمَعنى: كونِه امتِثالًا للأمرِ، وذلك مِمَّا لا خِلافَ فيه. وإنَّما خالَف القاضي عَبدُ الجَبَّارِ وغيرُه في كونِه مُجزِئًا بالاعتِبارِ الآخَرِ، وهو أنَّه لا يُسقِطُ القَضاءَ ولا يَمتَنِعُ مَعَ فِعلِه مِنَ الأمرِ بالقَضاءِ [1021] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/175). .
ومِن خِلالِ التَّعريفينِ السَّابقَينِ يُلاحَظُ أنَّ الإجزاءَ شَديدُ الالتِباسِ بالصِّحَّةِ؛ فإنَّ الصَّلاةَ الصَّحيحةَ مُجزِئةٌ، وقَولُهم في تَعريفِ الإجزاءِ: هو الكافي في الخُروجِ عنِ العُهدةِ، هو مَعنى قَولِهم في الصِّحَّةِ: هي موافَقةُ الأمرِ، وقَولُهم في الإجزاءِ: ما أسقَطَ القَضاءَ هو مَذهَبُ الفُقَهاءِ في الصِّحَّةِ [1022] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص:77). .
والفرقُ بينَ الصِّحَّةِ والإجزاءِ مُتَحَقِّقٌ في عِدَّةِ أُمورٍ:
1- أنَّ مَورِدَ الصِّحَّةِ أعَمُّ مِن مَورِد الإجزاءِ؛ فالصِّحَّةُ مَورِدُها العِباداتُ والمُعامَلاتُ، ومَورِدُ الإجزاءِ العِباداتُ فقَط، فيُقالُ: عِبادةٌ مُجزِئةٌ وغيرُ مُجزِئةٍ، بَل ذَهَبَ بَعضُ الأُصوليِّينَ إلى اختِصاصِه بالواجِبِ [1023] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص:78)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (1/184). ، ولا توصَفُ العُقودُ بالإجزاءِ عِندَ الجَميعِ [1024] يُنظر: ((نهاية السول)) للإسنوي (ص:29)، ((التحبير)) للمرداوي (3/1092). .
2- أنَّ مَعنى الإجزاءِ عَدَميٌّ، ومَعنى الصِّحَّةِ وُجوديٌّ؛ وذلك لأنَّ العِبادةَ المَأتيَّ بها على وَجهِ الشَّرعِ لازِمُها وصفانِ: وُجوديٌّ: وهو موافَقةُ الشَّرعِ، وهذا هو الصِّحَّةُ، والآخَرُ عَدَميٌّ، وهو سُقوطُ التَّعَبُّدِ به، أو سُقوطُ القَضاءِ، على الخِلافِ فيه، وهذا هو الإجزاءُ [1025] يُنظر: ((الفوائد السنية)) للبرماوي (1/269)، ((التحبير)) للمرداوي (3/1093). .
3- أنَّ الإجزاءَ مُرَتَّبٌ على الصِّحَّةِ؛ فالإجزاءُ حينَئِذٍ كونُ الفِعلِ على وجهٍ يُسقِطُ التَّعَبُّدَ، لا نَفسُ السُّقوطِ ولا الإسقاطِ [1026] يُنظر: ((الفوائد السنية)) للبرماوي (1/269)، ((التحبير)) للمرداوي (3/1093). .
ثالثًا: هل الصِّحَّةُ والقَبولُ مُتَلازِمانِ؟
هل يَلزَمُ مِن نَفيِ القَبولِ نَفيُ الصِّحَّةِ؟ هل الصِّحَّةُ والقَبولُ مُتَلازِمانِ، فإذا ثَبَتَ أحَدُهما ثَبَتَ الآخَرُ، وإذا انتَفى أحَدُهما انتَفى الآخَرُ؟
لَقَد ورَدَ في النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ نَفيُ القَبولِ في مَسائِلَ وانتَفت فيها الصِّحَّةُ، ووردَ في مَسائِلَ ولَم تَنتَفِ فيها الصِّحَّةُ.
فمثالُ الأوَّلِ: قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ [آل عمران: 91] ، وقَولُ اللهِ سُبحانَه: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ [التوبة: 54] ، وقَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَقبَلُ اللهُ صَلاةَ أحَدِكُم إذا أحدَثَ حَتَّى يَتَوضَّأَ)) [1027] أخرجه البخاري (6954) واللفظ له، ومسلم (225) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ؛ ففي هذه النُّصوصِ انتَفى القَبولُ ولَزِمَ مِنه انتِفاءُ الصِّحَّةِ، فدَلَّ على تَلازُمِهما وأنَّ نَفيَ القَبولِ يَلزَمُ مِنه نَفيُ الصِّحَّةِ.
ومثالُ الثَّاني: قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن أتى عَرَّافًا فسَألَه عن شيءٍ لَم تُقبَلْ لَه صَلاةٌ أربَعينَ ليلةً)) [1028] أخرجه مسلم (2230) من حديثِ بعضِ أزواجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. ، وقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا أبِقَ العَبدُ لَم تُقبَلْ لَه صَلاةٌ حَتَّى يَرجِعَ إلى مَواليه)) [1029] أخرجه النسائي (4049) واللفظ له، وابن خزيمة (941)، وأبو عوانة في ((المسند)) (941). صحَّحه ابن خزيمة، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (4049). والحديث أخرجه مسلم (70) دونَ قَولِه: "حَتَّى يَرجِعَ إلى مَواليه" مِن حَديثِ جَريرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه، وفي رِوايةٍ: ((أيُّما عَبدٍ أبِقَ مِن مَواليه فقَد كفرَ حَتَّى يَرجِعَ إليهم)). ، فهذه الأحاديثُ وغيرُها انتَفى فيها القَبولُ ولَم تَنتَفِ الصِّحَّةُ؛ فالعَبدُ الآبِقُ ومَن أتى عَرَّافًا، لا يُطالَبُ بإعادةِ الصَّلاةِ التي صَلَّاها [1030] يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (1/433)، ((المفهم)) للقرطبي (5/636)، ((شرح مسلم)) للنووي (2/58). .
فالاستِعمالُ السَّابقُ أورَثَ خِلافًا بينَ الأُصوليِّينَ في العَلاقةِ بينَ الصِّحَّةِ والقَبولِ، وحاصِلُ خِلافِهم قَولانِ:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّ الصِّحَّةَ والقَبولَ مُتَلازِمانِ، فإذا ثَبَتَ أحَدُهما ثَبت الآخَرُ، وإذا انتَفى أحَدُهما انتَفى الآخَرُ، وهو اختيارُ ابنِ عَقيلٍ [1031] يُنظر: ((الواضح)) (3/245). ، والعَلائيِّ [1032] يُنظر: ((تحقيق المراد)) (ص: 114). ويُنظر أيضًا: ((غاية الوصول)) لزكريا الأنصاري (1/72)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (2/639)، ((التحبير)) للمرداوي (3/1101). .
القَولُ الثَّاني: أنَّ الصِّحَّةَ تَنفَكُّ عنِ القَبولِ؛ فالصِّحَّةُ أعَمُّ، والقَبولُ أخُصُّ، فكُلُّ مَقبولٍ صَحيحٌ، وليس كُلُّ صَحيحٍ مَقبولًا، وهو اختيارُ القَرافيِّ [1033] يُنظر: ((الفروق)) (2/51). ويُنظر: ((غاية الوصول)) لزكريا الأنصاري (1/72)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (2/639)، ((التحبير)) للمرداوي (3/1101)، ((فيض القدير)) للمناوي (6/415). ، والكَوْرانيِّ [1034] يُنظر: ((الدرر اللوامع)) (2/246). ، واستحسَنَه النَّوويُّ [1035] يُنظر: ((شرح مسلم)) (2/58). .
وكُلُّ واحِدٍ مِن أصحابِ الرَّأيينِ يُعَضِّدُ رَأيَه بالاستِعمالِ السَّابقِ؛ فالقائِلُ بالتَّلازُمِ يُعَضِّدُ رَأيَه بالنُّصوصِ التي ورَدَت بنَفيِ القَبولِ ولَزِمَ عنه نَفيُ الصِّحَّةِ، والقائِلُ بالانفِكاكِ وعَدَمِ التَّلازُمِ بينَ الصِّحَّةِ والقَبولِ يَستَدِلُّ بالنُّصوصِ التي ورَدَ فيها نَفيُ القَبولِ، ولَم تَنتَفِ الصِّحَّةُ، بَل بَرِئَتِ الذِّمَّةُ مِنَ العَمَلِ وإن لَم يُقبَلْ [1036]  يُنظر: ((الفروق)) (2/51). .
والنَّاظِرُ في هذه المَسألةِ يَلحَظُ أنَّ سَبَبَ الخِلافِ أمرانِ:
الأوَّلُ: وُرودُ القَبولِ مُلازِمًا للصِّحَّةِ في مَواضِعَ، ومُنفكًّا عنها في مَواضِعَ أُخرى.
الثَّاني: الخِلافُ في تَفسيرِ القَبولِ؛ فمَن فسَّرَ القَبولَ بتَرَتُّبِ الغَرَضِ المَطلوبِ مِنَ الشَّيءِ على الشَّيءِ، كالعَلائيِّ، جَعَلَ القَبولَ والصِّحَّةَ مُتَلازِمَينِ [1037] يُنظر: ((تحقيق المراد)) للعلائي (ص: 114). ويُنظر أيضًا: ((إحكام الأحكام)) لابن دقيق (1/63). .
ومَن فسَّرَ القَبولَ بتَرَتُّبِ الثَّوابِ على العَمَلِ، كالقَرافيِّ والكُورانيِّ، جَعَلوا الصِّحَّةَ أعَمَّ مِنَ القَبولِ؛ فقَد توجَدُ بدونِ القَبولِ، فلا يَلزَمُ حينَئِذٍ مَن نَفيِ القَبولِ نَفيُ الصِّحَّةِ، ويَظهَرُ حينَئِذٍ أثَرُ عَدَمِ القَبولِ في سُقوطِ الثَّوابِ، وأثَرُ الصِّحَّةِ في سُقوطِ القَضاءِ [1038] يُنظر: ((نفائس الأصول)) للقرافي (1/329)، ((الدرر اللوامع)) للكوراني (2/246). ويُنظر أيضًا: ((شرح مسلم)) للنووي (2/58)، ((إحكام الأحكام)) لابن دقيق (1/63). .
قال القَرافيُّ: (وأمَّا الثَّوابُ عليه فالمُحَقِّقونَ على عَدَمِ لُزومِه، وأنَّ اللَّهَ تعالى قَد يُبرِئُ الذِّمَّةَ بالفِعلِ ولا يُثيبُ عليه في بَعضِ الصُّورِ، وهذا هو مَعنى القَبولِ) [1039] ((الفروق)) (2/ 51). .
وقال الزَّركَشيُّ: (الصِّحَّةُ لا تَستَلزِمُ الثَّوابَ، بَل يَكونُ الفِعلُ صَحيحًا ولا ثَوابَ فيه؛ ولهذا قال الشَّافِعيُّ: الرِّدَّةُ بَعدَ الحَجِّ تُحبِطُ الثَّوابَ، ولا تَجِبُ الإعادةُ، ومِنه الصَّلاةُ في الدَّارِ المَغصوبةِ) [1040] ((البحر المحيط)) (2/21). ثُمَّ قال الزَّركشيُّ: (وكذا صَومُ المُغتابِ عِندَ القَفَّالِ والماوَرديِّ، وحَكاه الإمامُ في بابِ الاعتِكافِ عنِ الصّيدَلانيِّ، ثُمَّ قال: وليس الكلامُ في الأجرِ والفضيلةِ مِن شَأنِ الفُقَهاءِ، والثَّوابُ غَيبٌ لا نَطَّلعُ عليه، وإن ورد خَبَرٌ في أنَّ الغِيبةَ تُحبِطُ الأجرَ فهو تَهديدٌ مُؤَوَّلٌ، وقد يَرِدُ مِثلُه في التَّرغيبِ، قُلتُ: وكذا قال الصَّيمَريُّ في شَرحِ الكِفايةِ في الصَّلاةِ في الدَّارِ المَغصوبةِ: تَصِحُّ، وأمَّا الثَّوابُ فإلى اللهِ). ((البحر المحيط)) (2/21). .
وقال البِرْماويُّ: (قَد يَصِحُّ الفِعلُ ولا ثَوابَ فيه، كما هو الصَّحيحُ عِندَنا في الصَّلاةِ في المَغصوبِ) [1041] ((الفوائد السنية)) (3/297). .
وممَّا يدُلُّ على ذلك:
1- قَولُ اللهِ تعالى حِكايةً عنِ ابنِ آدَمَ الذي قَرَّبَ قُربانًا فتَقَبَّلَ اللهُ مِنه ولَم يَتَقَبَّلْ مِن أخيه: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27] .
حيثُ دَلَّتِ الآيةُ على أنَّ سَبَبَ انتِفاءِ القَبولِ هو انتِفاءُ التَّقوى، مَعَ أنَّ قُربانَه كان على وَفقِ الأمرِ، ويَدُلُّ عليه أنَّ أخاه عَلَّل عَدَمَ القَبولِ بعَدَمِ التَّقوى، ولَو أنَّ الفِعلَ مُختَلٌّ في نَفسِه لَقال لَه: إنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ العَمَلَ الصَّحيحَ الصَّالِحَ؛ لأنَّ هذا هو السَّبَبُ القَريبُ لعَدَمِ القَبوِلِ؛ فحيثُ عَدَلَ عنه دَلَّ ذلك على أنَّ الفِعلَ كان صَحيحًا مُجزِئًا، وإنَّما انتَفى القَبولُ لأجلِ انتِفاءِ التَّقوى؛ فدَلَّ ذلك على أنَّ العَمَلَ المُجزِئَ قَد لا يُقبَلُ وإن بَرِئَتِ الذِّمَّةُ به، وصَحَّ في نَفسِه [1042] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (2/51). .
2- قَولُ اللهِ سُبحانَه: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 127] .
فسُؤالُهما القَبولَ في فِعلِهما مَعَ أنَّهما -صَلَواتُ اللهِ عليهما وسَلامُه- لا يَفعَلانِ إلَّا فِعلًا صَحيحًا، يَدُلُّ على أنَّ القَبولَ غيرُ لازِمٍ مِنَ الفِعلِ الصَّحيحِ؛ ولذلك دَعَوَا به لأنفُسِهما [1043] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (2/52). .
3- قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الأُضحيَّةِ لمَّا ذَبَحَها: ((اللهُمَّ تَقَبَّلْ مِن مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ)) [1044] أخرجه مسلم (1967) من حديثِ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. .
فسَألَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم القَبولَ مَعَ أنَّ فِعلَه في الأُضحيَّةِ كان على وَفقِ الشَّريعةِ؛ فدُلَّ ذلك على أنَّ القَبولَ وراءَ بَراءةِ الذِّمَّةِ والإجزاءِ، وإلَّا لَمَا سَألَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّ سُؤالَ تَحصيلِ الحاصِلِ لا يَجوزُ [1045] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (2/53). .
4- أنَّ صُلَحاءَ الأُمَّةِ وخيارَها لَم يَزالوا يَسألونَ اللَّهَ تعالى القَبولَ في العَمَلِ، ولَو كان ذلك طَلَبًا للصِّحَّةِ والإجزاءِ لَكان هذا الدُّعاءُ إنَّما يَحسُنُ قَبلَ الشُّروعِ في العَمَلِ، فيَسألُ اللهَ تعالى تيسيرَ الأركانِ والشَّرائِطِ وانتِفاءَ المَوانِعِ، أمَّا بَعدَ الجَزمِ بوُقوعِها فلا يَحسُنُ ذلك؛ فدَلَّت هذه الوُجوهُ على أنَّ القَبولَ غيرُ الإجزاءِ وغيرُ الصِّحَّةِ [1046] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (2/53). .
وقال المَرداويُّ: (الثَّوابُ لا يَلزَمُ الصِّحَّةَ؛ فقَد توجَدُ صِحَّةٌ بلا ثَوابٍ، كما قُلْنا في المُصَلِّي في مَغصوبٍ إذا قُلنا بالصِّحَّةِ؛ فإنَّها لا ثَوابَ فيها على الصَّحيحِ ... وقد توجَدُ صِحَّةٌ بثَوابٍ إذا كان مَقبولًا، وأمَّا إذا قُلنا بالصِّحَّةِ التي لا ثَوابَ فيها؛ فإنَّ القَضاءَ يَنتَفي بها، ففائِدةُ الصِّحَّةِ التي لا ثَوابَ فيها عَدَمُ القَضاءِ قَطعًا، وأمَّا حُصولُ ثَوابٍ مَعَ الصِّحَّةِ فإن قارَنَها قَبولٌ حَصَلَ، وإلَّا فلا) [1047] ((التحبير)) (3/1104). .
والقَولانِ مُتَكافِئانِ؛ لأنَّ نَفيَ القَبولِ ورَدَ ولَزِمَ مِنه نَفيُ الصِّحَّةِ، وورَدَ أيضًا ولَم تَنتَفِ الصِّحَّةُ [1048] ((الفوائد السنية)) للبرماوي (3/ 297). ، والقَولُ بأنَّ نَفيَ الصِّحَّةِ عِندَ نَفيِ القَبولِ ثَبَتَ بدَليلٍ خارِجيٍّ هو نَفسُه وارِدٌ على الآخَرينَ بأنَّ ثُبوتَ الصِّحَّةِ عِندَ نَفيِ القَبولِ ثَبَتَ بدَليلٍ خارِجيٍّ، وأحسَنُ ما قيلَ في التَّرجيحِ: قَولُ العِراقيِّ بأن يُنظَرَ فيما نُفيَ فيه القَبولُ، فإن قارَنَته مَعصيةٌ، كإباقِ العَبدِ وإتيانِ العَرَّافِ في الأمثِلةِ السَّابقةِ، فانتِفاءُ القَبولِ يَعني انتِفاءَ الثَّوابِ؛ لأنَّ إثمَ المَعصيةِ أحبَطَه، وإن لَم يُقارِنْه مَعصيةٌ، كنَفيِ قَبولِ صَلاةِ المُحدِثِ حَتَّى يَتَطَهَّرَ، فانتِفاءُ القَبولِ يَلزَمُ مِنه انتِفاءُ الصِّحَّةِ؛ لكَونِه في الحَقيقةِ انتِفاءَ شَرطٍ، وهو الطَّهارةُ، ويَلزَمُ مِن عَدَمِ الشَّرطِ عَدَمُ المَشروطِ، واللَّهُ أعلَمُ [1049] يُنظر: ((الغيث الهامع)) لأبي زرعة العراقي (ص: 265). .
وإلى هذا المَعنى أيضًا أشارَ المُناويُّ؛ حيثُ قال: (ويُميَّزُ بينَ الاستِعمالينِ بالأدِلَّةِ الخارِجيَّةِ) [1050] ((فيض القدير)) (1/ 72). .

انظر أيضا: