موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الثَّالثةُ: نَقلُ الحَديثِ بالمَعنى


أجمَعَ العلماءُ على أنَّ الأَولى والأحوطَ أن يُنقَلَ الحَديثُ بلفظِه. ومِمَّن نَقَله: أبو بكرٍ الحازِميُّ [633] قال: (النَّاسُ اختَلفوا في جَوازِ نَقلِ الحَديثِ بالمَعنى مَعَ اتِّفاقِهم على أولويَّةِ نَقلِه لفظًا، والحيطةُ الأخذُ بالمُتَّفَقِ عليه دونَ غَيرِه). ((الاعتبار في الناسخ والمنسوخ)) (ص: 15). .
وذَهَبَ الجمهورُ [634] قال ابنُ قُدامةَ: (تَجوزُ رِوايةُ الحَديثِ بالمَعنى للعالمِ المُفرِّقِ بَينَ المُحتَمَلِ وغَيرِ المُحتَمَلِ، والظَّاهِرِ والأظهَرِ، والعامِّ والأعَمِّ عِندَ الجُمهورِ). ((روضة الناظر)) (1/ 360- 362). وقال المَرداويُّ: (الأربَعةُ والأكثَرُ تَجوزُ رِوايةُ الحَديثِ بالمَعنى للعارِفِ بما يُحيلُ المَعنى، هذا هو الصَّحيحُ الذي عليه الأئِمَّةُ الأربَعةُ وجَماهيرُ العُلَماءِ مُطلقًا، وعليه العَمَلُ). ((التحبير)) (5/ 2080). إلى جَوَازِ رِوايةِ الحَديثِ بالمَعنى ولكِن بشُروطٍ [635] يُنظر: ((الرسالة)) للشافعي (ص: 370)، ((التمهيد)) لابن عبد البر (14/ 240)، ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (2/ 141)، ((الجامع)) للخطيب البغدادي (2/ 34)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/ 360- 362)، ((التحبير)) للمرداوي (5/ 2080)، ((تدريب الراوي)) للسيوطي (1/ 352)، ((الذخر الحرير)) للبعلي (ص: 412)، ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 212). .
قال ابنُ رَجَبٍ: (... رِوايةُ الحَديثِ بالمَعنى جائِزةٌ، وحَكاه أي: التِّرمذيُّ عن أهلِ العِلمِ، وكَلامُه يُشعِرُ بأنَّه إجماعٌ، وليسَ كذلك، بَل هو قَولُ كثيرٍ مِن العُلماءِ. ونَصَّ عليه أحمَدُ وقال: ما زال الحُفَّاظُ يُحَدِّثونَ بالمَعنى، وإنَّما يَجوزُ ذلك لمَن هو عالمٌ بلُغاتِ العَرَبِ بَصيرٌ بالمَعاني، عالمٌ بما يُحيلُ المَعنى وما لا يُحيلُه. نَصَّ على ذلك الشَّافِعيُّ) [636] ((شرح علل الترمذي)) (1/ 427). .
وهذه الشُّروطُ هيَ [637] يُنظر: ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 212). ويُنظر أيضًا: ((الرسالة)) للشافعي (ص: 370- 371)، ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (2/ 141)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/ 360- 362). :
الشَّرطُ الأوَّلُ: أن يَكونَ ناقِلُ الحَديثِ بالمَعنى عالِمًا باللِّسانِ العَرَبيِّ، لا تخفى عليه النُّكَتُ الدَّقيقةُ التي يَحصُلُ بها الفَرقُ الخَفيُّ بَينَ مَعاني الألفاظِ، عارِفًا بالمُحتَمَلِ وغَيرِه، والظَّاهِرِ والأظهَرِ، والعامِّ والأعَمِّ، ونَحوِ ذلك؛ لأنَّ مَن ليسَ كذلك قد يُبَدِّلُ اللَّفظَ بلفظٍ يُساويه في ظَنِّه، وبَينَهما تَفاوُتٌ في المَعنى خافٍ عليه، فيَأتي الخَللُ في حَديثِه مِن ذلك [638] قال السُّيوطيُّ: (أجمَعَ الجَماهيرُ مِن أئِمَّةِ الحَديثِ والفِقهِ أنَّه يُشتَرَطُ فيه أن يَكونَ... عالِمًا بما يُحيلُ المَعنى إن رَوى به). ((تدريب الراوي)) (1/ 352). وقال القُرطُبيُّ: (اختُلِف في جَوازِ نَقلِ الحَديثِ بالمَعنى مِن العالمِ بمَواقِعِ الكَلِمِ وتَركيبِها، على قَولينِ: الجَوازُ، والمَنعُ. وأمَّا مَن لا يَعرِفُ، فلا خِلافَ في تَحريمِ ذلك عليه). ((المفهم)) (1/169). .
الشَّرطُ الثَّاني: أن يَكونَ جازِمًا يَقينًا بمَعنى الحَديثِ، لا أن يَكونَ فهمُه للمَعنى بنَوعِ استِنباطٍ واستِدلالٍ يُختَلفُ فيه، أو بظَنِّ عَدَمِ وُضوحِ الدَّلالةِ، خِلافًا لمَن زَعَمَ الاكتِفاءَ بالظَّنِّ الغالِبِ.
الشَّرطُ الثَّالثُ: ألَّا يَكونَ اللَّفظُ الذي نَقَل به الرَّاوي مَعنى الحَديثِ أخفى مِن لفظِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولا أظهرَ، أمَّا مَنعُ نَقلِه بما هو أخفى مِنه فواضِحٌ، وأمَّا مَنعُه بما هو أظهَرُ مِنه فلأنَّ الشَّارِعَ رُبَّما قَصَدَ إيصالَ الحُكمِ باللَّفظِ الجَليِّ تارةً وبالخَفيِّ أُخرى. والظُّهورُ مِن المُرَجِّحاتِ عِندَ التَّعارُضِ؛ فقد يَتَعارَضُ مَعَ الحَديثِ الذي رَواه الرَّاوي بأظهَرَ مِن مَعناه حَديثٌ آخَرُ، فيُرَجِّحُه المُجتَهِدُ عليه بالظُّهورِ ظانًّا أنَّ اللَّفظَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والواقِعُ أنَّ موجِبَ التَّرجيحِ مِن تَصَرُّفِ الرَّاوي لا مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
الأدِلَّةُ [639] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 134)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/ 360- 362)، ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 212). :
1- الإجماعُ على جَوازِ شَرحِ الشَّرعِ للعَجَمِ بلسانِهم، فإذا جازَ إبدالُ كلمةٍ عَرَبيَّةٍ بأعجَميَّةٍ تُرادِفُها، فبالعَرَبيَّةِ أَولى.
2- كان سُفَراءُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُبَلِّغونَهم أوامِرَه بلُغَتِهم.
3- أنَّ الخُطَبَ والوقائِعَ الواحِدةَ رَواها الصَّحابةُ بألفاظٍ مُختَلفةٍ.
4- القياسُ على الشَّهادةِ، والشَّهادةُ آكَدُ مِن الرِّوايةِ، ولو سَمع الشَّاهدُ شاهدًا يَشهَدُ بالعَجَميَّةِ جازَ أن يَشهَدَ على شَهادَتِه بالعَرَبيَّةِ.
وقيل: بمَنعِ نَقلِ الحَديثِ بالمَعنى مُطلَقًا، فيَجِبُ نَقلُ اللَّفظِ بصورَتِه مِن غَيرِ فَرقٍ بَينَ العارِفِ وغَيرِه. وعُزِي هذا القَولُ إلى بَعضِ أصحابِ الحَديثِ والأُصولِ واللُّغةِ [640] يُنظر: ((البرهان)) للجويني (1/ 252)، ((ميزان الأصول)) للسمرقندي (1/ 440)، ((توجيه النظر)) للجزائري (2/ 676). .

انظر أيضا: