موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ الرَّابعُ: القياسُ في الرُّخَصِ


مَعناه: إذا شُرِعَت رُخصةٌ لعُذرٍ مَخصوصٍ، ووُجِدَ ما يُشبِهُ هذا العُذرَ في شَيءٍ آخَرَ، فهَل نَحكُمُ على هذا الشَّيءِ بأنَّه رُخصةٌ قياسًا على الأوَّلِ للاتِّفاقِ في العِلَّةِ؟
فمَثَلًا: الحَجَرُ يَجوزُ الاستِجمارُ به، وإن كان لا يُزيلُ كُلَّ النَّجاسةِ، وهذه رُخصةٌ، فهل يَجوزُ أن يُقاسَ غَيرُ الحَجَرِ عليه بجامِعِ أنَّ كُلًّا مِنهما جامِدٌ طاهِرٌ قالِعٌ يُنَقِّي المَحَلَّ [1716] يُنظر: ((الرخص الشرعية)) لعبد الكريم النملة (ص: 177). ؟
ويُعَبَّرُ عن القياسِ على الرُّخَصِ بالمُخالِفِ للقَواعِدِ [1717] يُنظر: ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 463). .
حُكمُ إجراءِ القياسِ في الرُّخَصِ:
يَجوزُ إثباتُ الرُّخَصِ بالقياسِ، ولا مانِعَ مِن ذلك إذا عَرَفنا العِلَّةَ وتَحَقَّقنا مِنها.
وهو قَولٌ لمالِكٍ [1718] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 415)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/461). قال ابنُ عاشورٍ: (القياسُ على الرُّخصِ هو صَريحُ مَذهَبِ مالكٍ رَحِمَه اللهُ... وشَرطُه: تَحَقُّقُ وُجودِ سَبَبِ الرُّخصةِ). ((حاشية التوضيح والتصحيح)) (2/190). ، وهو مَذهَبُ بَعضِ المالكيَّةِ [1719] يُنظر: ((عيون الأدلة)) لابن القصار (3/1313). ، والشَّافِعيَّةِ [1720] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (7/3220)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/158). ونَقلُه الرَّازيُّ في ((المَحصول)) (5/349)، وابن السُّبكي في ((رفع الحاجب)) (4/402) عن الشَّافِعيِّ، لكِنَّ هذا النَّقلَ مَردودٌ بما سيَأتي مِن النَّصِّ الصَّريحِ عن الشَّافِعيِّ بخِلافِه. ، والحَنابِلةِ [1721] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (7/3518). ، وحَكاه ابنُ السُّبكيِّ عن أكثَرِ أهلِ العِلمِ [1722] يُنظر: ((رفع الحاجب)) (4/402). .
والشَّرطُ في هذا الجَوازِ ما قاله ابنُ رُشدٍ: (قد يُقاسُ على الرُّخَصِ عِندَ قَومٍ إذا فُهِمَ هنالكَ أسبابٌ أعَمُّ مِن الأشياءِ التي عُلِّقَت الرُّخَصُ بالنَّصِّ بها) [1723] يُنظر: ((بداية المجتهد)) (4/29). .
والضَّابطُ هنا: أنَّ ما لم يوجَدْ له نَظيرٌ فلا يُلحَقُ به؛ ولهذا لم يُلحَقِ المَرَضُ بالسَّفَرِ؛ لأنَّه لا يُعلَمُ نَظيرٌ له في الحاجةِ [1724] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/86). .
أدِلَّةُ جَوازِ القياسِ في الرُّخَصِ:
استَدَلَّ الأُصوليُّونَ على ذلك بأدِلَّةٍ، أهَمُّها:
1- عُمومُ الأدِلَّةِ السَّابقةِ في حُجِّيَّةِ القياسِ؛ فهيَ تَدُلُّ على جَوازِ القياسِ في الأحكامِ الشَّرعيَّةِ مُطلقًا مِن غَيرِ فصلٍ بَينَ بابٍ وبابٍ؛ فالتَّخصيصُ ببابٍ دونَ بابٍ مُخالفٌ لإطلاقِ تلك الأدِلَّةِ، فكان باطِلًا [1725] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (3/450)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (7/3220)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2250). .
2- أنَّ هذا حُكمٌ ثَبَتَت المُناسَبةُ بَينَه وبَينَ المَعنى الجالِبِ له، فجاز إثباتُه بالقياسِ إذا كان مُستَنبَطًا مِن أصلٍ شَرعيٍّ؛ قياسًا على الأحكامِ كُلِّها، فإنَّها إنَّما تَثبُتُ بهذا الطَّريقِ [1726] يُنظر: ((الوصول)) لابن برهان (2/250)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/462). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:
يَتَخَرَّجُ على هذه المَسألةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، ومِنها:
1- اختَلف الفُقَهاءُ في حُكمِ قَليلِ النَّجاساتِ على ثَلاثةِ أقوالٍ: فقَومٌ رَأوا قَليلَها وكَثيرَها سَواءً، ومِمَّن قال بهذا الشَّافِعيُّ. وقَومٌ رَأوا أنَّ قَليلَ النَّجاساتِ مَعفوٌّ عنه، وحدُّوه بقَدرِ الدِّرهَمِ البَغليِّ (نَوعٌ مِن الدَّراهمِ كبيرُ الحَجمِ)، ومِمَّن قال بهذا أبو حَنيفةَ، وقال فريقٌ ثالثٌ: قَليلُ النَّجاساتِ وكَثيرُها سَواءٌ إلَّا الدَّمَ، وهو مَذهَبُ مالِكٍ.
وسَبَبُ اختِلافِهم: اختِلافُهم في قياسِ قَليلِ النَّجاسةِ على الرُّخصةِ الوارِدةِ في الاستِجمارِ؛ للعِلمِ بأنَّ النَّجاسةَ هناكَ باقيةٌ، فمَن أجازَ القياسَ على ذلك استَجازَ قَليلَ النَّجاسةِ؛ ولذلك حَدُّوه بالدِّرهَمِ؛ قياسًا على قَدرِ المَخرَجِ، ومَن رَأى أنَّ تلك رُخصةٌ، والرُّخَصُ لا يُقاسُ عليها، مَنَع ذلك [1727] يُنظر: ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/88). .
2- أنَّ قَطعَ نَباتِ الحَرَمِ لا يَجوزُ، ويُستَثنى مِنه الإذخِرُ؛ لأنَّهم يَسقُفونَ به بُيوتَهم، ويَقُدُّ به القَينُ، وهو الحَدَّادُ أو الصَّائِغُ، ودَليلُه أنَّ العَبَّاسَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: يا رَسولَ اللهِ، إلَّا الإذخِرَ [1728] قال النَّوويُّ: (هو نَبتٌ مَعروفٌ طَيِّبُ الرَّائِحةِ). ((شرح مسلم)) 9/127). ؛ فإنَّه لِقَينِهم وبُيوتِهم، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إلَّا الإذخِرَ [1729] أخرجه البخاري (1834)، ومسلم (1353) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. . فلو احتيجَ إلى قَطعِ نَباتِ الحَرَمِ للدَّواءِ فوجهانِ عِندَ الشَّافِعيَّةِ أصَحُّهما: أنَّه يَجوزُ؛ قياسًا على حاجةِ الإذخِرِ وأَولى؛ لأنَّها أهَمُّ مِنها. والثَّاني: المَنعُ؛ لأنَّ النَّصَّ لم يَرِدْ إلَّا باستِثناءِ الإذخِرِ [1730] يُنظر: ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 465). .
3- المَبيتُ بمِنًى للحاجِّ واجِبٌ، وقد رُخِّصَ في تَركِه للرُّعاةِ وأهلِ سِقايةِ العَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عنه، فهَل يَلتَحِقُ بهم المَعذورُ، كأن يَكونَ عِندَه مَريضٌ مُحتاجٌ لتَعَهُّدِه، أو كان به مَرَضٌ يَشُقُّ عليه المَبيتُ، أو له بمَكَّةَ مالٌ يُخافُ ضَياعَه؟ فيه وجهانِ للشَّافِعيَّةِ: أصَحُّهما: نَعَم؛ قياسًا على العُذرِ، والثَّاني: المَنعُ، والرُّخصةُ ورَدَت لهم خاصَّةً [1731] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/79). .
وقيل: لا يَجوزُ إجراءُ القياسِ في الرُّخَصِ.
وهو قَولٌ لمالِكٍ [1732] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 415)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/461). ، ونَصَّ عليه الشَّافِعيُّ [1733] قال: (ما كان للهِ فيه حُكمٌ مَنصوصٌ، ثُمَّ كانت لرَسولِ اللهِ سُنَّةٌ بتَخفيفٍ في بَعضِ الفَرضِ دونَ بَعضٍ: عُمِل بالرُّخصةِ فيما رَخَّصَ فيه رَسولُ اللهِ دونَ ما سِواها، ولم يُقَسْ ما سِواها عليها) ثُمَّ فرَّعَ على ذلك عَدَمَ جَوازِ المَسحِ على العِمامةِ والبُرقُعِ والقُفَّازَينِ قياسًا على الخُفَّينِ. يُنظر: ((الرسالة)) (ص: 545). وقال أيضًا: (الأصلُ على الفَرضِ: إتمامُ الحَجِّ والعُمرةِ للَّهِ، والرُّخصةُ في الإحلالِ للمُحصَرِ بعَدوٍّ، فقُلْنا في كُلٍّ بأمرِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، ولم نَعْدُ بالرُّخصةِ مَوضِعَها، كَما لمَ نَعْدُ بالرُّخصةِ المَسحَ على الخُفَّينِ، ولم نَجعَلْ عِمامةً ولا قُفَّازَينِ قياسًا على الخُفَّينِ). ((الأم)) (2/182). ، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [1734] يُنظر: ((فصول البدائع)) للفناري (2/373)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (2/305). ، وكَثيرٍ مِن المالكيَّةِ [1735] يُنظر: ((عيون الأدلة)) لابن القصار (3/1313)، ((تقريب الوصول)) لابن جزي (ص: 185). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ [1736] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/75). .

انظر أيضا: