موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ الرَّابعُ: قادِحُ النَّقضِ


1- التَّعريفُ بقادِحِ النَّقضِ:
النَّقضُ هو: أن توجَدَ العِلَّةُ في مَوضِعٍ دونَ حُكمِها [1964] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/211)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 399)، ((تقريب الوصول)) لابن جزي (ص: 189). .
وقد سَبَقَ في بَيانِ مَعنى الدَّوَرانِ كمَسلكٍ مِن مَسالِكِ العِلَّةِ وطَريقٍ مِن طُرُقِ ثُبوتِها: أن يوجَدَ الحُكمُ عِندَ وُجودِ الوصفِ، ويَعدَمَ عِندَ عَدَمِه.
لكِن قد يَدَّعي القائِسُ ثُبوتَ الحُكمِ لثُبوتِ عِلَّةٍ مِن العِلَلِ، فتوجَدُ العِلَّةُ مَعَ عَدَمِ الحُكمِ، فيَكونُ هذا نَقضًا لها، ومُبطِلًا لدَعوى مَن ادَّعى أنَّها جالِبةٌ للحُكمِ، فبمِثلِ هذا النَّقضِ يَبطُلُ القياسُ ويَمتَنِعُ الاستِدلالُ به [1965] يُنظر: ((الحدود)) للباجي (ص: 124)، ((نشر البنود)) لعبد الله الشنقيطي (2/210). .
فمَعنى كَونِ النَّقضِ قادِحًا، أي: يَكونُ دَليلًا على عَدَمِ اعتِبارِ العِلَّةِ [1966] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/384). ، فلو كان الوَصفُ المَذكورُ عِلَّةً ما تَخَلَّف عنه الحُكمُ [1967] يُنظر: ((الدرر اللوامع)) للكوراني (3/316). .
وجُملةُ (أن توجَدَ العِلَّةُ في مَوضِعٍ): أي: في صورةٍ أُخرى، مِثلُ: تَعليلِ وُجوبِ الزَّكاةِ بالغِنى، فإنَّه يَنتَقِضُ بالعَقارِ، فإنَّ فيه الغِنى مَعَ عَدَم الزَّكاةِ؛ فقد وجَدنا العِلَّةَ بدونِ الحُكمِ [1968] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/383). .
فحاصِلُ النَّقضِ في العِلَّةِ: أنَّه عِبارةٌ عن إبداءِ الوَصفِ الذي ادَّعى المُستَدِلُّ حُجَّةَ عِلِّيَّتِه في بَعضِ الصُّورِ مَعَ تَخَلُّفِ الحُكمِ عنه فيها [1969] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي (6/2409). .
وكَما يَرِدُ النَّقضُ على العِلَّةِ فقد يَرِدُ على الحُدودِ، وقد يَرِدُ على الأدِلَّةِ: فوُجودُ الحَدِّ بدونِ المَحدودِ نَقضٌ عليه، ووُجودُ الدَّليلِ بدونِ المَدلولِ نَقضٌ عليه. والألفاظُ اللُّغَويَّةُ كُلُّها أدِلَّةٌ، فمَتى وُجِدَ لفظٌ بدونِ مُسَمَّاه لُغةً فهو نَقضٌ عليه. ويَجمَعُ الثَّلاثةَ أن يُقالَ: وُجودُ المُستَلزِمِ بدونِ المُستَلزَمِ [1970] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 399)، ((تقريب الوصول)) لابن جزي (ص: 189)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/383)، ((نشر البنود)) لعبد الله الشنقيطي (2/209). .
وأطلقَ الحَنَفيَّةُ عليه اسمَ المُناقَضةِ [1971] يُنظر: ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (3/263)، ((فواتح الرحموت)) للأنصاري (2/389). ، قال الدَّبُوسيُّ: (حَدُّها: أن توجَدَ العِلَّةُ على الوَجهِ الذي جُعِلت عِلَّةً بلا مانِعٍ ولا حُكمٍ مَعَها) [1972] ((تقويم الأدلة)) (ص: 328). .
أمَّا أهلُ النَّظَرِ فيُفرِّقونَ بَينَ النَّقضِ والمُناقَضةِ؛ فالنَّقضُ ما تَقدَّمَ ذِكرُه، وأمَّا المُناقَضةُ فهيَ عِندَهم عِبارةٌ عن مَنعِ مُقدِّمةِ الدَّليلِ، أي: إبطالِ دَليلِ المُعَلِّلِ [1973] يُنظر: ((التلويح)) للفتازاني (2/181)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (3/263)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (4/138). .
3- مِثالُ النَّقضِ:
قَولُ الشَّافِعيَّةِ في حَقِّ مَن لم يُبَيِّتِ النِّيَّةَ: يَعرَى أوَّلُ صَومِه عنها، فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ الصَّومَ عِبارةٌ عن إمساكِ النَّهارِ جَميعِه مَعَ النِّيَّةِ، فجُعِل العَراءُ عن النِّيَّةِ في أوَّلِ الصَّومِ عِلَّةً لبُطلانِه.
فيَنقُضُه الحَنَفيُّ بالتَّطَوُّعِ، فيَقولُ: ما ذَكَرتَ مَنقوضٌ بصَومِ التَّطَوُّعِ؛ فإنَّه يَصِحُّ بدونِ تَبييتِ النِّيَّةِ، فقد وُجِدَت العِلَّةُ -وهيَ العَراءُ- بدونِ الحُكمِ، وهو عَدَمُ الصِّحَّةِ في التَّطَوُّعِ [1974] يُنظر: ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 339)، ((تيسير الوصول)) لابن إمام الكاملية (5/348). .
مِثالٌ آخَرُ: أن يَستَدِلَّ الحَنَفيُّ على أنَّ النَّجاسةَ تَزولُ بغَيرِ الماءِ بأنَّ الخَلَّ مُزيلٌ للعَينِ والأثَرِ، فوجَبَ أن يُطَهِّرَ المَحَلَّ النَّجِسَ؛ قياسًا على الماءِ.
فيَقولُ المالِكيُّ: هذا يَنتَقِضُ بالدُّهنِ؛ فإنَّه يُزيلُ العَينَ والأثَرَ، ومَعَ ذلك فلا يُطَهِّرُ عِندَكُم المَحَلَّ النَّجِسَ؛ فقد تَخَلَّف الحُكمُ مَعَ وُجودِ العِلَّةِ [1975] يُنظر: ((الحدود)) للباجي (ص: 124). .
4- أهَمِّيَّةُ قادِحِ النَّقضِ:
يُعتَبَرُ النَّقضُ مِن أهَمِّ المَباحِثِ عِندَ الأُصوليِّينَ وغَيرِهم؛ نَظَرًا لحاجَتِهم إليه لكَثرةِ جَرَيانِه في المُناظَراتِ والمُناقَشاتِ، وبالجَواب عنه يَتَبَيَّنُ الجَمعُ بَينَ الأحكامِ المُتَضادَّةِ ويَندَفِعُ تَعارُضُها [1976] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/329)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2219). .
قال تاجُ الدِّين السُّبكيُّ: (الكَلامُ في النَّقضِ مِن عَظائِمِ المُشكِلاتِ أُصولًا وجَدَلًا) [1977] ((رفع الحاجب)) (4/191)، ((الإبهاج)) (6/2410). .
5- العَلاقةُ بَينَ النَّقضِ وبَينَ تَخصيصِ العِلَّةِ:
الكَلامُ في النَّقضِ مِن فُروعِ القَولِ بتَخصيصِ العِلَّةِ، فإن جَوَّزنا تَخصيصَها لم يَتَّجِهِ القدحُ بالنَّقضِ، وإلَّا اتَّجَهَ [1978] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/338). ، وقد سَبَقَ تَعريفُ تَخصيصِ العِلَّةِ بأنَّه: (تَخَلُّفُ الحُكمِ في بَعضِ الصُّورِ عن الوصفِ المُدَّعى عِلَّةً؛ لمانِعٍ) وعلى ذلك: فمَن مَنَعَ تَخصيصَ العِلَّةِ فإنَّه يَرى النَّقضَ قادِحًا من قَوادِحِ العِلَّة؛ ولذلك عَبَّرَ عن تَخَلُّفِ الحُكمِ عن المَحَلِّ مَعَ وُجودِ العِلَّةِ بـ(النَّقض).
ومَن أجازَ تَخصيصَ العِلَّةِ مَنَعَ أن يَكونَ النَّقضُ قادِحًا مِن قوادِحِها؛ ولذلك عَبَّرَ عن تَخَلُّفِ الحُكمِ عن المَحَلِّ مَعَ وُجودِ العِلَّةِ بالتَّخصيصِ [1979] يُنظر: ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/398)، ((جمع الجوامع)) لابن السبكي (ص: 96)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/330). .
قال ابنُ السَّمعانيِّ: (إنَّ سُؤالَ النَّقضِ بناءً على أنَّ تَخصيصَ العِلَّة لا يَجوزُ، وإذا لم يَجُز تَخصيصُه على ما سَبَقَ ذِكرُه فلا بُدَّ أن يَكونَ النَّقضُ مُبطِلًا للعِلَّةِ) [1980] ((قواطع الأدلة)) (2/214). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (سُؤالُ النَّقضِ الوارِدِ على العِلَّةِ مَبنيٌّ على تَخصيصِ العِلَّةِ، وهو ثُبوتُ الوَصفِ بدونِ الحُكمِ) [1981] ((مجموع الفتاوى)) (20/168). .
6- هَل النَّقضُ قادِحٌ في العِلِّيَّةِ؟
النَّقضُ لا يَقدَحُ في العِلَّةِ إذا كان تَخَلُّفُ الحُكمِ لوُجودِ مانِعٍ في صورةِ النَّقضِ، أو فَقدِ شَرطٍ. ويَقدَحُ فيها إذا لم يَكُنْ مانِعٌ، ولا فَقدُ شَرطٍ. وحاصِلُه: أنَّ التَّخَلُّفَ في مِثلِ هذه الصُّورةِ مَحمولٌ على مانِعٍ اتُّفِقَ عليه في الجُملةِ.
وهو قَولُ بَعضِ الأُصوليِّينَ [1982] يُنظر: ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/398)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/332). وعَبَّرَ عنه الزَّركَشيُّ بقَولِه: (لا يَقدَحُ حَيثُ وُجِدَ مانِعٌ مُطلقًا، سَواءٌ كانت العِلَّةُ منصوصةً أو مُستَنبَطةً، فإن لم يَكُنْ مانِعٌ قدَحَ... وفقدُ الشَّرطِ مُلحَقٌ بالمانِعِ). ، وإليه ذَهَب أكثَرُ الفُقَهاءِ [1983] يُنظر: ((الدرر اللوامع)) للكوراني (3/318). ، واختارَه ابنُ التِّلِمسانيِّ [1984] يُنظر: ((شرح المعالم)) (2/400). ، وابنُ الحاجِبِ [1985] يُنظر: ((مختصر منتهى السول والأمل)) (2/1045). ، والبَيضاويُّ [1986] يُنظر: ((المنهاج)) (ص: 211). ، والهنديُّ [1987] يُنظر: ((نهاية الوصول)) (8/3400). ، والتِّلِمسانيُّ [1988] يُنظر: ((مفتاح الوصول)) (ص: 681). ، وابنُ إمامِ الكامِليَّةِ [1989] يُنظر: ((تيسير الوصول)) (5/350). .
قال ابنُ التِّلِمسانيِّ: (هذا المَذهَبُ أعدَلُ المَذاهِبِ، وعليه يَدورُ البَحثُ عِندَ الأكثَرينَ في المُناظَراتِ) [1990] ((شرح المعالم)) (2/400). .
ومِثالُ تَقريبِ هذا الحُكمِ: أنَّ الأميرَ مَثَلًا إذا كان يُعطي صَدَقةً لكُلِّ فقيرٍ في كُلِّ يَومٍ، وفيهم رَجُلٌ لا يُعطي له في بَعضِ الأيَّامِ، فتَركُ العَطاءِ لهذا الرَّجُلِ نَقضٌ دالٌّ على أنَّ الفقرَ ليسَ بعِلَّةٍ للعَطاءِ.
فإن وُجِدَ المانِعُ مِن العَطاءِ كقِلَّةِ الأدَبِ مَعَ الأميرِ، أو كَونِ ذلك الرَّجُلِ مُبتَدِعًا، فلا يَقدَحُ النَّقضُ، وإن لم يوجَدْ مانِعٌ فيَقدَحُ [1991] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/384). .
مِن الأدِلَّةِ على أنَّ النَّقضَ يَقدَحُ في العِلَّةِ إذا لم يَكُنْ مانِعٌ ولا فواتُ شَرطٍ دونَ ما سِواهما:
الدَّليلُ الأوَّلُ: أنَّ فيه جَمعًا بَينَ الدَّليلينِ: دَليلِ الاعتِبارِ؛ إذ يُعمَلُ بكَونِها عِلَّةً في غَيرِ صورةِ النَّقضِ، ودَليلِ الإهدارِ؛ إذ يُعمَلُ به في مَحَلِّه، وهو صورةُ النَّقضِ، فوجَبَ المَصيرُ إليه [1992] يُنظر: ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/194). .
الدَّليلُ الثَّاني: القياسُ على التَّخصيصِ؛ فكَما أنَّ التَّخصيصَ لا يَقدَحُ في كَونِ الوَصفِ عِلَّةً، والجامِعُ بَينَهما هو جَمعُ الدَّليلينِ المُتَعارِضَينِ؛ فإنَّ مُقتَضى العِلَّةِ ثُبوتُ الحُكمِ في جَميعِ مَحالِّها، ومُقتَضى المانِعِ عَدَمُ ثُبوتِه في بَعضِ تلك الصُّورِ، فيجمَعُ بَينَهما بأن يَتَرَتَّبَ الحُكمُ على العِلَّةِ فيما عَدا صورةَ وُجودِ المانِعِ.
كما أنَّ مُقتَضى العامِّ ثُبوتُ حُكمِه في جَميعِ أفرادِه، ومُقتَضى التَّخصيصِ عَدَمُ ثُبوتِه في بَعضِها، وقد جَمَعنا بَينَهما؛ فالنَّقضُ للمانِعِ المُعارِضِ للعِلَّةِ كالتَّخصيصِ المُعارِضِ للعامِّ.
فنِسبةُ العِلَّةِ إلى مَحالِّها كنِسبةِ العامِّ إلى أفرادِه، ونِسبةُ النَّقلِ لمانِعٍ إلى العِلَّةِ كنِسبةِ المُخَصَّصِ إلى العامِّ، كما أنَّ العامَّ بَعدَ التَّخصيصِ حُجَّةٌ في الباقي، كذلك العِلَّةُ مُقتَضيةٌ للحُكمِ فيما عَدا النَّقضَ لمانِعٍ [1993] يُنظر: ((المنهاج)) للبيضاوي (ص: 211)، ((تيسير الوصول)) لابن إمام الكاملية (5/351). .
وقيل: إنَّ النَّقضَ يَقدَحُ في العِلِّيَّةِ مُطلقًا، سَواءٌ كانت العِلَّةُ منصوصةً أو مُستَنبَطةً، وسَواءٌ كان تَخَلُّفُ الحُكمِ عن الوَصفِ لمانِعٍ أو لا. وهو مَنسوبٌ إلى الشَّافِعيِّ وأكثَرِ أصحابِه [1994] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/186)، ((جمع الجوامع)) لابن السبكي (ص: 96)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/330)، ((تيسير الوصول)) لابن إمام الكاملية (5/349). ، ويَعُدُّه الشَّافِعيَّةُ مِن جُملةِ مُرَجِّحاتِ مَذهَبِ الشَّافِعيِّ على غَيرِه مِن المَذاهِبِ، ويَقولونَ: عِلَلُه سَليمةٌ عن الانتِقاضِ، جاريةٌ على مُقتَضاها، لا يَصُدُّها صادٌّ، والنَّقضُ يُشبِهُ تَجريحَ البَيِّنةِ المُعَدَّلةِ [1995] يُنظر: ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/191)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/330). ، لكِن ذَكَر الغَزاليُّ أنَّه لم يُنقَلْ عن الشَّافِعيِّ تَصريحٌ [1996] يُنظر: ((شفاء الغليل)) (ص: 460). . وهو مَذهَبُ أكثَرِ الحَنَفيَّةِ [1997] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (2/ 208)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/32). ، وبَعضِ الحَنابلةِ [1998] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1220). ، وغَيرِهم [1999] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/330). ويُنظر أيضًا: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 333). .
وقيل: إنَّ النَّقضَ لا يَقدَحُ مُطلقًا في كونِها عِلَّةً فيما وراءَ مَحَلِّ النَّقضِ، سَواءٌ كانت العِلَّةُ منصوصةً أو مُستَنبَطةً، وسَواءٌ كان التَّخَلُّفُ لمانِعٍ أو لغَيرٍ مانِعٍ، ويَكونُ حُجَّةً في غَيرِ ما خُصَّ. وهو مَذهَبُ العِراقيِّينَ مِن الحَنَفيَّةِ [2000] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/32)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (3/172). ، وأكثَرِ المالكيَّةِ [2001] يُنظر: ((نثر الورود)) لمحمد الأمين الشنقيطي (2/515). ، وأكثَرِ الشَّافِعيَّةِ [2002] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي (6/2412). ، وأكثَرِ الحَنابِلةِ [2003] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1221). .
وقيل: يَقدَحُ في العِلَّةِ المُستَنبَطةِ، ولا يَقدَحُ في العِلَّةِ المنصوصةِ، وهو قَولُ بَعضِ الأُصوليِّينَ [2004] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص399)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3394)، ((تيسير الوصول)) لابن إمام الكاملية (5/349)، ((نثر الورود)) لمحمد الأمين الشنقيطي (2/518). ، وحَكاه إمامُ الحَرَمَينِ عن مُعظَمِ الأُصوليِّينَ [2005] يُنظر: ((البرهان)) (2/102) حيث قال: (ذهب معظم الأصوليين إلى أن النقض يبطل العلة المستنبطة). .
والمُرادُ بالمنصوصةِ عِندَ هؤلاء: أن تَكونَ منصوصةً بالتَّصريحِ، أو بالإيماءِ، أو بالإجماعِ [2006] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/331). .
ومِثالُ تَقريبِ هذا القَولِ: إن نَصَّ الأميرُ على عِلَّةِ الإعطاءِ، كقَولِه: إنَّما أُعطِي لهم لأجلِ فَقرِهم، فلا يَقدَحُ النَّقضُ في عَدَمِ تَأثيرِ الفقرِ، وإن لم يَنُصَّ على ذلك قَدَح [2007] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/384). .
وقيل: يَقدَحُ في العِلَّةِ المنصوصةِ، ولا يَقدَحُ في العِلَّةِ المُستَنبَطةِ [2008] يُنظر: ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/192)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/331). ، وهذا أضعَفُ المَذاهِبِ [2009] يُنظر: ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/399). .
هَل يَجِبُ على المُستَدِلِّ ابتِداءً أن يَتَحَرَّزَ عن النَّقضِ في قياسِه؟
إذا أثبَتَ المُستَدِلُّ حُكمًا عن طَريقِ القياسِ: فإنَّه لا يَجِبُ عليه ابتِداءً أن يَحتَرِزَ عن النَّقضِ بذِكرِ قَيدٍ يَدفعُ عنه وُرودَ النَّقضِ، وهو قَولُ أكثَرِ الأُصوليِّينَ [2010] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3425). .
وذلك لأنَّ المُستَدِلَّ مُطالَبٌ بذِكرِ الدَّليلِ فقَط، وليسَ ذلك إلَّا الوَصفَ أو حِكمتَه [2011] يُنظر: ((نهاية الوصول)) للهندي (8/3425). .
وقيل: يَجِبُ عليه ذلك، فيورِدُ في قياسِه هذا ما يَدفعُ عنه النَّقضَ مِن قِبَلِ أيِّ مُعتَرِضٍ. فمَثَلًا: لو قال المُستَدِلُّ: الخَلُّ مائِعٌ، فجازَت إزالةُ النَّجاسةِ به كالماءِ؛ فإنَّه يورِدُ في عِلَّتِه قَيدًا يَحتَرِزُ به على النَّقضِ، فيَقولُ: الخَلُّ مائِعٌ طاهِرٌ، فيَزيدُ لفظَ "طاهِر" في العِلَّةِ؛ لئَلَّا تُنقَضَ عِلَّتُه بأن يَقولَ المُعتَرِضُ: إنَّ هذا مُنتَقَضٌ بالمائِعِ النَّجِسِ؛ حَيثُ إنَّه مائِعٌ، ولا تَجوزُ إزالةُ النَّجاسةِ به [2012] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/500)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/347)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2224). .
كيفيَّةُ جَوابِ المُستَدِلِّ عن النَّقضِ:
إذا أورَدَ المُعتَرِضُ صورةً زَعَمَ فيها وُجودَ عِلَّةِ المُستَدِلِّ مَعَ تَخَلُّفِ الحُكمِ عنها، فإنَّ للمُستَدِلِّ أن يُجيبَ عن ذلك بأحَدِ الطُّرُقِ الآتيةِ:
الطَّريقُ الأوَّلُ: أن يَمنَعَ المُستَدِلُّ وُجودَ العِلَّةِ بتَمامِها في صورةِ النَّقضِ التي أورَدَها المُعتَرِضُ؛ لا عِنادًا ومُكابَرةً، وإنَّما لعَدَمِ قَيدٍ مِن القُيودِ المُعتَبَرةِ في عِلَّةِ الوصفِ [2013] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 400)، ((جمع الجوامع)) لابن السبكي (ص: 96)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 339)، ((تيسير الوصول)) لابن إمام الكاملية (5/355). .
فإنَّه لمَّا كان النَّقضُ مُرَكَّبًا مِن شَيئَينِ: أحَدُهما: وُجودُ العِلَّةِ في صورةِ النَّقضِ، والثَّاني: عَدَمُ الحُكمِ فيها. كان انتِفاءُ أحَدِهما مانِعًا مِن النَّقضِ؛ إذ الماهيَّةُ المُرَكَّبةُ مِن شَيئَينِ تَنتَفي بانتِفاءِ أحَدِهما، فإذا عُدِمَت العِلَّةُ مِن صورةِ النَّقضِ، أو وُجِدَ الحُكمُ فيها لم يَرِدِ النَّقضُ [2014] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/503)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/387). .
وطَريقُه أن يَقولَ المُجيبُ: إنَّما تَخَلَّف الحُكمُ في الصُّورةِ المَذكورةِ؛ لعَدَمِ عِلَّتِه، فهو يَدُلُّ على صِحَّةِ عِلَّتي عَكسًا، وهو انتِفاءُ الحُكمِ لانتِفائِها [2015] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/503). .
مِثالُه: أن يُختَلَفَ في الوُضوءِ، هَل يَفتَقِرُ إلى نيَّةٍ أم لا؟
فيَقولُ المُستَدِلُّ: الوُضوءُ طَهارةٌ مِن حَدَثٍ، فيَفتَقِرُ إلى نيَّةٍ؛ قياسًا على التَّيَمُّمِ.
فيَنقُضُ المُعتَرِضُ هذا القياسَ ويَقولُ: هذا يَنتَقِضُ بإزالةِ النَّجاسةِ؛ لأنَّه وُجِدَ فيه الوصفُ، وهو الطَّهارةُ، مَعَ أنَّه لا يَفتَقِرُ إلى نيَّةٍ.
فيَقولُ المُجيبُ: لا نُسَلِّمُ وُجودَ الوَصفِ في زَوالِ النَّجاسةِ؛ لأنَّ الوَصفَ المُعَلَّلَ به في الوُضوءِ هو الطَّهارةُ مِن الحَدَثِ، لا الطَّهارةُ المُطلَقةُ، فما به الاشتِراكُ غَيرُ ما به الامتيازُ؛ لأنَّ زَوالَ النَّجاسةِ طَهارةُ الخُبثِ، والوُضوءُ طَهارةُ الحَدَثِ [2016] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/388). .
مِثالٌ آخَرُ: قَولُ الشَّافِعيَّةِ في حَقِّ مَن لم يُبَيِّتِ النِّيَّةَ: تَعَرَّى أوَّلَ صَومِه عنها، فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ الصَّومَ عِبارةٌ عن إمساكِ النَّهارِ جَميعِه مَعَ النِّيَّةِ، فجُعِل العَراءُ عن النِّيَّةِ في أوَّلِ الصَّومِ عِلَّةً لبُطلانِه.
فيَنقُضُه الحَنَفيُّ بالتَّطَوُّعِ، فيَقولُ: ما ذَكَرتَ مَنقوضٌ بصَومِ التَّطَوُّعِ؛ فإنَّه يَصِحُّ بدونِ تَبييتِ النِّيَّةِ، فقد وُجِدَت العِلَّةُ -وهيَ العَراءُ- بدونِ الحُكمِ، وهو عَدَمُ الصِّحَّةِ في التَّطَوُّعِ.
فيُجيبُ الشَّافِعيُّ بأنَّ العِلَّةَ في البُطلانِ هيَ عَراءُ أوَّلِ الصَّومِ بقَيدِ كَونِه واجِبًا، لا مُطلقُ الصَّوم، وهذا القَيدُ مَفقودٌ في التَّطَوُّعِ؛ فلم توجَدِ العِلَّةُ فيه [2017] يُنظر: ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 339)، ((تيسير الوصول)) لابن إمام الكاملية (5/356). .
هَل للمُعتَرِضِ أن يُقيمَ الدَّليلَ على وُجودِ العِلَّةِ في صورةِ النَّقضِ؟
إذا مَنَعَ المُستَدِلُّ وُجودَ العِلَّةِ في صورةِ النَّقضِ لعَدَمِ القَيدِ كما تَقدَّمَ؛ فإنَّه يَجوزُ للمُعتَرِضِ أن يُقيمَ الدَّليلَ على وُجودِ العِلَّةِ بتَمامِها في صورةِ النَّقضِ؛ لأنَّ به مَقصودَه [2018] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/503). .
وقيل: ليسَ له ذلك؛ لأنَّه نَقلٌ مِن مَرتَبةِ المَنعِ إلى مَرتَبةِ الاستِدلالِ؛ إذ يَصيرُ المُعتَرِضُ مُستَدِلًّا، والمُستَدِلُّ مُعتَرِضًا [2019] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/503)، ((جمع الجوامع)) لابن السبكي (ص: 96)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 339). .
الطَّريقُ الثَّاني: أن يَمنَعَ المُستَدِلُّ تَخَلُّفَ الحُكمِ عن العِلَّةِ في صورةِ النَّقضِ، ويَدَّعيَ ثُبوتَ الحُكمِ في تلك الصُّورةِ التي نَقَضَ بها المُعتَرِضُ ثُبوتَه [2020] يُنظر: ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 340)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/343). .
فإذا قال المُعتَرِضُ: إنَّ قياسَك هذا عِلَّتُه مَنقوضةٌ؛ حَيثُ إنَّ العِلَّةَ قد وُجِدَت ولم يوجَدْ حُكمُها، فإنَّ للمُستَدِلِّ أن يُجيبَ بمَنعِ كَونِ الحُكمِ مُتَخَلِّفًا عن صورةِ النَّقضِ التي أورَدَها المُعتَرِضُ [2021] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2229). .
مِثالُ ثُبوتِ الحُكمِ في صورةِ النَّقضِ: أن يَقولَ الشَّافِعيُّ: السَّلَمُ عَقدُ مُعاوَضةٍ، فلا يُشتَرَطُ فيه التَّأجيلُ؛ قياسًا على البَيعِ.
فيَنقُضُه الحَنَفيُّ بالإجارةِ؛ فإنَّها عَقدُ مُعاوضةٍ مَعَ أنَّ التَّأجيلَ يُشتَرَطُ فيها.
فيُجيبُ الشَّافِعيُّ بقَولِه: الأجَلُ ليسَ شَرطًا لصِحَّةِ عَقدِ الإجارةِ أيضًا، وإنَّما جاءَ التَّأجيلُ فيها؛ لاستِقرارِ المَعقودِ عليه، وهو الانتِفاعُ بالعَينِ؛ إذ لا يُتَصَوَّرُ استِقرارُ المَنفَعةِ المَعدومةِ في الحالِ، ولا يَلزَمُ مِن كونِ الشَّيءِ شَرطًا في الاستِقرارِ أن يَكونَ شَرطًا في الصِّحَّةِ [2022] يُنظر: ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 340)، ((تيسير الوصول)) لابن إمام الكاملية (5/359). .
مِثالٌ آخَرُ: قَولُ المُستَدِلِّ: الأَرُزُّ رِبَويٌّ؛ لأنَّه مَطعومٌ، قياسًا على البُرِّ.
فيَنقُضُه المُعتَرِضُ، ويَقولُ: هذا مَنقوضٌ بالتُّفَّاحِ؛ فهو مَطعومٌ، ولا يَجري فيه الرِّبا.
فيُجيبُ المُستَدِلُّ بقَولِه: أنا أمنَعُ تَخَلُّفَ الحُكمِ عن الصُّورةِ التي أورَدتَها أيُّها المُعتَرِضُ، وهيَ: التُّفَّاحُ؛ لأنَّ التُّفَّاحَ عِندي رِبَويُّ [2023] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2229). .
الطَّريقُ الثَّالثُ: أن يُبَيِّنَ المُستَدِلُّ وُجودَ مانِعٍ مِن ثُبوتِ الحُكمِ في صورةِ النَّقضِ، أو انتِفاءَ شَرطٍ تَخَلَّف لأجلِه الحُكمُ فيها [2024] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/505)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 340)، ((تيسير الوصول)) لابن إمام الكاملية (5/361). .
مِثالُ وُجودِ المانِعِ: أن يَقولَ الشَّافِعيُّ: القَتلُ العَمدُ العُدوانُ عِلَّةٌ في وُجوبِ القِصاصِ، وحينَئِذٍ فيَجِبُ في المُثَقَّلِ.
فيَنقُضُه الحَنَفيُّ بقَتلِ الوالدِ وَلَدَه؛ فإنَّ العِلَّةَ فيه مَعَ تَخَلُّفِ الحُكمِ.
فيَقولُ الشَّافِعيُّ: تَخَلَّف الحُكمُ لمانِعِ الأُبوَّةِ؛ فإنَّما لم أوجِبْه على الولدِ لوُجودِ المانِعِ، وهو كونُ الوالِدِ سَبَبًا لوُجودِ الولدِ، فلا يَكونُ الوَلَدُ سَبَبًا لانعِدامِه [2025] يُنظر: ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 340)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/341). .
ومِثالُ فَواتِ الشَّرطِ: قَولُ المُستَدِلِّ: الحُلِيُّ تَجِبُ فيه الزَّكاةُ؛ لأنَّه نِصابٌ كامِلٌ حالَ عليه الحَولُ، فوجَبَت فيه الزَّكاةُ؛ قياسًا على المَضروبِ.
فيَنقُضُه المُعتَرِضُ بقَولِه: هذا مُنتَقَضٌ بمالِ الصَّبيِّ والمَجنونِ والمَديونِ، فهو نِصابٌ كامِلٌ، وحال عليه الحَولُ، ومَعَ ذلك لا تَجِبُ فيه الزَّكاةُ.
فيُجيبُ المُستَدِلُّ بقَولِه: إنَّ ما أورَدتَه مِن صورةِ النَّقضِ قد تَخَلَّف عنها ما هو شَرطٌ، فمال الصَّبيِّ والمَجنونِ فاتَ فيه شَرطُ التَّكليفِ؛ تَغليبًا لمَعنى العِبادةِ فيه عِندَ الحَنَفيِّ.
وأمَّا مالُ المَديونِ فقد وُجِدَ فيه مانِعُ الدَّينِ، والدَّينُ يَمنَعُ مِن وُجوبِ الزَّكاةِ عِندَ المالِكيَّةِ؛ لأنَّه إذا ازدَحَمَ حَقَّانِ على مالٍ واحِدٍ قُدِّمَ أقواهما، وحَقُّ الغُرَماءِ أقوى مِن حَقِّ الفُقَراءِ؛ لأنَّ المُستَحِقَّ إذا تَعَيَّنَ ترَجَّح على مُستَحِقٍّ لم يَتَعَيَّنْ؛ فلذلك تَخَلَّف الحُكمُ في هذه الصُّورِ [2026] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/505)، ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص:682)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2229). .

انظر أيضا: