موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الخامِسةُ: بَيانُ الرَّاوي لِما رَواه


أوَّلًا: المُرادُ ببَيانِ الرَّاوي لِما رَواه
أمَّا الرَّاوي فالمُرادُ به هنا: الصَّحابيُّ [655] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 219)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 220)، ((تيسير الوصول)) لابن إمام الكاملية (4/ 46). . وهو مَذهَبُ جُمهورِ الأُصوليِّينَ [656] قال الزَّركَشيُّ: (اعلَمْ أنَّ الجُمهورَ قد فرَضوا المَسألةَ في الرَّاوي الصَّحابيِّ، ومِنهم مَن قال: يَجري في الرَّاوي مُطلقًا، وإن كان تابعيًّا). ((تَشنيف المَسامِع)) (2/ 983). .
وقيل: المُرادُ به الصَّحابةُ وغَيرُهم. وهيَ رِوايةٌ عن أحمَدَ [657] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (5/ 2120). .
والمُرادُ ببَيانِ الرَّاوي لِما رَواه: أن يَرويَ الصَّحابيُّ خَبَرًا مُحتَمِلًا لمَعنَيَينِ أو أكثَرَ، ويَحمِلَه على أحَدِهما [658] يُنظر: ((تحفة المسؤول)) للرهوني (2/ 432)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (2/ 756). .
وقيل: حَملُ الصَّحابيِّ مَرويَّه المُشتَرَكَ لفظًا أو مَعنًى ونَحوَه، كالمُجمَلِ والمُشكِلِ والخَفيِّ، على أحَدِ ما يَحتَمِلُه مِن المُحتَمَلاتِ. ومَعنى الحَملِ، أي: تَأويلُ الصَّحابيِّ لذلك المُجمَلِ [659] يُنظر: ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (2/ 341). .
مِثالُ ذلك: عن ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا تَبايَعَ المُتَبايِعانِ بالبَيعِ، فكُلُّ واحِدٍ مِنهما بالخيارِ مِن بَيعِه، ما لم يَتَفرَّقا، أو يَكونُ بَيعُهما عن خيارٍ، فإذا كان بَيعُهما عن خيارٍ فقد وجَبَ)). قال نافِعٌ: (فكان إذا بايَعَ رَجُلًا فأرادَ ألَّا يُقيلَه، قامَ فمَشى هُنَيَّةً [660] أي شيئًا يسيرًا. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (10/ 175). ، ثُمَّ رَجَعَ إليه) [661] أخرجه البخاري (2107)، ومسلم (1531) واللفظ له. .
فمَشيُ راوي الحَديثِ عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما خُطُواتٍ ليُلزِمَ البَيعَ هو تَفسيرٌ مِنه بالفِعلِ، قال الماوَرديُّ مُعَلِّقًا: (اللَّفظُ إذا ورَدَ وكان يَحتَمِلُ مَعنيَينِ، وكان المُرادُ أحَدَهما بالإجماعِ لا هما مَعًا، ولم يَكُنْ في اللَّفظِ تَمييزُ المُرادِ مِنهما، كان ما صارَ إليه الرَّاوي هو المُرادَ به دونَ الآخَرِ، فلمَّا كان الافتِراقُ يُحتَمَلُ أن يُرادَ به الافتِراقُ بالكَلامِ مَعَ بُعدِه، ويُحتَمَلُ أن يَكونَ المُرادُ به الافتِراقَ بالأبدانِ مَعَ ظُهورِه، وكان ابنُ عُمَرَ، وأبو بَرزةَ -وهما مِن رُواةِ الخَبَرِ- يَذهَبانِ إلى أنَّ المُرادَ به التَّفرُّقُ بالأبدانِ؛ لأنَّ ابنَ عُمَرَ كان إذا أرادَ أن يوجِبَ البَيعَ مَشى قَليلًا ثُمَّ رَجَعَ، وأبو بَرزةَ قال للمُتَبايِعَينِ حينَ باتا ليلةً ثُمَّ غَدَوَا عليه، قال: ما أراكُما تَفرَّقتُما عن رِضًا مِنكُما ببَيعٍ [662] أخرجه أبو داود (3457)، والطيالسي (964)، والبيهقي (10536) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُ أبي داود: عن أبي الوضيءِ، قال: (قال: غَزَونا غَزوةً لنا، فنَزَلنا مَنزِلًا، فباعَ صاحِبٌ لنا فرَسًا بغُلامٍ، ثُمَّ أقاما بَقيَّةَ يَومِهما وليلتِهما، فلمَّا أصبَحا مِنَ الغَدِ حَضَرَ الرَّحيلُ، قامَ إلى فرَسِه يُسرِجُه فنَدِمَ، فأتى الرَّجُل وأخَذَه بالبَيعِ، فأبى الرَّجُلُ أن يَدفعَه إليه، فقال: بَيني وبَينَكَ أبو بَرزةَ صاحِبُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فأتَيا أبا بَرزةَ في ناحيةِ العَسكَرِ، فقالا له هذه القِصَّةَ، فقال: أتَرضَيانِ أن أقضيَ بَينَكُما بقَضاءِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: البَيِّعانِ بالخيارِ ما لم يَتَفرَّقا. قال هشامُ بنُ حَسَّانَ: حَدَّثَ جَميلٌ أنَّه قال: ما أراكُما افتَرَقتُما). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3457)، وصحَّح إسنادَه النووي في ((المجموع)) (9/185)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3457). - اقتَضى أن يَكونَ هو المُرادَ بالخَبَرِ دونَ المَعنى الآخَرِ. وهذه دَلالةُ الشَّافِعيِّ رَضِيَ اللهُ عنه) [663] ((الحاوي الكبير)) (3/ 33). .
ثانيًا: حُكمُ تَقديمِ العَمَلِ ببَيانِ الرَّاوي
إذا قَدَّمَ الصَّحابيُّ تَفسيرًا اجتِهاديًّا للخَبَرِ الذي يَحتَمِلُ عِدَّةَ احتِمالاتٍ، فحَملَه على أحَدِها مِمَّا لم يُجمِعْ عليه الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم، فإنَّه يَجِبُ العَمَلُ به، وهو مُقدَّمٌ على غَيرِه.
وهو مَذهَبُ جَماهيرِ العُلماءِ [664] قال ابنُ مُفلحٍ: (يَجِبُ العَمَلُ بحَملِ الصَّحابيِّ ما رَواه على أحَدِ مَحمَلَيه عِندَنا وعِندَ عامَّةِ العُلماءِ؛ عَمَلًا بالظَّاهِرِ). ((أُصول الفِقه)) (2/ 623). قال أميرُ بادشاه شارِحًا كَلامَ ابنِ الهمامِ: ("حَملُ الصَّحابيِّ مَرويَّه المُشتَرَكَ" اشتِراكًا لفظيًّا أو مَعنَويًّا "ونَحوَه" كالمُجمَلِ والمُشكِلِ والخَفيِّ "على أحَدِ ما يَحتَمِلُه" مِن الاحتِمالاتِ "وهو" أي: حَملُه عليه "تَأويلُه" أي: الصَّحابيِّ لذلك "واجِبُ القَبولِ" عِندَ الجُمهورِ "خِلافًا لمشهوري الحَنَفيَّةِ). ((تيسير التحرير)) (3/ 71). ، ومِنهم الشَّافِعيُّ وجُمهورُ الشَّافِعيَّةِ [665] يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (10/158)، ((العدة)) لابن العطار (2/1111). ، والحَنابِلةُ، ومِنهم الطُّوفيُّ، وابنُ مُفلِحٍ [666] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/ 623)، ((شرح محتصر الروضة)) للطوفي (2/ 200). ، وبَعضُ المالكيَّةِ، ومِنهم المازَريُّ [667] يُنظر: ((إيضاح المحصول)) (ص: 328). ويُنظر: ((الضياء اللامع)) لحلولو (2/ 211). وبَعضُ الحَنَفيَّةِ، ومِنهم ابنُ الهُمامِ [668] يُنظر: ((التحرير)) بشرحه ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (3/ 71)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (2/ 265). ، وابنُ عبدِ الشَّكورِ [669] يُنظر: ((فواتح الرحموت)) (2/ 202). ، وغَيرُهم [670] يُنظر للتوسع: بحث ((بيان الراوي لما رواه)) لأحمد بيومي- مجلة الشريعة والقانون (العدد: 40/ ص: 221- 326). .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّ الظَّاهرَ مِن حالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه لا يَنطِقُ باللَّفظِ المُحتَمِلِ لمَعنَيَينِ أو أكثَرَ لتَعريفِ الأحكامِ وبَيانِ الشَّريعةِ إلَّا وقد ضَمَّ إليه ما بَيَّنَ المَقصودَ مِنه مِن القَرائِنِ الحاليَّةِ أو المَقاليَّةِ، والصَّحابيُّ الرَّاوي الحاضِرُ لمَقالِه الشَّاهدُ لأحوالِه أعرَفُ بذلك مِن غَيرِه، والظَّاهرُ مِن حالِه فَهمُ ذلك واتِّباعُه، وأنَّه لا يَحمِلُ الخَبَرَ على أحَدِ مَحمَلَيه إلَّا وقد عَلمَ مُرادَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقَرينةٍ [671] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (7/ 2960)، ((تحفة المسؤول)) للرهوني (2/ 432)، ((الردود والنقود)) للبابرتي (1/ 735)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (2/341). .
قال الصَّيرَفيُّ: (إنَّما جُعِل تَأويلُ الرَّاوي أَولى؛ لأنَّه قد شاهَدَ مِن الأماراتِ ما لا يَقدِرُ على حِكايَتِه، فيَكونُ تَأويلُه أَولى، فإذا انكَشَف خِلافُه صِرنا إليه) [672] ((البحر المحيط)) للزركشي (6/289). .
2- أنَّ الحَديثَ إن لم يَكُنْ له ظاهِرٌ، وكانت الاحتِمالاتُ فيه مُتَساويةً، فلا حُجَّةَ فيه لإجمالِه، وحينَئِذٍ يَكونُ الرُّجوعُ إلى بَيانِ الرَّاوي؛ لأنَّه أعلَمُ بحالِ المُتَكَلِّمِ [673] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/170). .
وقيل: لا يَجِبُ العَمَلُ بتَفسيرِ الرَّاوي للخَبَرِ. وهو قَولُ الجَصَّاصِ، وبه قال أكثَرُ الحَنَفيَّةِ [674] يُنظر: ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (2/341)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (3/71). .

انظر أيضا: