المَسألةُ السَّادِسةُ: دَلالةُ عَمَلِ السَّلَفِ بالحَديثِ وتَركِهم للعَمَلِ به
كُلُّ حَديثٍ أو دَليلٍ شَرعيٍّ لا يَخلو أن يَكونَ مَعمولًا به في السَّلَفِ المُتَقدِّمينَ دائِمًا أو غالبًا، أو لا يَكونُ مَعمولًا به إلَّا قَليلًا أو في وقتٍ ما، أو لا يَثبُتُ به عَمَلٌ؛ فهذه ثَلاثةُ أقسامٍ، وفيما يَلي بَيانُها:
أوَّلًا: أن يَكونَ الحَديثُ مَعمولًا به دائِمًا أو غالبًاالحَديثُ وكُلُّ دَليلٍ شَرعيٍّ إذا كان مَعمولًا به دائِمًا أو غالبًا فلا إشكالَ في الاستِدلالِ به ولا في العَمَلِ على وَفقِه، وهيَ السُّنَّةُ المُتَّبَعةُ والطَّريقُ المُستَقيمُ، سَواءٌ كان الدَّليلُ مِمَّا يَقتَضي إيجابًا أو نَدبًا أو غَيرَ ذلك مِن الأحكامِ، كفِعلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَعَ قَولِه في الطَّهاراتِ والصَّلواتِ على تَنَوُّعِها مِن فَرضٍ أو نَفلٍ، والزَّكاةِ بشُروطِها، والضَّحايا والعَقيقةِ، والنِّكاحِ والطَّلاقِ، والبُيوعِ وسِواها مِن الأحكامِ التي جاءَت في الشَّريعةِ، وبَيَّنَها عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بقَولِه أو فِعلِه أو إقرارِه، ووقَعَ فِعلُه أو فِعلُ صَحابَتِه مَعَه أو بَعدَه على وَفقِ ذلك دائِمًا أو أكثَريًّا، وبالجُملةِ ساوى القَولُ الفِعلَ ولم يُخالِفْه بوَجهٍ؛ فلا إشكالَ في صِحَّةِ الاستِدلالِ وصِحَّةِ العَمَلِ مِن سائِرِ الأُمَّةِ بذلك على الإطلاقِ
[675] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (3/ 252). .
ثانيًا: ألَّا يَقَعَ العَمَلُ بالحَديثِ إلَّا قَليلًا، ووقَعَ إيثارُ غَيرِه والعَمَلُ به غالبًاإذا لم يَقَعِ العَمَلُ بالحَديثِ أو الدَّليلِ الشَّرعيِّ إلَّا قَليلًا أو في وقتٍ مِن الأوقاتِ أو حالٍ مِن الأحوالِ، ووقَعَ إيثارُ غَيرِه والعَمَلُ به دائِمًا أو غالبًا؛ فذلك الغَيرُ هو السُّنَّةُ المُتَّبَعةُ، وأمَّا ما لم يَقَعِ العَمَلُ عليه إلَّا قَليلًا فيَجِبُ التَّثَبُّتُ فيه وفي العَمَلِ على وَفقِه، والمُثابَرةُ على ما هو الأعَمُّ والأكثَرُ؛ فإنَّ إدامةَ الأوَّلينَ للعَمَلِ على مُخالفةِ هذا الأقَلِّ لا بُدَّ أن يَكونَ لمَعنًى شَرعيٍّ تَحَرَّوا العَمَلَ به، وإذا كان كذلك فقد صارَ العَمَلُ على وَفقِ القَليلِ كالمُعارِضِ للمَعنى الذي تَحَرَّوا العَمَلَ على وَفقِه، وإن لم يَكُنْ مُعارِضًا في الحَقيقةِ فلا بُدَّ مِن تَحَرِّي ما تَحَرَّوا وموافَقةِ ما داوموا عليه.
وأيضًا، فإنْ فُرِضَ أنَّ هذا المَنقولَ الذي قَلَّ العَمَلُ به مَعَ ما كثُرَ العَمَلُ به يَقتَضيانِ التَّخييرَ؛ فعَمَلُهم إذَا حُقِّقَ النَّظرُ فيه لا يَقتَضي مُطلَقَ التَّخييرِ، بَل اقتَضى أنَّ ما داوموا عليه هو الأَولى في الجُملةِ، وإن كان العَمَلُ الواقِعُ على وَفقِ الآخَرِ لا حَرَجَ فيه، كما نَقولُ في المُباحِ مَعَ المَندوبِ: إنَّ وَضعَهما بحَسَبِ فِعلِ المُكَلَّفِ يُشبِهُ المُخَيَّرَ فيه؛ إذ لا حَرَجَ في تَركِ المَندوبِ على الجُملةِ؛ فصارَ المُكَلَّفُ كالمُخَيَّرِ فيهما، لكِنَّه في الحَقيقةِ ليسَ كذلك، بَل المَندوبُ أَولى أن يُعمَلَ به مِن المُباحِ في الجُملةِ؛ فكذلك ما نَحنُ فيه.
ولهذا القِسمِ أمثِلةٌ كثيرةٌ، ولكِنَّها على ضَربَينِ:أحَدُهما: أن يَتَبَيَّنَ فيه للعَمَلِ القَليلِ وَجهٌ يَصلُحُ أن يَكونَ سَبَبًا للقِلَّةِ، حتَّى إذا عُدِم السَّبَبُ عُدِمَ المُسَبَّبُ، وله مَواضِعُ، كوُقوعِه بَيانًا لحُدودٍ حَدَّت، أو أوقاتٍ عُيِّنَت، أو نَحوِ ذلك.
كما جاءَ في حَديثِ إمامةِ جِبريلَ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومَينِ، وبَيانِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَن سَأله عن وقتِ الصَّلاةِ؛ فقال:
((صَلِّ مَعنا هَذَينِ)) يَعني هَذَينَ اليَومَينِ
[676] أخرجه مسلم (613) بلفظ: عن سُليمانَ بنِ بُرَيدةَ، عن أبيه ((عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ رَجُلًا سَأله عن وقتِ الصَّلاةِ، فقال له: صَلِّ مَعنا هَذَينِ، يَعني اليَومَينِ، فلمَّا زالَتِ الشَّمْسُ أمَرَ بلالًا فأذَّنَ، ثم أمَرَه فأقامَ الظُّهْرَ، ثم أمَرَه فأقامَ العَصْرَ والشَّمْسُ مرتفعةٌ بيضاءُ نقيَّةٌ، ثمَّ أَمَرَه فأقامَ المغْرِبَ حين غابَتِ الشَّمْسُ، ثم أمَرَه فأقامَ العِشاءَ حين غاب الشَّفَقُ، ثم أمَرَه فأقامَ الفَجْرَ حين طَلَعَ الفجرُ، فلمَّا كان اليومُ الثَّاني أمَرَه أن يُبْرِدَ بالظُّهْرِ فأبَرَدَ بها، فأنعَمَ أن يُبْرِدَ بها، وصلَّى العصرَ والشَّمْسُ مرتفعةٌ، أخَّرَها فوقَ الذي كان، وصلَّى المغرِبَ قبل أن يَغيبَ الشَّفَقُ، وصلَّى العِشاءَ بعد ما ذهَبَ ثُلُثُ اللَّيلِ، وصلَّى الفَجْرَ فأسفَرَ بها، ثم قال: أين السَّائِلُ عن وقتِ الصَّلاةِ؟ فقال الرجُلُ: أنا يا رسولَ اللهِ. قال: وقتُ صلاتِكم بينَ ما رأيتُم)). ؛ فصَلاتُه في اليَومِ في أواخِرِ الأوقاتِ وقَعَ مَوقِعَ البَيانِ لآخِرِ وَقتِ الاختياريِّ الذي لا يَتَعَدَّى، ثُمَّ لم يَزَلْ مُثابرًا على أوائِلِ الأوقاتِ إلَّا عِند عارِضٍ، كالإبرادِ في شِدَّةِ الحَرِّ، والجَمعِ بَينَ الصَّلاتَينِ في السَّفرِ، وأشباهِ ذلك. وكذلك قَولُه:
((مَن أدرَكَ رَكعةً مِن الصُّبحِ قَبلَ أن تَطلُعَ الشَّمسُ فقد أدرَكَ الصُّبحَ)) [677] أخرجه مسلم (608) من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، إلخ، بَيانٌ لأوقاتِ الأعذارِ لا مُطلَقًا؛ فلذلك لم يَقَعِ العَمَلُ عليه في حالِ الاختيارِ.
وأمثِلةُ هذا الضَّربِ كثيرةٌ، وحُكمُه الذي يَنبَغي فيه: الموافَقةُ للعَمَلِ الغالِبِ كائِنًا ما كان، وتَركُ القَليلِ أو تَقليلُه حَسبَما فعَلوه، أمَّا فيما كان تَعريفًا بحَدٍّ وما أشبَهَه فقد استَمَرَّ العَمَلُ الأوَّلُ على ما هو الأَولى؛ فكذلك يَكونُ بالنِّسبةِ إلى ما جاءَ بَعدَ موافقَتِه لهم على ذلك، وأمَّا غَيرُه فكذلك أيضًا.
والضَّربُ الثَّاني: ما كان على خِلافِ ذلك، ولكِنَّه يَأتي على وُجوهٍ:
مِنها: أن يَكونَ مُحتَمَلًا في نَفسِه، فيَختَلِفوا فيه بحَسَبِ ما يَقوى عِندَ المُجتَهدِ فيه أو يُختَلفُ في أصلِه، والذي هو أبرَأُ للعُهدةِ وأبلَغُ في الاحتياطِ تَركُه والعَمَلُ على وَفقِ الأعَمِّ الأغلَبِ، كقيامِ الرَّجُلِ للرَّجُلِ إكرامًا له وتَعظيمًا، فإنَّ العَمَلَ المُتَّصِلَ تَركُه.
ومِنها: أن يَكونَ هذا القَليلُ خاصًّا بزَمانِه أو بصاحِبِه الذي عَمِل به، أو خاصًّا بحالٍ مِن الأحوالِ؛ فلا يَكونُ فيه حُجَّةٌ على العَمَلِ به في غَيرِ ما تُقُيِّد به.
ومِنها: إمكانُ أن يَكونَ عُمِلَ به قَليلًا ثُمَّ نُسِخَ، فتُرِكَ العَمَلُ به جُملةً؛ فلا يَكونُ حُجَّةً بإطلاقٍ، فكان مِن الواجِبِ في مِثلِه الوُقوفُ مَعَ الأمرِ العامِّ.
فيَنبَغي للعامِلِ أن يَتَحَرَّى العَمَلَ على وَفقِ الأوَّلينَ؛ فلا يُسامِحَ نَفسَه في العَمَلِ بالقَليلِ إلَّا قَليلًا وعِندَ الحاجةِ ومَسِّ الضَّرورةِ إن اقتَضى مَعنى التَّخييرِ، ولم يَخْفَ نَسخُ العَمَلِ، أو عَدِم صِحَّةً في الدَّليلِ، أو احتِمالًا لا يَنهَضُ به الدَّليلُ أن يَكونَ حُجَّةً، أو ما أشبَهَ ذلك.
أمَّا لو عمِل بالقَليل دائِمًا للزِمَه أُمورٌ:أحَدُها: المُخالَفةُ للأوَّلينَ في تَركِهم الدَّوامَ عليها، وفي مُخالفةِ السَّلَفِ الأوَّلينَ ما فيها.
والثَّاني: استِلزامُ تَركِ ما داوموا عليه؛ إذ الفَرضُ أنَّهم داوموا على خِلافِ هذه الآثارِ، فإدامةُ العَمَلِ على موافقةِ ما لم يُداوِموا عليه مُخالفةٌ لِما داوموا عليه.
والثَّالثُ: أنَّ ذلك ذَريعةٌ إلى اندِراسِ أعلامِ ما داوموا عليه واشتِهارِ ما خالفه؛ إذ الاقتِداءُ بالأفعالِ أبلغُ مِن الاقتِداءِ بالأقوالِ، فإذا وقَعَ ذلك مِمَّن يُقتَدى به كان أشَدَّ.
فيَنبَغي الحَذَرُ مِن مُخالفةِ الأوَّلينَ، فلو كان ثَمَّ فَضلٌ ما لكان الأوَّلونَ أحَقَّ به
[678] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (3/ 252). .
ثالثًا: ألَّا يَثبُتَ عن السَّلَفِ العَمَلُ بالحَديثِإذا لم يَثبُتْ عن الأوَّلينَ أنَّهم عَمِلوا بالحَديثِ أو الدَّليلِ الشَّرعيِّ على حالٍ فهو أشَدُّ مِمَّا قَبلَه، والأدِلَّةُ المُتَقدِّمةُ جاريةٌ هنا بالأَولى، وما تَوهَّمَه المُتَأخِّرونَ مِن أنَّه دَليلٌ على ما زَعَموا ليسَ بدَليلٍ عليه البَتَّةَ؛ إذ لو كان دَليلًا عليه لم يَعزُبْ عن فهمِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ ثُمَّ يَفهَمُه هؤلاء؛ فعَمَلُ الأوَّلينَ كيف كان مُصادِمٌ لمُقتَضى هذا المَفهومِ ومُعارِضٌ له، ولو كان تَركُ العَمَلِ فما عَمِل به المُتَأخِّرونَ مِن هذا القِسمِ مُخالِفٌ لإجماعِ الأوَّلينَ، وكُلُّ مَن خالف الإجماعَ فهو مُخطِئٌ، وأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا تَجتَمِعُ على ضَلالةٍ، فما كانوا عليه مِن فِعلٍ أو تَركٍ فهو السُّنَّةُ والأمرُ المُعتَبَرُ، وهو الهُدى، وليسَ ثَمَّ إلَّا صَوابٌ أو خَطَأٌ؛ فكُلُّ مَن خالف السَّلَفَ الأوَّلينَ فهو على خَطَأٍ، وهذا كافٍ.
ومِن هنا لم يَسمَعْ أهلُ السُّنَّةِ دَعوى الرَّافِضةِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَصَّ على عليٍّ أنَّه الخَليفةُ بَعدَه؛ لأنَّ عَمَلَ كافَّةِ الصَّحابةِ على خِلافِه دَليلٌ على بُطلانِه أو عَدَمِ اعتِبارِه؛ لأنَّ الصَّحابةَ لا تَجتَمِعُ على خَطَأٍ، وكَثيرًا ما تَجِدُ أهلَ البدَعِ والضَّلالةِ يَستَدِلُّونَ بالكِتابِ والسُّنَّةِ يُحَمِّلونَهما مَذاهبَهم، ويُغَبِّرون بمُشتَبِهاتِهما في وُجوهِ العامَّةِ، ويَظُنُّونَ أنَّهم على شَيءٍ.
وكَثيرٌ مِن فِرَقِ الاعتِقاداتِ تَتَعَلَّقُ بظَواهِرَ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ في تَصحيحِ ما ذَهَبوا إليه مِمَّا لم يَجرِ له ذِكرٌ ولا وقعَ ببالِ أحَدٍ مِن السَّلفِ الأوَّلينَ، وحاشَ للهِ مِن ذلك.
ومِنه أيضًا استِدلالُهم على الرَّقصِ في المَساجِدِ وغَيرها بحَديثِ لَعِبِ الحَبَشةِ في المَسجِدِ بالدَّرَقِ والحِرابِ، وقَولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لهم:
((دونَكُم يا بَني أرِفدةَ)) [679] أخرجه البخاري (950)، ومسلم (892) من حديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، ولفظُ مُسلم: ((دَخَل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعِندي جاريَتانِ تُغَنِّيانِ بغِناءِ بُعاثٍ، فاضطَجَعَ على الفِراشِ، وحَوَّل وَجهَه، فدَخَل أبو بَكرٍ فانتَهَرَني، وقال: مِزمارُ الشَّيطانِ عِندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فأقبَل عليه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: دَعْهما، فلمَّا غَفل غَمَزتُهما فخَرَجَتا، وكان يَومَ عيدٍ يَلعَبُ السُّودانُ بالدَّرَقِ والحِرابِ، فإمَّا سَألتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإمَّا قال: تَشتَهينَ تَنظُرينَ؟ فقُلتُ: نَعَم، فأقامَني وراءَه، خَدِّي على خَدِّه، وهو يَقولُ: دونَكُم يا بَني أرفِدةَ، حتَّى إذا مَلِلتُ قال: حَسبُكِ؟ قُلتُ: نَعَم، قال: فاذهَبي)). !
ويُقالُ لمَن استَدَلَّ بأمثالِ ذلك: هَل وُجِدَ هذا المَعنى الذي استَنبَطتَ في عَمَلِ الأوَّلينَ، أو لم يوجَدْ؟ فإن زَعَم أنَّه لم يوجَدْ -ولا بُدَّ مِن ذلك- فيُقالُ له: أفكانوا غافِلينَ عَمَّا تَنَبَّهتَ له أو جاهلينَ به، أم لا؟ ولا يَسَعُه أن يَقولَ بهذا؛ لأنَّه فَتحٌ لبابِ الفضيحةِ على نَفسِه وخَرقٌ للإجماعِ، وإن قال: إنَّهم كانوا عارِفينَ بمآخِذِ هذه الأدِلَّةِ، كما كانوا عارِفينَ بمآخِذِ غَيرِها، قيل له: فما الذي حال بَينَهم وبَينَ العَمَلِ بمُقتَضاها على زَعمِك حتَّى خالفوها إلى غَيرِها؟ ما ذاكَ إلَّا لأنَّهم اجتَمَعوا فيها على الخَطَأِ دونَك أيُّها المُتَقَوِّلُ، والبُرهانُ الشَّرعيُّ والعاديُّ دالٌّ على عَكسِ القَضيَّةِ، فكُلُّ ما جاءَ مُخالفًا لِما عليه السَّلَفُ الصَّالحُ فهو الضَّلالُ بعَينِه.
فإنْ زَعَم أنَّ ما انتَحَله مِن ذلك إنَّما هو مِن قَبيلِ المَسكوتِ عنه في الأوَّلينَ، وإذا كان مَسكوتًا عنه ووُجِد له في الأدِلَّةِ مَساغٌ؛ فلا مُخالفةَ، إنَّما المُخالَفةُ أن يُعانِدَ ما نُقِل عنهم بضِدِّه، وهو البِدعةُ المُنكَرةُ، قيل له: بَل هو مُخالِفٌ؛ لأنَّ ما سُكِتَ عنه في الشَّريعةِ على وَجهَينِ:
أحَدُهما: أن تَكونَ مَظِنَّةُ العَمَلِ به مَوجودةً في زَمانِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلم يُشرَعْ له أمرٌ زائِدٌ على ما مَضى فيه، فلا سَبيلَ إلى مُخالفتِه؛ لأنَّ تَركَهم لِما عَمِل به هؤلاء مُضادٌّ له، فمَن استَلحَقَه صارَ مُخالِفًا للسُّنَّةِ حَسَبَما تَبَيَّن في كِتابِ المَقاصِدِ.
والثَّاني: ألَّا توجَدُ مَظِنَّةُ العَمَلِ به ثُمَّ توجَدُ؛ فيُشرَعُ له أمرٌ زائِدٌ يُلائِمُ تَصَرُّفاتِ الشَّرعِ في مثلِه، وهيَ المَصالِحُ المُرسَلةُ، وهيَ مِن أُصولِ الشَّريعةِ المَبنيِّ عليها؛ إذ هيَ راجِعةٌ إلى أدِلَّةِ الشَّرعِ حَسَبَما تبَيَّن في عِلمِ الأُصولِ؛ فلا يَصِحُّ إدخالُ ذلك تَحتَ جِنسِ البِدَعِ.
وأيضًا فالمَصالِحُ المُرسَلةُ -عِندَ القائِلِ بها- لا تَدخُلُ في التعبُّداتِ البَتَّةَ، وإنَّما هيَ راجِعةٌ إلى حِفظِ أصلِ المِلَّةِ، وحياطةِ أهلِها في تَصَرُّفاتِهم العاديَّةِ.
فالحاصِلُ أنَّ الأمرَ أو الإذنَ إذا وقَعَ على أمرٍ له دَليلٌ مُطلَقٌ، فرَأيتَ الأوَّلينَ قد عُنُوا به على وَجهٍ واستَمَرَّ عليه عَمَلُهم؛ فلا حُجَّةَ فيه على العَمَلِ على وجهٍ آخَرَ، بَل هو مُفتَقِرٌ إلى دَليلٍ يَتبَعُه في إعمالِ ذلك الوَجهِ، وذلك كُلُّه مُبَيَّنٌ في بابِ الأوامِرِ والنَّواهي مِن هذا الكِتابِ، لكِنْ على وجهٍ آخَرَ؛ فإذًا ليسَ ما انتَحَل هذا المُخالفُ العَمَلَ به مِن قَبيلِ المَسكوتِ عنه، ولا مِن قَبيلِ ما أصلُه المَصالِحُ المُرسَلةُ؛ فلم يَبقَ إذًا أن يَكونَ إلَّا مِن قَبيلِ المُعارِضِ لِما مَضى عليه عَمَلُ الأقدَمينَ، وكَفى بذلك مَزِلَّةَ قَدَمٍ
[680] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (3/280). .
وقد جاءَ أنَّ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها زَوَّجَت حَفصةَ بنتَ عَبدِ الرَّحمنِ مِن المُنذِرِ بنِ الزُّبَيرِ
[681] أخرجه مالك (4/796)، والطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (4255)، والبيهقي (13770)، ولفظُ مالِكٍ: عن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ القاسِمِ عن أبيه (أنَّ عائِشةَ زَوجَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم زَوَّجَت حَفصةَ بنتَ عَبدِ الرَّحمَنِ المُنذِرَ بنَ الزُّبَيرِ، وعَبدُ الرَّحمَنِ غائِبٌ بالشَّأمِ. فلمَّا قدِمَ عَبدُ الرَّحمَنِ قال: ومِثلي يُصنَعُ هذا به؟! ومِثلي يُفتاتُ عليه؟! فكَلَّمَت عائِشةُ المُنذِرَ بنَ الزُّبَيرِ. فقال المُنذِرُ: فإنَّ ذلك بيَدِ عَبدِ الرَّحمَنِ. فقال عَبدُ الرَّحمنِ: ما كُنتُ لأرُدَّ أمرًا قَضيتيه، فقَرَّت حَفصةُ عِندَ المُنذِرِ. ولم يَكُنْ ذلك طَلاقًا). ، وهذا الخَبَرُ لم يَصحَبْه عَمَلٌ، وأخذَ عامَّةُ النَّاسِ والصَّحابةِ بغَيرِه، فبَقيَ غَيرَ مُكَذَّبٍ به ولا مَعمولٍ به، وعُمِل بغَيرِه مِمَّا صَحِبَته الأعمالُ وأخَذَ به تابعو النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن الصَّحابةِ، وأُخِذَ مِن التَّابعينَ على مِثلِ ذلك مِن غَيرِ تَكذيبٍ ولا رَدٍّ لِما جاءَ ورُويَ، فيُترَكُ ما تُرِكَ العَمَلُ به ولا يُكَذَّبُ به، ويُعمَلُ بما عُمِل به ويُصَدَّقُ به، والعَمَلُ الذي ثَبَتَ وصَحِبَته الأعمالُ هو أنَّ المَرأةَ لا تَتَزَوَّجُ إلَّا بوَليٍّ
[682] يُنظر: ((المدونة)) لمالك (2/ 118). .
إنَّ الأئِمَّةَ وفُقَهاءَ أهلِ الحَديثِ يَتَّبعونَ الحَديثَ الصَّحيحَ حَيثُ كان إذا كان مَعمولًا به عِندَ الصَّحابةِ ومَن بَعدَهم أو عِندَ طائِفةٍ مِنهم، فأمَّا ما اتَّفقَ السَّلفُ على تَركِه فلا يَجورُ العَمَلُ به؛ لأنَّهم ما تَرَكوه إلَّا على عِلمٍ أنَّه لا يُعمَلُ به
[683] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (3/ 17). .
مِثالُه: حَديثُ:
((فإن شَرِبَ في الرَّابعةِ فاقتُلوه)) [684] أخرجه أبو داود (4484)، وابن ماجه (2572)، وأحمد (10729) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ أبي داودَ: ((إذا سَكِرَ فاجلِدوه، ثُمَّ إن سَكِرَ فاجلِدوه، ثُمَّ إن سَكِرَ فاجلِدوه، فإن عادَ الرَّابعةَ فاقتُلوه)). صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (4447)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (8115)، وابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (2/256)، وقال ابن حزم في ((المحلى)) (11/366): في نهايةِ الصِّحَّةِ. .
وحَديثُ:
((لعنَ اللهُ السَّارِقَ يَسرِقُ البَيضةَ فتُقطَعُ يَدُه)) [685] أخرجه البخاري (6783)، ومسلم (1687) من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وحَديثُ:
((مَن قَتَل عَبدَه قَتَلناه)) [686] أخرجه أبو داود (4515)، والترمذي (1414)، والنسائي (4738) من حديثِ سَمُرةَ بنِ جُندَبٍ رَضِيَ اللهُ عنه. قال الإمامُ أحمَدُ: (أخشى أن يَكونَ هذا الحَديثُ لا يَثبُتُ). ((مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله)) (ص: 409)، وضَعَّفه البَيهَقيُّ في ((السنن الكبرى)) (8/35)، وابن العربي في ((أحكام القرآن)) (1/92)، والصنعاني في ((سبل السلام)) (3/363)، والألباني في ((ضعيف سنن أبي داود)) (4515). ، قال ابنُ رَجَبٍ: (طَعنَ فيه الإمامُ أحمَدُ وغَيرُه، وقد أجمَعوا على أنَّه لا قِصاصَ بَينَ العَبيدِ والأحرارِ في الأطرافِ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ هذا الحَديثَ مُطَّرَحٌ لا يُعمَلُ به)
[687] ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 316). .
فمِثل هذه الأحاديثِ التي تَنَكَّبَها سائِرُ أئِمَّةِ الاجتِهادِ لا يُؤخَذُ بها
[688] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) (16/405). ، وكذلك الأحاديثُ التي صَحَّت الأحاديثُ بخِلافِها أو أجمَعَت الأئِمَّةُ على القَولِ بغَيرِها، فتُعَدُّ مِن الأحاديثِ الشَّاذَّةِ المُطَّرَحةِ لشُذوذِ مُتونِها
[689] يُنظر: ((شرح علل الترمذي)) لابن رجب (2/ 624). وقال إمامُ الحَرَمَينِ: (إن تَحَقَّقْنا بُلوغَ الخَبَرِ طائِفةً مِن أئِمَّةِ الصَّحابةِ، وكان الخَبَرُ نَصًّا لا يَطرُقُ إليه تَأويلٌ، ثُمَّ ألفَيناهم يَقضونَ بخِلافٍ مَعَ ذِكرِه والعِلمِ به... فيَتَعَيَّنُ حَملُ عَمَلِهم مَعَ الذِّكرِ والإحاطةِ بالخَبَرِ على العِلمِ بوُرودِ النَّسخِ). ((البرهان)) (2/ 189). .