موسوعة أصول الفقه

المَطلبُ الثَّالِثَ عَشَرَ: خِلافُ الظَّاهريَّةِ في الإجماعِ


لمَّا كانت المَسائِلُ الحادِثةُ كثيرةً ومُتَجَدِّدةً، وكان مُعظَمُ أحكامِها صادِرًا عن الاجتِهادِ والقياسِ، وقع خِلافٌ بَينَ الأُصوليِّينَ حَولَ الظَّاهريَّةِ لإنكارِهم القياسَ: هَل يُعتَدُّ بخِلافِهم في الإجماعِ، أو يُعتَبَرُ جَحدُهم للقياسِ وعَدَمُ مَعرِفتِهم بالمَعاني مُنقِصًا لرُتبَتِهم عن رُتبةِ الاجتِهادِ، فلا يُعتَبَرُ خِلافُهم، ولا يُؤنَسُ بوفاقِهم؟
والمُختارُ الاعتِدادُ بخِلافِهم مُطلقًا، وهو اختيارُ الأُستاذِ أبي مَنصورٍ البَغداديِّ، والقاضي عبدِ الوَهَّابِ، وابنِ السُّبكيِّ [949] يُنظر: ((فتاوى ابن الصلاح)) (1/204-206)، ((طبقات الشافعية الكبرى)) لابن السبكي (2/290،289)، ((البحر المحيط)) للزركشي (6/425)، ((التحبير)) للمرداوي (4/1564،1563). قال ابنُ الصَّلاحِ: (الذي اختارَه الأُستاذُ أبو مَنصورٍ في هذا وذَكَر أنَّه الصَّحيحُ مِن المَذهَبِ: أنَّه يُعتَبَرُ خِلافُه [أي داودَ الظَّاهريِّ] في الفِقهِ الذي استَقَرَّ عليه الأمرُ آخِرًا فيما هو الأغلبُ الأعرَفُ مِن صَفوةِ الأئِمَّةِ المُتَأخِّرينَ الذينَ أورَدوا مَذاهِبَ داودَ في إثباتِ مُصَنَّفاتِهم المَشهورةِ في الفُروعِ، كالشَّيخِ أبي حامِدٍ الإسْفرائينيِّ وصاحِبِه المحامِليِّ وغَيرِهما رَضِيَ اللهُ عنهم؛ فإنَّه لولا اعتِدادُهم بخِلافِه لما أورَدوا مَذاهِبَه في أمثالِ مُصَنَّفاتِهم هذه؛ لمُنافاةِ مَوضوعِها لذلك). ((فتاوى ابن الصلاح)) (1/207). ويُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (6/425). .
واستَدَلُّوا على ذلك بالآتي:
1- أنَّ تَركَ اعتِقادِهم العَمَلَ ببَعضِ الأدِلَّةِ لا يُخرِجُهم عن كونِهم مُجتَهِدينَ، وإلَّا لزِمَ ألَّا يُعتَبَرَ قَولُ مَن خالف في المَراسيلِ ونَحوِها مِن الأدِلَّةِ، كدَلالةِ العُمومِ والإطلاقِ والتَّقييدِ مِن المُجتَهِدينَ، وليسَ الأمرُ كذلك [950] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (4/1563). .
2- أنَّ مَن عَرَف نُصوصَ الشَّريعةِ حَقَّ مَعرِفتِها وتَدَبَّر آياتِ الكِتابِ العَزيزِ، وتَوسَّع في الاطِّلاعِ على السُّنَّةِ المُطَهَّرةِ، عَلِمَ بأنَّ نُصوصَ الشَّريعةِ تَفي بكَثيرٍ مِمَّا تَدعو الحاجةُ إليه في جَميعِ الحَوادِثِ، وأهلُ الظَّاهِرِ فيهم مِن أكابرِ الأئِمَّةِ وحُفَّاظِ الشَّريعةِ المُتَقَيِّدينَ بنُصوصِ الشَّريعةِ، نَعَم قد جَمُدوا في مَسائِلَ كان يَنبَغي لهم تَركُ الجُمودِ عليها، ولكِنَّها بالنِّسبةِ إلى ما وقَعَ في مَذهَبِ غَيرِهم مِن العَمَلِ بما لا دَليلَ عليه البَتَّةَ قَليلةٌ، فلو لم يُعتَدَّ بقَولِهم لأجلِها لم يُعتَدَّ بقَولِ غَيرِهم كذلك، ولم يَقُلْ أحَدٌ بذلك [951] يُنظر: ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (1/215). .
قال الشَّاطِبيُّ: (القُرآنُ فيه بَيانُ كُلِّ شَيءٍ ... فالعالِمُ به على التَّحقيقِ عالِمُ بجُملةِ الشَّريعةِ، ولا يَعوزُه مِنها شَيءٌ، والدَّليلُ على ذلك أُمورٌ؛ مِنها: النُّصوصُ القُرآنيَّةُ... ومِنها: التَّجرِبةُ، وهو أنَّه لا أحَدَ مِن العُلماءِ لجَأ إلى القُرآنِ في مَسألةٍ إلَّا وجَدَ لها فيه أصلًا، وأقرَبُ الطَّوائِفِ مِن إعوازِ المَسائِلِ النَّازِلةِ أهلُ الظَّواهِرِ الذينَ يُنكِرونَ القياسَ، ولم يَثبُتْ عنهم أنَّهم عَجَزوا عن الدَّليلِ في مَسألةٍ مِن المَسائِلِ) [952] يُنظر: ((الموافقات)) (4/184-189). .
وقيل: لا يُعتَدُّ بخِلافِهم، ومِمَّن ذَهَبَ إليه الجَصَّاصُ [953] يُنظر: ((الفصول)) (3/296). ، وإمامُ الحَرَمَينِ [954] يُنظر: ((البرهان)) (2/22، 37). ، وغَيرُهما [955] يُنظر: ((التعيين في شرح الأربعين)) للطوفي (ص:244)، ((طبقات الشافعية الكبرى)) لابن السبكي (2/290،289)، ((البحر المحيط)) للزركشي (6/424)، ((التحبير)) للمرداوي (4/1564،1563). ، ومِنهم مَن فصَّل بَينَ مُخالفتِهم للقياسِ الجَليِّ والقياسِ الخَفيِّ؛ فاعتَبَرَ خِلافَهم في القياسِ الخَفيِّ دونَ الجَليِ، كابنِ الصَّلاحِ [956] يُنظر: ((فتاوى ابن الصلاح)) (1/207). ويُنظر أيضًا: ((البحر المحيط)) للزركشي (6/426)، ((التحبير)) للمرداوي (4/1563). ، وفصَّل الأبياريُّ بَينَ ما إذا كانت المَسألةُ المَنظورُ فيها غَيرَ قياسيَّةٍ بأن كانت مِمَّا يَتَعَلَّقُ بالآثارِ والتَّوقيفِ واللَّفظِ اللُّغَويِّ، وليسَ للقياسِ فيها مَجالٌ، فلا يَصِحُّ أن يَنعَقِدَ الإجماعُ حينَئِذٍ دونَهم، بَل يُعتَدُّ بخِلافِهم ووِفاقِهم [957] يُنظر: ((التحقيق والبيان)) للأبياري (3/84). .

انظر أيضا: