موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ السَّادِسَ عَشَرَ: إذا اختَلَف أهلُ العَصرِ على قَولينِ، فهل يَجوزُ لمَن بَعدَهم إحداثُ قَولٍ ثالثٍ؟


لم يَختَلفِ الأُصوليُّونَ في أنَّ الإجماعَ على قَولٍ واحِدٍ واستِقرارِه يَمنَعُ حُدوثَ قَولٍ ثانٍ، بَل يُعتَبَرُ القَولُ الثَّاني خارِقًا للإجماعِ، وإنَّما وقَعَ الخِلافُ فيما إذا اختَلف أهلُ العَصرِ على قَولينِ، واستَقَرُّوا على ذلك، ثُمَّ جاءَ مَن بَعدَهم، فهَل يَجوزُ لهم إحداثُ قَولٍ ثالثٍ، أو لا يَجوزُ؟
وحاصِلُ خِلافِهم ثَلاثةُ أقوالٍ: المَنعُ [989] وهو اختيار أبي يعلى والخطيب البغدادي والشيرازي. يُنظر: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (2/44، 45)، ((العدة)) لأبي يعلى (4/1113)، ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (1/435)، ((التبصرة)) للشيرازي (ص:387)، ((التلخيص)) للجويني (3/90)، ((التمهيد)) للكلوذاني (3/310). ، والجَوازُ [990] وهو مَنسوبٌ لأهلِ الظَّاهِرِ وبَعضِ الرَّافِضةِ. يُنظر: ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/124)، ((المسودة)) لآل تيمية (ص:326)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (6/2527). ، والثَّالِثُ: التَّفصيلُ؛ فإن رَفعَ القَولُ الثَّالثُ شَيئًا مِمَّا اتَّفقَ عليه القَولانِ السَّابقانِ لم يَجُزْ، وإن لم يَرفَعْ جاز، وهو المُختارُ عِندَ مُتَأخِّري الأُصوليِّينَ [991] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص:326-328)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص:291)، ((البحر المحيط)) (6/516-519)، ((تشنيف المسامع)) كلاهما للزركشي (3/137-138)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (1/457)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (3/106). ، وهو اختيارُ المُحَقِّقينَ [992] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (6/ 2527). ، واختارَه بَعضُ المالكيَّةِ كالقَرافيِّ [993] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 326). ، وبَعضُ الشَّافِعيَّةِ كالرَّازيِّ [994] يُنظر: ((المحصول)) (4/128). ويُنظر أيضًا: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 326). ، والآمِديِّ [995] يُنظر: ((الإحكام)) (1/268). ، وأتباعِهما [996] يُنظر: ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (1/589)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (5/2075)، ((شرح العضد على المختصر)) للإيجي (2/355)، ، وصَفيِّ الدِّينِ الهِنديِّ [997] يُنظر: ((نهاية الوصول)) (6/2527). ، وبَعضُ الحَنابلةِ كالطُّوفيِّ [998] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) (3/93). .
ومِثالُ إحداثِ قَولٍ ثالثٍ رافِعٍ للاتِّفاقِ: اختِلافُ العُلماءِ حَولَ ميراثِ الجَدِّ مَعَ الأخِ، على قَولينِ: مِنهم مَن جَعَل المالَ كُلَّه للجَدِّ [999] وهو قول أبي حنيفة. يُنظر: ((مجمع الأنهر)) لزاده (2/757). ، ومِنهم مَن قال: إنَّه يُقاسِمُ الأخَ [1000] وهو قول الصاحبين من الحنفية. يُنظر: ((مجمع الأنهر)) لزاده (2/757)، واختيار المالكية. يُنظر: ((الإشراف)) للقاضي عبد الوهاب (2/1026)، ((الكافي)) لابن عبد البر (2/1059)، والشافعية. يُنظر: ((الأم)) للشافعي (4/85)، والحنابلة. يُنظر: ((مختصر الخرقي)) (ص:90). ؛ فالقَولُ الثَّالثُ: وهو صَرفُ المالِ كُلِّه إلى الأخِ غَيرُ جائِز؛ لأنَّ أهلَ العَصرِ الأوَّلِ القائِلينَ بالقَولينِ الأوَّلينِ اتَّفقوا على أنَّ للجَدِّ قِسطًا مِن المالِ، فالقَولُ بصَرفِ المالِ كُلِّه إلى الأخِ يُبطِلُ ذلك؛ فهو مُخالِفٌ للإجماعِ [1001] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (4/128)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/93، 94)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (5/2076). .
ومِثالُ إحداثِ قَولٍ ثالثٍ غَيرِ رافِعٍ للاتِّفاقِ: الاختِلافُ في مَتروكِ التَّسميةِ؛ فمِنهم مَن قال: يَحِلُّ أكلُه سَواءٌ كان التَّركُ عَمدًا أو سَهوًا [1002] وهو قَولُ الشَّافِعيَّةِ. يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (15/10)، ((كفاية النبيه)) لابن الرفعة (8/155). ، ومِنهم مَن قال: لا يَحِلُّ أكلُه سَواءٌ كان التَّركُ عَمدًا أو سَهوًا [1003] وهو قَولُ الشَّعبيِّ وأبي ثَورٍ ورِوايةٌ عن أحمَدَ وابنِ حَزمٍ الظَّاهريِّ. يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (6/87)، ((المغني)) لابن قدامة (9/367)، ((الشرح الكبير على متن المقنع)) لشمس الدين ابن قدامة (11/41)، ((الجامع لعلوم الإمام أحمد)) (12/499، 500). ، والقَولُ الثَّالثُ: وهو التَّفصيلُ بَينَ العَمدِ والسَّهوِ في حِلِّ الأكلِ وعَدَمِه [1004] وهو قَولُ الحَنَفيَّةِ. يُنظر: ((الهداية)) للمرغيناني (4/347)، ((الاختيار)) لابن مودود الموصلي (5/9)، وقول المالكيَّةِ أيضًا. يُنظر: ((عيون المسائل)) للقاضي عبد الوهاب (ص:491). ليسَ خَرقًا للإجماعِ؛ لأنَّه لم يَخرُجْ عنِ القَولينِ السَّابقَينِ؛ فاختيرَ مِن كُلِّ قَولٍ حالةٌ مِنه، دونَ الإتيانِ بقَولٍ خارِجٍ عنهما [1005] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي ((6/2528، 2529)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (5/2079). .
واستَدَلُّوا على ذلك بأنَّ المَحذورَ مُخالَفةُ الإجماعِ والخُروجُ عن سَبيلِ المُؤمِنينَ، أو إحداثُ قَولٍ يَلزَمُ مِنه مُخالَفةُ الإجماعِ، فإذا كان إحداثُ القَولِ لا يُخالِفُ الإجماعَ ولا يَخرُجُ عنه وجَبَ جَوازُه [1006] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (4/129)، ((الإحكام)) للآمدي (1/269). .
وبَيانُه: أنَّ المَحذورَ خَرقُ الإجماعِ، وما ذُكِرَ ليسَ كذلك؛ لأنَّ خَرقَ الإجماعِ إنَّما هو القَولُ بما يُخالفُ ما اتَّفقَ عليه أهلُ الإجماعِ، وما هاهنا ليسَ كذلك، فإنَّ القائِلَ بالنَّفيِ في البَعضِ والإثباتِ في البَعضِ قد وافقَ في كُلِّ صورةٍ مَذهَبًا، فلم يَكُنْ مُخالِفًا للإجماعِ [1007] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (1/269، 270). .
وإحداثُ قَولٍ ثالثٍ لا يَرفعُ الاتِّفاقَ ليسَ مُخالفًا، بَل هو موافِقٌ لكُلِّ فريقٍ في بَعضِ ما ذَهَبَ إليه، وهذا لا يَتَحَقَّقُ به مُخالفةُ سَبيلِ المُؤمِنينَ، فلا يَكونُ باطِلًا؛ لأنَّ الدَّليلَ السَّمعيَّ إنَّما دَلَّ على تَحريمِ مُخالفةِ سَبيلِ المُؤمِنينَ، فسَبيلُ بَعضِهم لا يَتَناولُه دَليلُ السَّمعِ، وإلَّا لانعَقدَ الإجماعُ بقَولِ بَعضِهم، وهو باطِلٌ [1008] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/94). .
وهذا بخِلافِ ما إذا كان القَولُ الثَّالثُ رافِعًا لِما اتُّفِقَ عليه فإنَّه حينَئِذٍ يَكونُ مُخالفًا للإجماعِ، فلا يَجوزُ المَصيرُ إليه، وذلكَ كما في مسألةِ الجَدِّ المتقدِّمةِ [1009] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (1/269)، ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/124، 125)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (6/2528). .

انظر أيضا: