موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الثَّانيةُ: أنواعُ التَّقريرِ


1- التَّقريرُ على القَولِ:
مِن أمثِلة الإقرارِ على القَولِ [247] يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (3/ 1593)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/ 62)، ((البدر التمام)) للمغربي (10/ 96)، ((أفعال الرسول وتقريراته)) لأبي عمشة (ص: 132). :
ما ورَدَ عن أُمِّ المُؤمِنينَ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: دَخلَ عليَّ قائِفٌ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شاهدٌ، وأُسامةُ بنُ زَيدٍ وزَيدُ بنُ حارِثةَ مُضطَجِعانِ، فقال: إنَّ هذه الأقدامَ بَعضُها مِن بَعضٍ! فسُرَّ بذلك النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأعجَبَه، فأخبَرَ به عائِشةَ [248] أخرجه البخاري (3731) واللفظ له، ومسلم (1459). .
فما كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليُسَرَّ بالباطِلِ، ولا يُعجِبُه؛ فسُرورُه بقَولِ القائِفِ دَليلٌ على أنَّه حَقٌّ [249] يُنظر: ((أضواء البيان)) لمحمد الأمين الشنقيطي (3/ 695). .
2- التَّقريرُ على الفِعلِ:
الفِعلُ إمَّا أن يَكونَ واقِعًا بَينَ يَدَيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإمَّا أن يَكونَ واقِعًا في زَمانِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والواقِعُ في زَمانِه: إمَّا أن يَكونَ مُشتَهِرًا، وإمَّا أن يَكونَ خَفيًّا.
الحالُ الأولى: الفِعلُ الواقِعُ بَينَ يَدَيه
مِثالُه: عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قَالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَ الأحْزَابِ: ((لا يُصَلِّيَنَّ أحَدٌ العَصْرَ إلَّا في بَنِي قُرَيْظَةَ. فأدْرَكَ بَعْضُهُمُ العَصْرَ في الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا نُصَلِّي حتَّى نَأْتِيَهَا، وقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذلكَ، فَذُكِرَ ذلكَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمْ يُعَنِّفْ واحِدًا منهمْ)) [250] أخرجه البخاري (946). .
الحالُ الثَّانيةُ: الفِعلُ الواقِعُ في زَمانِه وكان مَشهورًا [251] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/561)، ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 590).  
مِثالُه: أنَّ مُعاذَ بنَ جَبَلٍ كان يُصَلِّي مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم العِشاءَ الآخِرةَ، ثُمَّ يَرجِعُ إلى قَومِه، فيُصَلِّي بهم تلك الصَّلاةَ [252] أخرجه البخاري (700)، ومسلم (465) واللفظ له من حديثِ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
وهذا أضعَفُ مِن الأوَّلِ؛ لاحتِمالِ أن يَكونَ لم يَبلُغْه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإن كان الغالِبُ على الظَّنِّ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَعلمُ الأئِمَّةَ الذينَ يُصَلُّونَ في قَبائِلِ المَدينةِ، لا سيَّما وقد ورَدَ في الخَبَرِ: ((أنَّ أعرابيًّا شَكا مُعاذًا إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بسَبَبِ أنَّه يُطَوِّلُ في الصَّلاةِ، فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أفتَّانٌ أنتَ يا مُعاذُ؟!)) [253] أخرجه البخاري (701)، ومسلم (465) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُ مُسلمٍ: عن جابِرٍ قال: ((كان مُعاذٌ يُصَلِّي مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ يَأتي فيَؤُمُّ قَومَه، فصَلَّى ليلةً مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم العِشاءَ ثُمَّ أتى قَومَه فأمَّهم، فافتَتَحَ بسورةِ البَقَرةِ فانحَرَف رَجُلٌ فسَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى وحدَه وانصَرَف، فقالوا له: أنافَقْتَ؟ يا فُلانُ، قال: لا. واللهِ ولآتيَنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلأُخبرَنَّه. فأتى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: يا رَسولَ اللهِ، إنَّا أصحابُ نَواضِحَ نَعَملُ بالنَّهارِ، وإنَّ مُعاذًا صَلَّى مَعَكَ العِشاءَ، ثُمَّ أتى فافتَتَحَ بسورةِ البَقَرةِ فأقبَلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على مُعاذٍ، فقال: يا مُعاذُ، أفتَّانٌ أنتَ؟ اقرَأ بكَذا واقرَأ بكَذا)). .
الحالُ الثَّالثةُ: الفِعلُ الواقِعُ في زَمانِه وكان خَفيًّا
مِثالُه [254] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/362). : جُلوسُ بَعضِ الصَّحابةِ في المَسجِدِ وهم مُجنِبونَ إذا توضَّؤوا [255] لفظه: عن عطاء بن يسار، قال: رأيت رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون؛ إذا توضئوا وضوء الصلاة. أخرجه سعيد بن منصور في ((التفسير من سنن سعيد بن منصور)) (646) بإسناد صحيح. ؛ فإنَّ أمرَ الجنابةِ ممَّا يخفى غالبًا.
وهذا يَقوى فيه احتِمالُ عَدَمِ عِلمِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلذلك كان الصَّحيحُ أنَّ مِثلَ هذا ليسَ بحُجَّةٍ، بخِلافِ الأوَّلينِ [256] يُنظر: ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 591). .
صُوَرُ التَّقريرِ [257] يُنظر: ((أفعال الرسول صلى اللهُ عليه وسلم)) لمحمد الأشقر (2/ 101- 103). ويُنظر أيضًا: ((تشنيف المسامع)) للزركشي) 2/900). :
الصُّورةُ الأولى: السُّكوتُ المُجَرَّدُ عن الرِّضا أو الكَراهةِ، وهو الأصلُ في التَّقريرِ.
الصُّورةُ الثَّانيةُ: أن يَقتَرِنَ بالسُّكوتِ الثَّناءُ على الفِعلِ، ومَدحُ فاعِلِه؛ كقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ الأشعَريِّينَ إذا أرمَلوا في الغَزوِ أو قَلَّ طَعامُ عِيالِهم بالمَدينةِ، جَعَلوا ما كان عِندَهم في ثَوبٍ واحِدٍ، ثُمَّ اقتَسَموه بَينَهم في إناءٍ واحِدٍ بالسَّويَّةِ، فهم مِنِّي وأنا مِنهم)) [258] أخرجه البخاري (2486)، ومسلم (2500) من حديثِ أبي موسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. .
الصُّورةُ الثَّالثةُ: السُّكوتُ المُؤَيِّدُ بمُشارَكةٍ في الفِعلِ، كأكلِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن حَصيلةِ رُقْيةِ ابنِ مَسعودٍ، قال: ((اقسِموا واضرِبوا لي مَعَكُم بسَهمٍ)) [259] أخرجه البخاري (2276)، ومسلم (2201) من حديثِ أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، وليسَ فيهما تَسميةُ الرَّاقي، ولفظُ البخاريِّ: ((انطَلقَ نَفرٌ مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَفرةٍ سافروها، حتَّى نَزَلوا على حَيٍّ مِن أحياءِ العَرَبِ، فاستَضافوهم فأبَوا أن يُضَيِّفوهم، فلُدِغَ سَيِّدُ ذلك الحَيِّ، فسَعَوا له بكُلِّ شَيءٍ، لا يَنفعُه شَيءٌ، فقال بَعضُهم: لو أتَيتُم هَؤُلاءِ الرَّهطَ الذينَ نَزَلوا؛ لعَلَّه أن يَكونَ عِندَ بَعضِهم شَيءٌ، فأتَوهم، فقالوا: يا أيُّها الرَّهطُ، إنَّ سَيِّدَنا لُدِغَ، وسَعَينا له بكُلِّ شَيءٍ، لا يَنفعُه؛ فهَل عِندَ أحَدٍ مِنكُم مِن شَيءٍ؟ فقال بَعضُهم: نَعَم، واللهِ إنِّي لأرقي، ولكِن واللهِ لقدِ استَضَفناكُم فلم تُضَيِّفونا، فما أنا براقٍ لكُم حتَّى تَجعَلوا لنا جُعلًا، فصالحوهم على قَطيعٍ مِنَ الغَنَمِ، فانطَلقَ يَتفِلُ عليه، ويَقرَأُ: (الحَمدُ للهِ رَبِّ العالَمينَ)، فكَأنَّما نُشِطَ مِن عِقالٍ، فانطَلقَ يَمشي وما به قَلَبةٌ، قال: فأوفَوهم جُعْلَهمُ الذي صالحوهم عليه، فقال بَعضُهم: اقسِموا، فقال الذي رَقى: لا تَفعَلوا حتَّى نَأتيَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فنَذكُرَ له الذي كان، فنَنظُرَ ما يَأمُرُنا، فقدِموا على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فذَكَروا له، فقال: وما يُدريكَ أنَّها رُقيةٌ؟ ثُمَّ قال: قد أصَبتُم، اقسِموا، واضرِبوا لي مَعَكُم سَهمًا. فضَحِكَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)). ومِثلُه أن يُفعَلَ الفِعلُ برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيُقِرَّ على ذلك، كتَطييبِ عائِشةَ للنَّبيِّ قُبَيلَ الإحرامِ [260] لفظُه: عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها؛ أنَّها قالت: ((كُنتُ أُطَيِّبُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لإحرامِه قَبلَ أن يُحرِمَ، ولحِلِّه قَبل أن يَطوفَ بالبَيتِ)) أخرجه البخاري (1539)، ومسلم (1189) واللَّفظُ له. وتَرجيلِها له وهو مُعتَكِفٌ [261] لفظُه: عن عائِشةَ قالت: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا اعتَكَف يُدني إليَّ رَأسَه فأُرَجِّلُه، وكان لا يَدخُلُ البَيتَ إلَّا لحاجةِ الإنسانِ)) أخرجه البخاري (2029)، ومسلم (297) واللَّفظُ له. ، فيُعَدُّ هذا إقرارًا مِنه على أنَّ الطِّيبَ للمُحرِمِ تَجوزُ استِدامَتُه ولا يَجوزُ ابتِداؤُه، وأنَّ للمُعتَكِفِ أن يُرَجِّلَ شَعرَه، وهذه الصُّورةُ أعلى دَرَجاتِ التَّقريرِ.
الصُّورةُ الرَّابعةُ: قَولُ الصَّحابيِّ: كانوا يَفعَلونَ كَذا، أو نَقولُ كَذا [262] ذَكَر ابنُ السُّبكيِّ أنَّ لألفاظِه دَرَجاتٍ، وذَكَر أنَّ أعلاها: أن يَقولَ: كُنَّا مَعاشِرَ النَّاسِ، أو كانت النَّاسَ تَفعَلُ ذلك في عَهدِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ قال: (وهذا ما لا يَتَّجِهُ في القَولِ بكَونِه حُجَّةً خِلافٌ؛ لتَصريحِه بنَقلِ الإجماعِ المُعتَضِدِ بتَقريرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((الإبهاج)) (5/ 1953). لأنَّ الظَّاهِرَ اطِّلاعُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على ذلك لتَوفُّرِ دواعيهم على سُؤالِه عن أُمورِ دينِهم، ولأنَّ ذلك الزَّمانَ زَمانُ نُزولِ الوَحيِ، فلا يَقَعُ مِن الصَّحابةِ فِعلُ شَيءٍ ويَستَمِرُّونَ عليه إلَّا وهو غَيرُ مَمنوعِ الفِعل. وقد استَدَلَّ جابِرٌ وأبو سَعيدٍ رَضِيَ اللهُ عنهما على جَوازِ العَزلِ بأنَّه كانوا يَفعَلونَه والقُرآنُ يَنزِلُ [حَديثُ جابرٍ: أخرجه البخاري (5208)، ومسلم (5208) بلفظ: ((كُنَّا نَعزِلُ والقُرآنُ يَنزِلُ)) وحَديثُ أبي سَعيدٍ الخُدريِّ: لفظُه: أصَبنا سَبيًا، فكُنَّا نَعزِلُ، فسَألنا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: أوإنَّكُم لتَفعَلونَ -قالها ثَلاثًا- ما مِن نَسَمةٍ كائِنةٍ إلى يَومِ القيامةِ إلَّا هيَ كائِنةٌ)) أخرجه البخاري (5210) واللَّفظُ له، ومسلم (1438)]، ولو كان مِمَّا يُنهى عنه لنَهى عنه القُرآنُ. يُنظر: ((تيسير الوصول)) لابن إمام الكاملية (4/ 369). أمَّا إذا لم يُصَرِّحِ الصَّحابيُّ بإضافةِ ذلك إلى عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فذَهَبَ أكثَرُ الأُصوليِّينَ إلى أنَّه حُجَّةٌ ومِنهم القاضي أبو يَعلى، وأبو الخَطَّابِ الكَلْوَذانيُّ، والآمِديُّ، والسَّمعانيُّ، والرَّازيُّ. يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/ 998)، ((التمهيد)) للكلوذاني (3/ 184) ((الإحكام في أصول الأحكام)) للآمدي (2/ 99)، ((قواطع الأدلة)) (1/ 389)، ((المحصول)) (4/ 449). ويُنظر أيضًا: ((الردود والنقود)) للبابرتي (1/ 704). قال الرَّازيُّ: (قَولُ الصَّحابيِّ: كُنَّا نَفعَلُ كَذا، فالظَّاهِرُ أنَّه قَصَدَ أن يُعَلِّمَنا بهذا الكَلامِ شَرعًا، ولن يَكونَ كذلك إلَّا وقد كانوا يَفعَلونَه في عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَعَ عِلمِه بذلك، ومَعَ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما كان يُنكِرُ ذلك عليهم، وهذا يَقتَضي كَونَه شَرعًا عامًّا). ((المَحصول)) (4/ 449). وقيل: إنَّه ليسَ بحُجَّةٍ. ومِمَّن ذَهَبَ إلى ذلك: الغَزاليُّ، والطُّوفيُّ، والشَّوكانيُّ. يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 105)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/ 199)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (1/ 165). ، كقَولِ جابرٍ: كُنَّا إذا صَعِدنا كَبَّرْنا، وإذا نَزَلْنا سَبَّحْنا [263] أخرجه البخاري (2993). . قال الشَّوكانيُّ: (ومِمَّا يَندَرِجُ تَحتَ التَّقريرِ إذا قال الصَّحابيُّ: كُنَّا نَفعَلُ كَذا، أو كانوا يَفعَلونَ كَذا) [264] ((إرشاد الفحول)) (1/ 117). ويُنظر: ((أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم)) لمحمد الأشقر (2/ 102)، ((البيان بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم)) لراوية الجزار (ص: 177). .
حُجِّيَّةُ التَّقريرِ:
التَّقريرُ مِن حَيثُ الجُملةُ حُجَّةٌ، وعلى ذلك اتِّفاقُ الأُصوليِّينَ، ومِمَّن نَقَل الاتِّفاقَ على ذلك: الجُوَينيُّ [265] فقد قال: (اتَّفقَ الأُصوليُّونَ على أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا قَرَّرَ إنسانًا على فِعلٍ فتَقريرُه إيَّاه يَدُلُّ على أنَّه غَيرُ مَحظورٍ، ولو كان مَحظورًا لأنكَرَه). ((التلخيص في أصول الفقه)) (2/ 246). ، وابنُ حَجَرٍ [266] فقد قال: (اتَّفَقوا على أنَّ تَقريرَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِما يُفعَلُ بحَضرَتِه أو يُقالُ ويَطَّلِعُ عليه بغَيرِ إنكارٍ: دالٌّ على الجَوازِ؛ لأنَّ العِصمةَ تَنفي عنه ما يَحتَمِلُ في حَقِّ غَيرِه مِمَّا يَتَرَتَّبُ على الإنكارِ، فلا يُقِرُّ على باطِلٍ). ((فتح الباري)) (13/ 323). .
أدِلَّةُ حُجِّيَّةِ التَّقريرِ:
يُستَدَلُّ على حُجِّيَّةِ تَقريرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعِدَّةِ أدِلَّةٍ، مِن أبرَزِها:
1- أنَّه لا يَجوزُ في حَقِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَأخيرُ البَيانِ عن وقتِ الحاجةِ:
إذ سُكوتُه يَدُلُّ على جَوازِ ذلك الفِعلِ أو القَولِ، بخِلافِ سُكوتِ غَيرِه؛ لذلك بوَّب البخاريُّ في صحيحِه بقَولِه: "بابُ مَن رَأى تَركَ النَّكيرِ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حُجَّةً لا مِن غَيرِ الرَّسولِ" [267] صحيح البخاري (9/ 109). يُنظر: ((معالم أصول الفقه عند أهل السنة)) للجيزاني (ص: 129). .
2- عِصمَتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في شَأنِ تَبليغِ الرِّسالةِ وبَيانِ الشَّرعِ:
فإنَّ اللَّهَ سُبحانَه وتعالى أرسَل نَبيَّه بَشيرًا ونَذيرًا يَأمُرُ بالمَعروفِ ويَنهى عن المُنكَرِ، كما هو ثابتٌ بالقُرآنِ الكَريمِ، فلو سَكَتَ عن مُنكَرٍ يُفعَلُ أمامَه مِمَّا يُخالفُ الشَّرعَ لم يَكُنْ ناهيًا عن المُنكَرِ، فعُلمَ أنَّه لا يَسكُتُ إلَّا على حَقٍّ، وأيضًا فإنَّ مِن خَصائِصِه أنَّ وُجوبَ إنكارِ المُنكَرِ لا يَسقُطُ عنه بالخَوفِ على نَفسِه؛ لقَولِه تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] [268] يُنظر: ((الفوائد السنية)) للبرماوي (1/ 372)، ((التحبير)) للمرداوي (3/ 1493). .
3- ما عُلِمَ مِن أحوالِ أصحابِه رَضِيَ اللهُ عنهم:
فقد كانوا يَحتَجُّونَ بتَقريرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الجَوازِ بَينَهم، ولم يُنكِرْ أحَدٌ مِنهم ذلك [269] يُنظر: ((أثر الحديث النبوي الشريف في اختلاف الفقهاء)) للحديثي (ص: 283). ، ومِن الأمثِلةِ: أنَّ مُحَمَّدَ بنَ أبي بَكرٍ الثَّقَفيَّ سَأل أنَسَ بنَ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، وهما غاديانِ مِن مِنًى إلى عَرَفةَ: (كَيف كُنتُم تَصنَعونَ في هذا اليَومِ مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فقال: كان يُهِلُّ مِنَّا المُهِلُّ فلا يُنكَرُ عليه، ويُكَبِّرُ مِنَّا المُكَبِّرُ فلا يُنكَرُ عليه) [270] أخرجه البخاري (1659)، ومسلم (1285). .
هَل الإقرارُ يَعُمُّ أو يَقتَصِرُ على المَقَرِّ له فقَط؟ (تَعديةُ حُكمِ التَّقريرِ لغَيرِ المُقَرَّرِ):
إقرارُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم له حالتانِ:
الحالُ الأولى: أن يُسبَقَ التَّقريرُ على شَيءٍ بتَحريمِه
فهذا مِن بابِ تَعارُضِ القَولِ والتَّقريرِ؛ قال الزَّركَشيُّ: (وقد صَرَّحَ جَمعٌ مِن الأُصوليِّينَ بأنَّ الفِعلَ إذا سَبَقَ تَحريمُه فيَبقى تَقريرُه نَسخًا لذلك الحُكمِ، ولولا أنَّ التَّقريرَ يَتَعَدَّى حُكمُه لكان تَخصيصًا لا نَسخًا، وقد نَصَّ الشَّافِعيُّ على أنَّ تَقريرَ النَّبيِّ عليه السَّلامُ للصَّلاةِ قيامًا خَلفَه وهو جالسٌ ناسِخٌ لأمرِه السَّابقِ بالقُعودِ) [271] ((البحر المحيط)) (6/ 55). .
الحالُ الثَّانيةُ: ألَّا يُسبَقَ التَّقريرُ على شَيءٍ بتَحريمِه
فهذا الإقرارُ يَعُمُّ حُكمُه جَميعَ الأُمَّةِ ولا يَقتَصِرُ على المُقَرِّ له. وهو مَذهَبُ الجُمهورِ [272] قال المازَريُّ: (مَتى سَمِعَ قَولًا أو رَأى فِعلًا فلم يُنكِرْه، دَلَّ ذلك على جَوازِه وإباحَتِه لمَن أقَرَّه عليه؛ إذ لو كان حَرامًا لأنكَرَه، اقتَضى هذا أيضًا إباحَتَه لسائِرِ الأُمَّةِ؛ لأنَّ حُكمَه على الواحِدِ حُكمُه على الجَميعِ. هذا على مَذهَبِ الجُمهورِ، وهو المَعروفُ عِندَ الفُقَهاءِ). ((إيضاح المَحصول)) (ص: 368). ويُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (6/ 55). ، واختارَه الجُوَينيُّ [273] يُنظر: ((البرهان)) للجويني (1/ 187)، ((البحر المحيط)) للزركشي (6/ 55). ، والمازَريُّ [274] يُنظر: ((إيضاح المحصول)) للمازري (ص: 368)، ((البحر المحيط)) للزركشي (6/ 55). ، والزَّركشيُّ [275] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (6/ 55). .
واستَدَلُّوا بما يَلي:
1- أنَّ حُكمَه في الواحِدِ حُكمُه في الكُلِّ، وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّما قَولي لامرَأةٍ واحِدةٍ كقَولي لمِائةِ امرأةٍ)) [276] أخرجه الترمذي (1597)، والنسائي (4181)، وأحمد (27009) واللفظ له. صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (4553)، وابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (5/516)، وابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/527). . والسُّكوتُ عن الإنكارِ في حُكمِ الخِطابِ، والخِطابُ يَعُمُّ [277] يُنظر: ((البرهان)) للجويني (1/ 187)، ((المحصول)) للرازي (3/ 83)، ((البحر المحيط)) للزركشي (6/ 55)، ((أفعال الرسول)) لمحمد الأشقر (2/ 123)، ((أثر الحديث النبوي الشريف في اختلاف الفقهاء)) للحديثي (ص: 284). .
ومِمَّا يُؤَيِّدُ ذلك أنَّ خِطابَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للصَّحابةِ في عَصرِه يَتَعَدَّى إلى سائِرِ المُسلمينَ بَعدَ عَصرِه، فكذلك تَقريرُه. والقاعِدةُ تَقولُ: (استِواءُ الأُمَّةِ في الأحكامِ) [278] يُنظر: ((أفعال الرسول)) لمحمد الأشقر (2/ 134- 135)، ((أثر الحديث النبوي الشريف في اختلاف الفقهاء)) للحديثي (ص: 284). .
2- أنَّ تَقريرَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للفاعِلِ في حُكمِ الخِطابِ له، وقد ثَبَتَ أنَّ خِطابَه للواحِدِ في حُكمِ الخِطابِ للأُمَّةِ؛ فإنَّ ما ثَبَتَ في حَقِّ واحِدٍ ثَبت في حَقِّ الجَميعِ ما لم يُخَصَّ به ذلك الواحِدُ [279] يُنظر: ((البرهان)) لإمام الحرمين (1/187)، ((المحقق)) لأبي شامة (ص: 173)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/570). .
وقيل: إنَّ الحُكمَ يَختَصُّ بالمَقَرِّ له ولا يَتَعَدَّى إلى غَيرِه؛ وذلك لأنَّ التَّقريرَ ليسَ له صيغةٌ لتَعُمَّ جَميعَ المُكَلَّفينَ. وهو مَذهَبُ أبي بَكرٍ الباقِلَّانيِّ [280] يُنظر: ((التلخيص)) للجويني (2/ 247)، ((البحر المحيط)) للزركشي (6/ 55). .
وقيل: إنَّ تَبَيُّنَ مَعنًى في حَقِّ الفاعِلِ مِن وَصفٍ أو حالٍ يَصِحُّ أن يَكونَ عِلَّةً للتَّقريرِ، فإنَّ غَيرَه يلحَقُ به إذا وُجِدَ فيه ذلك المَعنى، وإن لم يَتَبَيَّنْ مَعنًى فلا يُلحَقُ به غَيرُه. وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [281] يُنظر: ((فصول البدائع)) للفناري (2/142)، ((التحرير)) لابن الهمام (ص: 129)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/325)، ((سلم الوصول)) للمطيعي (2/473). ، وبه قال الآمِديُّ [282] يُنظر: ((الإحكام)) (2/405). ، وابنُ الحاجِبِ [283] يُنظر: ((مختصر منتهى السول والأمل)) (2/844)، ((منتهى الوصول والأمل)) (ص: 97). .
قال أميرُ بادشاه: ("إن عُلِّل ذلك" أي: تَخصيصُ الفاعِلِ مِن العامِّ، بمَعنى "تَعَدَّى" ذلك التَّخصيصُ "إلى غَيرِ الفاعِل" إذا تَحَقَّقَ ذلك المَعنى في ذلك الغَيرِ، لكِن بشَرطِ ألَّا يَستَوعِبَ ذلك المَعنى جَميعَ أفرادِ العامِّ، وإلَّا يَكونُ نَسخًا. وإنْ لم يُعَلَّلْ فالمُختارُ عَدَمُ تَعَدِّي حُكمِه إلى غَيرِه؛ لتَعَذُّرِ دَليلِ التَّعديةِ) [284] ((تيسير التحرير)) (1/325). .

انظر أيضا: