موسوعة أصول الفقه

المَبحَثُ الأوَّلُ: أُصولُ الفِقهِ في زَمَنِ الوحيِ


الوحيُ هو مَصدَرُ التَّشريعِ، وقد كانت تَنزِلُ الواقِعةُ بالمُسلمينَ، أو يَعرِضُ السُّؤالُ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيَأتي الوحيُ مُبيِّنًا الحُكمَ في ذلك قُرآنًا أو سُنَّةً. فالتَّشريعُ كان مُعتَمِدًا على نُصوصِ القُرآنِ الكَريمِ، وعَلى سُنَّةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
فكانت نُصوصُ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ في القُرآنِ الكَريمِ والسُّنَّةِ النَّبَويَّةِ هيَ المادَّةَ الرَّئيسةَ للفِقهِ في مَعرِفةِ أحكامِ اللهِ تعالى، وتَشتَمِلُ في جَوهَرِها على الأُسُسِ العامَّةِ، والقَواعِدِ والمَبادِئِ الأُصوليَّةِ التي تَرسُمُ مَنهَجَ اللَّهِ للنَّاسِ [144] يُنظر: ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (1/ 42- 43). .
وقد أشارَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في جَوامِعٍ كَلِمِه إلى عِلمِ أُصولِ الفِقهِ [145] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/ 4). .
وقد سُئِلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ الصَّدَقةِ بالحُمُرِ الأهليَّةِ، فقال: ((لَم يَنزِلْ عليَّ فيها شَيءٌ إلَّا هذه الآيةُ الجامِعةُ الفاذَّةُ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهْ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهْ [الزلزلة: 7- 8] )) [146] أخرجه البخاري (4963) واللفظ له، ومسلم (987) مطوَّلًا باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
فهذا استِدلالٌ مِنَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعُمومِ الكِتابِ على مَسألةٍ جُزئيَّةٍ؛ حَيثُ استَدَلَّ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعُمومِ (مَن) لِما لَم يُذكَرْ له حُكمٌ؛ لأنَّ السَّائِلَ سَألَ عن صَدَقةِ الحُمُرِ، وليس لَها حُكمٌ خاصٌّ، فعَلَّمَنا استِنباطَ الحُكمِ مِنَ العُمومِ فيما ليس له حُكمٌ مَنصوصٌ عليه [147] يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (7/ 67)، ((تفسير النصوص)) للصالح (2/65). .
فالحَديثُ فيه تَحقيقٌ لإثباتِ العَمَلِ بظَواهرِ العُمومِ، وأنَّها مُلزِمةٌ حَتَّى يَدُلَّ دَليلُ التَّخصيصِ، وفيه إشارةٌ إلى الفَرقِ بَينَ الحُكمِ الخاصِّ المَنصوصِ، والعامِّ الظَّاهِرِ، وأنَّ الظَّاهرَ دونَ المَنصوصِ في الدَّلالةِ [148] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (6/77). .
ومثلُه إنكارُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أُبَيِّ بنِ كَعبٍ رَضيَ اللهُ عنه تَأخُّرَه عن إجابةِ نِدائِه لاشتِغالِه بالصَّلاةِ، واستِدلالِه عليه بعُمومِ قَولِ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال 24] [149] أخرجه الترمذي (2875)، وأحمد (9345) مِن حَديثِ أبي هرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، ولَفظُ التِّرمِذيِّ: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَرَجَ على أُبَيِّ بنِ كَعبٍ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا أُبَيُّ، وهو يُصَلِّي، فالتَفتَ أُبَيٌّ ولَم يُجِبْه، وصَلَّى أُبَيٌّ فخَفَّف، ثُمَّ انصَرَف إلى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: السَّلامُ عليك يا رَسولَ اللهِ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وعليك السَّلامُ، ما مَنَعَك يا أُبَيُّ أن تُجيبَني إذ دَعَوتُك؟! فقال: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي كُنتُ في الصَّلاةِ، قال: أفلم تَجِدْ فيما أوحيَ إليَّ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ قال: بَلى، ولا أعودُ إن شاءَ اللهُ...)). صحَّحه الترمذي، وابنُ العربي في ((أحكام القرآن)) (2/389)، والنووي في ((المجموع)) (4/81)، وأحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/50)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2875)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (9345). ، ومِثلُ هذه القِصَّةِ ما حَصَلَ لأبي سَعيدٍ بنِ المُعَلَّى رَضيَ اللهُ عنه [150] يُنظر: ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 6). والقصة أخرجها البخاري (4474) عن أبي سَعيدِ بنِ المُعَلَّى، قال: كُنتُ أُصَلِّي في المَسجِدِ فدَعاني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلَم أُجِبْه، فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي كُنتُ أُصَلِّي. فقال: ألَم يَقُلِ اللهُ: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ [الأنفال: 24]. .
وقد عَلَّل صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الأحكامَ [151] يُنظر: ((طبقات الأصوليين)) لمحمود عبد الرحمن (ص:15 - 19). كَما في حَديثِ كَبشةَ بنتِ كَعبٍ، وكانت تَحتَ ابنِ أبي قتادةَ: ((أنَّ أبا قتادةَ دَخل فسَكَبَت له وَضوءًا، فجاءَت هِرَّةٌ فشَرِبَت، فأصغى لها الإناءَ حتَّى شَرِبَت. قالت كَبشةُ: فرَآني أنظُرُ إليه، قال: أتَعجَبينَ يا ابنةَ أخي؟! قُلتُ: نَعَم، فقال: إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: إنَّها ليسَت بنَجَسٍ؛ إنَّها مِنَ الطَّوَّافينَ عليكُم والطَّوَّافاتِ)) [152] أخرجه أبو داود (75) واللفظ له، والترمذي (92)، والنسائي (68) قال الترمذي: حسنٌ صحيحٌ، وصَحَّحه ابنُ خزيمة في ((الصحيح)) (1/222)، وابن حبان في ((صحيحه)) (1299)، والحاكم في ((المستدرك)) (567) وقال: وهذا الحديثُ ممَّا صحَّحه مالكٌ، وصحَّحه ابنُ عبدِ البر في ((التمهيد)) (1/318)، والنووي في ((المجموع)) (1/117)، وابن حجر في ((المطالب العالية)) (1/59). .
وعَلَّل الاستِئذانَ بالنَّظَرِ [153]  عن سهل بن سعد قال: ((اطَّلَعَ رَجُلٌ مِن جُحْرٍ في حُجَرِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِدْرًى يَحُكُّ به رَأْسَهُ، فَقالَ: لو أعْلَمُ أنَّكَ تَنْظُرُ، لَطَعَنْتُ به في عَيْنِكَ، إنَّما جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِن أجْلِ البَصَرِ)) أخرجه البخاري (6241) واللفظ له، ومسلم (2156) ، وكان يَكفي أن يُؤتى بالحُكمِ مُجَرَّدًا عن أيِّ تَوجيهٍ أو تَعليلٍ، فلمَّا عَلَّل ووجَّهَ وبَيَّنَ الأسبابَ والعِلَلَ، فكَأنَّ ذلك تَنبيهٌ مِنه على الالتِفاتِ إليها.
وراعى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَدَّ الذَّرائِعِ في مَواضِعَ مُتَعَدِّدةٍ، كَما في تَركِه بناءَ الكَعبةِ على قَواعِدِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ [154]  عن عائشةَ زَوجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أَلَم تَرَيْ أنَّ قَومَكِ حِينَ بَنَوا الكَعبَةَ اقتَصَرُوا عن قَواعِدِ إبراهِيمَ؟ قالَت: فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أفَلا تَرُدُّها علَى قَواعِدِ إبراهِيمَ؟ فقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: لَولا حِدثانُ قَومِكِ بالكُفرِ لَفَعَلتُ. فَقالَ عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ: لَئِن كانَت عائِشَةُ سَمِعَت هذا مِن رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، ما أُرَى رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ تَرَكَ استِلامَ الرُّكنَينِ اللَّذَينِ يَلِيانِ الحِجرَ، إلَّا أنَّ البَيتَ لَم يُتَمَّمْ علَى قَواعِدِ إبراهِيمَ)). أخرجه البخاري (1583)، ومسلم (1333) واللفظ له. ،ونَهيِه مُعاذَ بنَ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنه عنِ الإخبارِ بدُخولِ مَن قال لا إلهَ إلَّا اللَّهُ، الجَنَّةَ [155] عن أنسِ بنِ مالكٍ: ((أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومُعاذٌ رَدِيفُهُ علَى الرَّحلِ، قَالَ: يا مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ، قَالَ: لَبَّيكَ يا رَسولَ اللَّهِ وسَعدَيكَ، قَالَ: يا مُعَاذُ، قَالَ: لَبَّيكَ يا رَسولَ اللَّهِ وسَعدَيكَ ثَلَاثًا، قَالَ: ما مِن أحَدٍ يَشهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، صِدقًا مِن قَلبِهِ، إلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ على النَّارِ، قَالَ يا رَسولَ اللَّهِ: أفلا أُخبِرُ به النَّاسَ فَيَستَبشِرُوا؟ قَالَ: إذًا يَتَّكِلُوا. وأَخبَرَ بهَا مُعَاذٌ عِندَ مَوتِهِ تَأَثُّمًا)). أخرجه البخاري (128) واللفظ له، ومسلم (32). .

انظر أيضا: