موسوعة أصول الفقه

المَطلبُ الثَّاني عَشَرَ: هَل يَنعَقِدُ الإجماعُ بنَفيِ العِلمِ بالخِلافِ؟


قد لا يَظهَرُ للمُجتَهِدِ أحيانًا خِلافٌ للعُلماءِ في المَسألةِ، فيَنقُلُ ذلك مُعَبِّرًا عنه بقَولِه: بغَيرِ خِلافٍ نَعلمُه، أو: لا أعلَمُ في هذا خِلافًا، أو: لا أعلَمُ خِلافًا بَينَ أهلِ العِلمِ في كذا، أو: لا أعرِفُ بَينَهم خِلافًا، ونَحوَ ذلك، فهَل يُعَدُّ نَفيُ العِلمِ بالخِلافِ إجماعًا أو لا [932] يُنظر: ((الإحكام)) لابن حزم (4/145)، بحث ((نفي العلم بالخلاف عند الأصولين)) لعلي الحذيفي - مجلة الشريعة والقانون (العدد: 1/ص:142)، بحث ((نفي العلم بالخلاف)) لأحمد الرخ - مجلة الشريعة والقانون (العدد: 11/ص:1257). ؟
وحَقيقةُ نَفيِ العِلمِ بالخِلافِ أن تُستَقرَأَ أقوالُ العُلماءِ في مَسألةٍ ما، فيَقولُ المُجتَهِدُ: لا أعلمَ فيها خِلافًا، أو نَحوَه مِن العِباراتِ الدَّالَّةِ على هذا المَعنى [933] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (19/267)، بحث ((نفي العلم بالخلاف عند الأصولين)) لعلي الحذيفي - مجلة الشريعة والقانون (العدد: 1/ص:142). .
والنَّاظِرُ فيه مِن أوَّلِ وَهلةٍ يَلحَظُ تَقارُبًا بَينَه وبَينَ الإجماعِ مِن حَيثيَّةِ أنَّ كُلًّا مِنهما لا يُعلَمُ فيه مُنازِعٌ؛ لأنَّ حَقيقةَ الإجماعِ عَدَمُ الخِلافِ في المَسألةِ التي أجمَعَ عليها العُلماءُ [934] يُنظر: بحث ((نفي العلم بالخلاف عند الأصولين)) لعلي الحذيفي - مجلة الشريعة والقانون (العدد: 1/ص:144). .
ويَفتَرِقانِ في أنَّ القائِلَ بالإجماعِ يَجزِمُ بنَفيِ الخِلافِ وعَدَمِ وُجودِه، أمَّا نَفيُ العِلمِ بالخِلافِ فإنَّه لا يَدُلُّ على نَفيِه في الواقِعِ ونَفسِ الأمرِ [935] يُنظر: بحث ((نفي العلم بالخلاف عند الأصولين)) لعلي الحذيفي - مجلة الشريعة والقانون (العدد: 1/ص:144). .
ولوَجهِ الشَّبَهِ بَينَ الإجماعِ ونَفيِ العِلمِ بالخِلافِ وقَعَ خِلافٌ بَينِ الأُصوليِّينَ حَولَ نَفيِ العِلمِ بالخِلافِ: هَل يُعتَبَرُ إجماعًا لعَدَمِ ظُهورِ مُخالِفٍ في المَسألةِ، أو لا يُعتَبَرُ إجماعًا؟ والمُختارُ مِن أقوالِ العُلماءِ: أنَّه لا يُعتَبرُ إجماعًا، وقد عَزاه ابنُ القَيِّمِ إلى أحمَدَ بنِ حَنبَلٍ [936] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) (1/61). ، ومِمَّن اختارَ ذلك: الصَّيرَفيُّ [937] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (6/488). ، والباقِلَّانيُّ [938] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) (3/226). ، وابنُ حَزمٍ [939] يُنظر: ((الإحكام)) (175-189). .
واستَدَلُّوا على ذلك بما يَلي:
1- أنَّ نَفيَ العِلمِ بالخِلافِ لا يَنفي الخِلافَ؛ فعَدَمُ العِلمِ ليسَ عِلمًا بالعَدَمِ؛ إذ قد يَكونُ الخِلافُ مَوجودًا ولم يَطَّلِعْ عليه المُجتَهِدُ، ولا يُستَبعَدُ ذلك في العادةِ مَهما كانت دَرَجةَ العالمِ، لا سيَّما في أقوالِ عُلماءِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم التي لا يُحصيها إلَّا رَبُّ العالَمينَ [940] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (19/271)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (6/2575). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (نُصوصُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أجَلُّ عِندَ الإمامِ أحمَدَ وسائِرِ أئِمَّةِ الحَديثِ مِن أن يُقَدِّموا عليها ما تُوُهِّمَ إجماعًا مَضمونُه عَدَمُ العِلمِ بالمُخالِفِ، ولو ساغَ لتَعَطَّلت النُّصوصُ، وساغَ لكُلِّ مَن لم يَعلَمْ مُخالِفًا في حُكمِ مَسألةٍ أن يُقدِّمَ جَهلَه بالمُخالِفِ على النُّصوصِ) [941] ((إعلام الموقعين)) (2/54). .
2- أنَّ بَعضَ العُلماءِ المُجتَهدينَ الكِبارِ نَفَوا العِلمَ بالخِلافِ في مَسائِلَ، والخِلافُ واقِعٌ فيها لم يَطَّلعوا عليه، وهذا يَدُلُّ على عَدَمِ صِحَّةِ اعتِبارِها إجماعًا، ومِن ذلك ما نُقِل عن الشَّافِعيِّ في زَكاةِ البَقَرِ: أنَّه ليسَ في أقَلَّ مِن ثَلاثينَ مِنها تَبيعٌ، ثُمَّ قال: (وهو ما لا أعلَمُ فيه بَينَ أحَدٍ لقيتُه مِن أهلِ العِلمِ خِلافًا، وبه نَأخُذُ) [942] ((الأم)) (2/9). ، فنَفى الشَّافِعيُّ الخِلافَ، والخِلافُ في ذلك مَوجودٌ؛ فإنَّ قَومًا يَرَونَ الزَّكاةَ على الخَمسِ كزَكاةِ الإبِلِ [943] قال إمامُ الحَرَمَينِ: (ذَهَبَ بَعضُ السَّلَفِ إلى أنَّ في كُلِّ خَمسٍ مِنها شاةٌ إلى الثَّلاثينَ، وهذا مَذهَبٌ مَهجورٌ لا عَمَلَ به، ولا تَعويلَ عليه، ومَذهَبُنا ما ذَكَرناه). ((نهاية المطلب)) (3/115). ويُنظر أيضًا: ((بداية المجتهد)) لابن رشد (2/23)، ((المجموع)) للنووي (5/416). ، والخِلافُ في ذلك مَوجودٌ عن جابِرِ بنِ عبدِ اللَّهِ، وسَعيدِ بنِ المُسَيِّبِ، وقتادةَ، وعُمَّالِ ابنِ الزُّبَيرِ بالمَدينةِ، ثُمَّ عن إبراهيمَ النَّخعيِّ، وعن أبي حَنيفةَ [944] ((الإحكام)) (4/178). .
وورَدَ أيضًا عن مالكٍ -وقد ذَكَرَ الحُكمَ برَدِّ اليَمينِ على المُدَّعي إذا نَكَل المُدَّعى عليه- قَولُه: (هذا مِمَّا لا خِلافَ فيه بَينَ أحَدٍ مِن النَّاسِ، ولا بَلدٍ مِن البُلدانِ) [945] ((موطأ مالك)) (4/1049). ، والخِلافُ فيه مَشهورٌ، وكان عُثمانُ رَضِيَ اللهُ عنه لا يَرى رَدَّ اليَمينِ، ويَقضي بالنُّكولِ، وكذلك ابنُ عبَّاسٍ، ومِن التَّابِعينَ الحَكَمُ وغَيرُه، وابنُ أبي ليلى، وأبو حَنيفةَ وأصحابُه، وهم كانوا القُضاةَ في ذلك الوقتِ [946] يُنظر: ((تحفة الفقهاء)) لعلاء الدين السمرقندي (3/182)، ((طريقة الخلاف)) للأسمندي (ص:390)، ((المغني)) لابن قدامة (10/211)، ((الذخيرة)) للقرافي (11/76). .
فإذا كان مِثلُ مَن ذُكِرَ مِن الأئِمَّةِ يَخفى عليه الخِلافُ أحيانًا، فغَيرُهم مِن بابِ أَولى [947] يُنظر: ((الإحكام)) لابن حزم (4/178)، ((البحر المحيط)) للزركشي (6/489). .
وقيل: إن كان القائِلُ مِن أهلِ العِلمِ فهو حُجَّةٌ، وإن لم يَكُنْ مِن الذينَ كشَفوا الإجماعَ والاختِلافَ فليسَ بحُجَّةٍ، وهو اختيارُ ابنِ القَطَّانِ [948] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (6/488). .

انظر أيضا: