موسوعة أصول الفقه

المَطلبُ الرَّابعَ عَشَرَ: هَل الأخذُ بأقَلِّ ما قيل يُعتَبَرُ إجماعًا؟


مَن المَسائِلِ التي يَتَناوَلُها الأُصوليُّونَ في مَبحَثِ الإجماعِ مَسألةُ الأخذِ بأقَلِّ ما قيل في المَسألةِ، ويُقصَدُ بذلك أنَّ العُلماءَ إذا اختَلفوا في حادِثةٍ على قَولينِ أو ثَلاثةٍ فقَضى بَعضُهم فيها بقدرٍ، وقَضى بَعضُهم فيها بأقَلَّ مِن ذلك القَدرِ -وذلك نَحوُ النَّفَقاتِ والأُروشِ والدِّياتِ، وبَعضِ الزَّكَواتِ وما أشبَهَ ذلك- فالأخذُ بالأقَلِّ هو أخذٌ بأقَلِّ ما قيل في المَسألةِ، فهَل يُعتَبَرُ الأقَلُّ إجماعًا لكَونِ الأكثَرِ يَشتَمِلُ عليه وزيادةٍ أو لا؟ [958] يُنظر: ((الإحكام)) لابن حزم (5/50)، ((اللمع)) للشيرازي (ص:123)، ((البحر المحيط)) للزركشي (8/26). .
ومَثَّلوا لهذه المَسألةِ بما إذا أتلَفَ رَجُلٌ ثَوبًا على آخَرَ، فشَهدَ عليه شاهدانِ أنَّه يُساوي عَشَرةَ دَراهمَ، وشَهِدَ آخَرانِ أنَّه كان يُساوي خَمسةَ عَشَرَ دِرهَمًا، فإنَّه يَجِبُ على المُتلِفِ عِندَ أصحابِ الشَّافِعيِّ أقَلُّ الثَّمَنَينِ [959] يُنظر: ((الواضح)) لابن عقيل (2/317)، ((البحر المحيط)) للزركشي (8/31). .
ومَثَّلوا له أيضًا بديةِ الكِتابيِّ؛ حَيثُ اختَلف العُلماءُ حَولها، فيَرى الحَنَفيَّةُ [960] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (26/84)، ((مجمع الأنهر)) لزاده (2/639). أنَّها كدِيَةِ المُسلِمِ، ويَرى المالكيَّةُ [961] يُنظر: ((المعونة)) للقاضي عبد الوهاب (3/1336)، ((المقدمات الممهدات)) لابن رشد (3/295). ، وفي رِوايةٍ عن أحمَدَ [962] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (8/398-400). أنَّها نِصفُ ديةِ المُسلمِ، ويَرى الشَّافِعيَّةُ [963] يُنظر: ((نهاية المطلب)) لإمام الحرمين (16/438)، ((المبدع)) لإبراهيم بن مفلح (7/290)، ((الإقناع)) للخطيب الشربيني (2/505). ، وفي رِوايةٍ عن أحمَدَ [964] يُنظر: ((المبدع)) لابن مفلح (7/290)، ((الإنصاف)) للمرداوي (10/65). أنَّها ثُلُثُ ديةِ المُسلِمِ.
فقَولُ الشَّافِعيَّةِ بالثُّلثِ هو أقَلُّ قَولٍ قيل في هذه المَسألةِ، وهو مَحَلُّ اتِّفاقٍ بَينَ الجَميعِ؛ لأنَّ النِّصفَ ثُلثٌ وزيادةٌ، والدِّيةُ كامِلةً ثُلُثٌ وزيادةٌ، فهَل يُعتَبَرُ هذا تَمَسُّكًا بالإجماعِ؛ لأنَّه أقَلُّ ما قيل في المَسألةِ، فكُلُّ الأقوالِ الأُخرى مُشتَمِلةٌ عليه وزيادةٍ، أو لا يُعتَبَرُ إجماعًا [965] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (6/154، 155)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/4032). ؟
فالرَّاجِحُ: أنَّ الأخذَ بأقَلِّ ما قيل في المَسألةِ ليسَ إجماعًا، وهو اختيارُ الغَزاليِّ [966] يُنظر: ((المستصفى)) (ص: 158). ، وابنِ قُدامةَ [967] يُنظر: ((روضة الناظر)) (1/442). ، والآمِديِّ [968] يُنظر: ((الإحكام)) (1/281). ، وآخَرينَ [969] يُنظر: ((المسودة)) لآل تيمية (ص:490)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2627، 2628)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/122-124)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (1/453)، ((التحبير)) للمرداوي (4/1674). .
واستَدَلُّوا على ذلك بأنَّ المُتَّفَقَ عليه وُجوبُ هذا القَدرِ، وهو الثُّلثُ في المِثالِ السَّابقِ، والمُختَلَفُ فيه الزِّيادةُ على الثُّلثِ، ولا إجماعَ فيه؛ إذ لو كان الإجماعُ على الثُّلثِ إجماعًا على سُقوطِ الزِّيادةِ لكان موجِبُ الزِّيادةِ خارِقًا للإجماعِ، ولكان مَذهَبُه باطِلًا على القَطعِ، وليسَ كذلك بالاتِّفاقِ [970] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 158)، ((الواضح)) لابن عقيل (2/335)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/443)، ((الإحكام)) للآمدي (1/281). .
وعِندَ تَدقيقِ النَّظَرِ يُلحَظُ أنَّ القائِلينَ بأقَلِّ ما قيل يَستَدِلُّونَ على الأصلِ بمَجموعِ أمرَينِ: بالاتِّفاقِ القائِمِ على الأقَلِّ، وبالبَراءةِ الأصليَّةِ لإسقاطِ ما زادَ، كما قال الرَّازيُّ: (اعلَمْ أنَّ هذه القاعِدةَ مُفرَّعةٌ على أصلَينِ: الإجماعِ، والبَراءةِ الأصليَّةِ) [971] ((المحصول)) (6/154). ويُنظر أيضًا: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/123، 124). ، ولأجلِ ذلك خطَّؤوا مَن نَسَبَ إلى الشَّافِعيِّ أنَّه يَقولُ بالأقَلِّ تَمَسُّكًا بالإجماعِ [972] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2628،2627). .
وقيل: الأخذُ بأقَلِّ ما قيل تَمسُّكٌ بالإجماعِ، وعَزاه ابنُ السُّبكيِّ لبَعضِ الفُقَهاءِ [973] يُنظر: ((الإبهاج)) (6/2628). .

انظر أيضا: