الفَرعُ السَّابعُ: القياسُ في الأسماءِ واللُّغاتِ
مَعنى القياسِ في اللُّغاتِ:أن يَكونَ الواضِعُ قد وضَعَ لفظًا مُعَيَّنًا لمُناسَبةٍ، فيُحكَمُ بوُجودِ تلك المُناسَبةِ في غَيرِه بأنَّه مَوضوعٌ أيضًا
[1775] يُنظر: ((فواتح الرحموت)) للأنصاري (1/149). .
والمُرادُ بالأسماءِ هنا: الأسماءُ المَوضوعةُ للمَعاني المَخصوصةِ الدَّائِرةِ مَعَ الصِّفاتِ المَوجودةِ فيها وُجودًا وعَدَمًا
[1776] قال الزَّركَشيُّ: (ليسَت هذه المَسألةُ مَسألةَ التَّعليلِ بالاسمِ، بل تلك في أنَّه هَل يُناطُ حُكمٌ شَرعيٌّ باسمٍ؟ وهذه في أنَّه هَل يُسَمَّى شَيءٌ باسِمِ شَيءٍ آخَرَ لُغةً لجامِعٍ؟ والقياسُ الشَّرعيُّ إلحاقُ فَرع بأصلٍ في حُكمِه). ((البحر المحيط)) (7/83). ، ومِن أمثِلةِ ذلك ما يلي
[1777] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (1/57)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 413)، ((الإبهاج)) لابن السبكي (6/2260)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/447). :
1- الخَمرُ؛ فإنَّها اسمٌ للمُسكِرِ المُعتَصَرِ مِن العِنَبِ، وهذا الاسمُ دائِرٌ مَعَ الإسكارِ وجودًا وعَدَمًا، فهَل يُقاسُ عليه النَّبيذُ في كونِه مُسَمًّى بذلك الوَصفِ؛ لمُشارَكَتِه في وَصفِ الإسكارِ؟
2- إطلاقُ اسمِ السَّارِقِ على النَّبَّاشِ بواسِطةِ مُشارَكَتِه للسَّارِقِ مِن الأحياءِ في أخذِ المالِ على سَبيلِ الخُفيةِ، فالعَرَبُ وضَعَت السَّرِقةَ لأخذِ المالِ على هذه الصُّورةِ، حتَّى فرَّقَت بَينَ الغاصِبِ والمُحارِبِ والجاحِدِ والخائِنِ والمُختَلِسِ والسَّارِقِ، فحينَئِذٍ السَّرِقةُ مَوضوعةٌ لشَيءٍ مَخصوصٍ، فهَل يُسَمَّى النَّبَّاشُ للقُبورِ سارِقًا لأجلِ مُشابَهَتِه للسَّارِقِ؟
3- إطلاقُ اسمِ الزَّاني على اللَّائِطِ؛ لمُشارَكَتِه بإيلاجِ فَرجٍ في فَرجٍ، فهَل يُسَمَّى اللَّائِطُ زانيًا لمُشابَهَتِه للزَّاني؟
حُكمُ القياسِ في اللُّغاتِ:يَجوزُ القياسُ في الأسماءِ اللُّغَويَّةِ المُشتَقَّةِ مِن المَعاني، وهو مَنقولٌ عن مالكٍ
[1778] يُنظر: ((المقدمة)) لابن القصار (ص: 194). ، وهو ظاهرُ مَذهَبِ أحمَدَ؛ حَيثُ جَعَل النَّبَّاشَ سارِقًا، والنَّبيذَ خَمرًا، وجَعَل اللِّواطَ زِنًا، وسَمَّى اللَّائِطَ زانيًا
[1779] يُنظر: ((الواضح)) لابن عقيل (2/397). . فقد أومَأ إليه أحمَدُ في رِوايةِ الأثرَمِ، وقد ذُكِرَ له حَديثُ:
((الخَمرُ ما خامَرَ العَقلَ)) [1780] أخرجه البخاري (4619)، ومسلم (3032)، ولفظُ البخاريِّ: عن ابنِ عُمَرَ، قال: ((سَمِعتُ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه على مِنبَرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَقولُ: أمَّا بَعدُ، أيُّها النَّاسُ إنَّه نَزَل تَحريمُ الخَمرِ، وهيَ مِن خَمسةٍ مِن: العِنَبِ والتَّمرِ والعَسَلِ والحِنطةِ والشَّعيرِ، والخَمرُ ما خامَرَ العَقلَ)). وسُئِل: (أيُّ شَيءٍ يَعني به؟ قال: ما غَيَّرَ العَقلَ. قيل له: كُلُّ نَبيذٍ غَيَّرَ العَقلَ فهو خَمرٌ؟ قال: نَعَم)
[1781] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (4/1347)، ((التمهيد)) للكلوذاني (3/455)، ((الواضح)) لابن عقيل (2/397). .
وهو مَذهَبُ بَعضِ الحَنَفيَّةِ
[1782] يُنظر: ((جامع الأصول)) لركن الدين السمرقندي (2/276). ، وبَعضِ المالكيَّةِ
[1783] يُنظر: ((المنهاج)) للباجي (ص: 154). ، وكَثيرٍ مِن الشَّافِعيَّةِ
[1784] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 444)، ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص: 344)، ((الإبهاج)) لابن السبكي (6/2258). ، والحَنابِلةِ
[1785] يُنظر: ((الواضح)) لابن عقيل (2/397)، ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 394)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/476)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/223). ، وكَثيرٍ مِن أهلِ العَرَبيَّةِ
[1786] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/339)، ((الإبهاج)) لابن السبكي (6/2258). .
الأدِلَّةُ على جَوازِ القياسِ في اللُّغاتِ:الدَّليلُ الأوَّلُ: عُمومُ قَولِ اللهِ تعالى:
فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر: 2] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ الاعتِبارَ رَدُّ الشَّيءِ إلى نَظيرِه بضَربٍ مِن الشَّبَهِ، وإذا كان هذا هو الاعتِبارَ في إثباتِ الأحكامِ، فكذلك في إثباتِ الأسماءِ
[1787] يُنظر: ((المقدمة)) لابن القصار (ص: 194)، ((العدة)) لأبي يعلى (4/1347). .
الدَّليلُ الثَّاني: فِعلُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، فقد ألحَقَ عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه بالخَمرِ كُلَّ ما خامَرَ العَقلَ مِن شَرابٍ؛ فعن ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: خَطَبَ عُمَرُ على مِنبَرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: "إنَّه قد نَزَل تَحريمُ الخَمرِ، وهيَ مِن خَمسةِ أشياءَ: العِنَبِ والتَّمرِ والحِنطةِ والشَّعيرِ والعَسَلِ، والخَمرُ ما خامَرَ العَقلَ
[1788] أخرجه البخاري (5588) واللفظ له، ومسلم (3032). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه أخبَرَ أنَّ الخَمرَ حُرِّمَت يَومَ حُرِّمَت وهيَ تُتَّخَذُ مِن الحِنطةِ والشَّعيرِ والعَسَلِ، كما أخبَرَ أنَّها كانت تُتَّخَذُ مِن العِنَبِ والتَّمرِ، وكانوا يُسَمُّونَها كُلَّها خَمرًا، ثُمَّ ألحَقَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه بها كُلَّ ما خامَرَ العَقلَ مِن شَرابٍ، وجَعَله خَمرًا؛ إذ كان في مَعناها؛ لمُلابَسَتِه العَقلَ ومُخامَرَتِه إيَّاه، وفيه إثباتُ القياسِ، وإلحاقُ حُكمِ الشَّيءِ بنَظيرِه، وفيه دَليلٌ على جَوازِ إحداثِ الاسمِ للشَّيءِ بالقياسِ، وأخذِه مِن طَريقِ الاشتِقاقِ بَعدَ أن لم يَكُنْ، وفيه دَليلٌ على فسادِ قَولِ مَن زَعَمَ أنْ لَا خَمرَ إلَّا مِن العِنَبِ والزَّبيبِ والتَّمرِ
[1789] يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (4/262)، ((فتح الباري)) لابن حجر (10/50). .
الدَّليلُ الثَّالثُ: أنَّ أهلَ اللُّغةِ قد استَعمَلوا القياسَ في الأسماءِ عِندَ وُجودِ مَعنى المُسَمَّى في غَيرِه، وأجرَوا على الشَّيءِ اسمَ الشَّيءِ إذا وُجِدَ بَعضُ مَعناه فيه، فسَمَّوا الرَّجُلَ البَليدَ حِمارًا؛ لوُجودِ البَلَهِ فيه، ويَقولونَ للرَّجُلِ الشُّجاعِ: سَبُعًا؛ لوُجودِ الشِّدَّةِ فيه، ونَظائِرَ ذلك
[1790] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (4/1348). ويُنظر أيضًا: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 444)، ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص: 344). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:1- أنَّ اللِّواطَ يوجِبُ حَدَّ الزِّنا؛ لوُجودِ مَعنى الزِّنا فيه، وكان أبو العَبَّاسِ بنُ سُرَيجٍ إذا سُئِل عن هذه المَسألةِ يَقولُ: (أنا أستَدِلُّ على أنَّ اللِّواطَ زِنًا، فإذا ثَبَتَ ذلك الحُكمُ فحُكمُ الزِّنا ثابتٌ بنَصِّ الكِتابِ) وهكذا كان إذا سُئِل عن مَسألةِ النَّبيذِ يَقولُ: (أنا أستَدِلُّ على أنَّ النَّبيذَ خَمرٌ، فإذا ثَبَتَ ذلك فحُكمُ الخَمرِ مَنصوصٌ عليه في كِتابِ اللهِ تعالى)
[1791] يُنظر: ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص: 345)، ((أثر القواعد الأصولية)) للخن (ص: 516). .
2- أنَّ النَّبَّاشَ يُقطَعُ؛ قياسًا على سارِقِ المالِ، فيُقامُ عليه حَدُّ السَّرِقةِ
[1792] يُنظر: ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص: 347)، ((أثر القواعد الأصولية)) للخن (ص: 516)، ((قواعد أصول الفقه)) لصفوان داوودي (2/799). .
وقيل: اللُّغاتُ الحَقيقيَّةُ كُلُّها لا تَثبُتُ إلَّا بالنَّقلِ عن أئِمَّةِ اللُّغةِ، بخِلافِ المُستَعاراتِ، أمَّا إثباتُ الأسماءِ اللُّغَويَّةِ بالقياسِ المُصطَلَحِ بَينَ الفُقَهاءِ فلا يَجوزُ.
وهو مَذهَبُ عامَّةِ الحَنَفيَّةِ
[1793] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (4/109)، ((أصول السرخسي)) (2/157)، ((جامع الأصول)) لركن الدين السمرقندي (2/276)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (1/78). ، والمُحَقِّقينَ مِن المالِكيَّةِ
[1794] يُنظر: ((إحكام الفصول)) للباجي (1/304). كالباقِلَّانيِّ
[1795] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) (1/361). ، وأكثَرِ الشَّافِعيَّةِ
[1796] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/339)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (1/255)، ((الإبهاج)) لابن السبكي (6/2258)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 317). ، وجَماعةٍ مِن الفُقَهاءِ
[1797] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 412). .