الفَرعُ التَّاسِعُ: قادِحُ المُعارَضةِ في الفرعِ
وهو: أن يُذكَرَ في الفَرعِ ما يَمتَنِعُ مَعَه ثُبوتُ الحُكمِ
[2117] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/323). .
أي: أن يَذكُرَ المُعتَرِضُ في الفَرعِ ما يَمتَنِعُ مَعَه ثُبوتُ الحُكمِ الذي ذَكَرَه المُستَدِلُّ
[2118] يُنظر: ((إتحاف ذوي البصائر)) لعبد الكريم النملة (7/516). .
والمَعنى: أن يُعارِضَ حُكمَ الفَرعِ بدَليلٍ يَقتَضي نَقيضَ حُكمِ المُستَدِلِّ فيه أو ضِدَّه، إمَّا بنَصٍّ أو إجماعٍ ظاهرٍ، أو بقياسٍ، أو بوُجودِ مانِعِ الحُكمِ، أو بفواتِ شَرطِ ثُبوتِ الحُكمِ فيه
[2119] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/101)، ((نفائس الأصول)) للقرافي (8/3479)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3606)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (3/226)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1389)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/421). .
وذلك بأن يَقولَ المُعتَرِضُ: ما ذَكَرتَه مِن الوصفِ وإن اقتَضى ثُبوتَ الحُكمِ في الفرعِ فعِندي وصفٌ آخَرُ يَقتَضي نَقيضَه، فيَتَوقَّفُ دَليلُك
[2120] يُنظر: ((شرح العضد على مختصر ابن الحاجب)) (3/536)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/455). .
مِثالُه: قَولُ المُستَدِلِّ: الوُضوءُ طَهارةُ عن حَدَثٍ، فافتَقَرَت إلى النِّيَّةِ؛ قياسًا على التَّيَمُّمِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: الوُضوءُ طَهارةٌ بالماءِ، فلم تَفتَقِرْ إلى النِّيَّةِ؛ قياسًا على إزالةِ النَّجاسةِ.
فهنا المُستَدِلُّ قد استَنَدَ إلى أصلٍ وعِلَّةٍ؛ فالأصلُ هو التَّيَمُّمُ، والعِلَّةُ هيَ الطَّهارةُ مِن الحَدَثِ. وهو يَرى أنَّ هذه العِلَّةَ يَشتَرِكُ فيها الفَرعُ الذي هو الوُضوءُ، والأصلُ الذي هو التَّيَمُّمُ، فيَثبُتُ في الفرعِ الحُكمُ الثَّابتُ في الأصلِ، وهو وُجوبُ النِّيَّةِ.
أمَّا المُعتَرِضُ فلم يُسَلِّمْ بهذا القياسِ، فأبدى في الفرعِ وصفًا آخَرَ قد استَنَدَ فيه إلى أصلٍ آخَرَ، وهذا الوَصفُ هو كونُه طَهارةً بالماءِ، والأصلُ هو إزالةُ النَّجاسةِ، وهذا الوَصفُ الذي أبداه المُعتَرِضُ قد عارَضَ به ثُبوتَ حُكمِ المُستَدِلِّ في الفرعِ، فيَقتَضي وصفُ المُعتَرِضِ في الفَرعِ عَدَمَ وُجوبِ النِّيَّةِ، ويَقتَضي وصفُ المُستَدِلّ وُجوبَ النِّيَّةِ، إذَن اقتَضى وصفُ المُعتَرِضِ في الفرعِ ضِدَّ ما اقتَضاه وَصفُ المُستَدِلِّ
[2121] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2270). .
أقسامُ المُعارَضةِ في الفَرعِ:يَنقَسِمُ قادِحُ المُعارَضةِ في الفَرعِ إلى قِسمَينِ:
القِسمُ الأوَّلُ: أن يُعارِضَه بدَليلٍ آكَدَ مِنه مِن نَصٍّ أو إجماعٍ، يَدُلُّ على خِلافِ ما دَلَّ عليه قياسُه، فيَتَبَيَّنُ أنَّ ما ذَكَرَه المُستَدِلُّ فاسِدُ الاعتِبارِ
[2122] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/323)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/539). .
وقد سَبَقَ بَيانُ فَسادِ الاعتِبارِ، وكَيفيَّةُ الجَوابِ عليه.
ومِثالُه: لو قال الحَنَفيُّ في حُكمِ رَفعِ اليَدَينِ في الرُّكوعِ والرَّفعِ مِنه: رُكنٌ مِن أركانِ الصَّلاةِ، فلا يُشرَعُ فيه رَفعُ اليَدَينِ؛ قياسًا على السُّجودِ.
فيَقولُ له الخَصمُ: هذا على خِلافِ ما ثَبَتَ مِن أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم "كان يَرفعُ يَدَيه عِندَ الإحرامِ، والرُّكوعِ، والرَّفعِ مِنه"
[2123] أخرجه البخاري (735)، ومسلم (390) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، ولفظُ البخاريِّ: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَرفعُ يَدَيه حَذْوَ مَنكِبَيه إذا افتَتَحَ الصَّلاةَ، وإذا كَبَّرَ للرُّكوعِ، وإذا رَفعَ رَأسَه مِنَ الرُّكوعِ رَفعَهما كذلك أيضًا)). ، فيَكونُ قياسُك على خِلافِه فاسِدَ الاعتِبارِ؛ لمُخالفةِ النَّصِّ.
أو يَقولُ: نُقِل عن ابنِ عُمَرَ في جَماعةٍ مِن الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم أنَّهم كانوا يَرفعونَ أيديَهم، ولم يُنكِرْه مُنكِرٌ، فيَكونُ إجماعًا سكوتيًّا، وقياسُك على خِلافِه، فيَكونُ فاسِدَ الاعتِبارِ
[2124] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/539)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (3/343). .
القِسمُ الثَّاني: مُعارَضةُ قياسِ المُستَدِلِّ بإبداءِ وَصفٍ في الفَرعِ مانِعٍ للحُكمِ فيه، أو للسَّبَبيَّةِ
[2125] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/324)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/540)، ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 158). .
ومعناه: أن يُبديَ المُعتَرِضُ في فَرعِ قياسِ المُستَدِلِّ وَصفًا، وهذا الوَصفُ الذي أبداه المُعتَرِضُ: إمَّا أن يَمنَعَ ثُبوتَ الحُكمِ في الفَرعِ، أو يَمنَعَ سَبَبيَّةَ الوَصفِ الذي عَلَّل به المُستَدِلُّ، أي: يَمنَعُ كونَ وَصفِه سَبَبًا لثُبوتِ الحُكمِ. وهذا القِسمُ هو المَعنيُّ بـ "المُعارَضةِ" إذا أُطلِقَت
[2126] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/540)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/455)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (3/344). .
وهذا على أقسامٍ:
أوَّلًا: إن كان الوَصفُ الذي أبداه المُعتَرِضُ يَمنَعُ ثُبوتَ الحُكمِ في الفَرعِ: فإنَّه يَحتاجُ في إثباتِ كَونِه مانِعًا إلى مِثلِ طَريقِ المُستَدِلِّ في إثباتِ حُكمِه مِن العِلَّةِ والأصلِ، وإلى مِثلِ عِلَّتِه في القوَّةِ؛ وذلك لأنَّ المُعارِضَ يَجِبُ أن يَكونَ مُقاوِمًا للمُعارَضِ، ولا يُقاوِمُه إلَّا إذا ساواه في أوصافِه الخاصَّةِ
[2127] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/324)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/541)، ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 158). .
فلا بُدَّ للمُعتَرِضِ مِن بنائِه على أصلٍ بجامِعٍ يُثبِتُ عِلِّيَّتَه، وله الاستِدلالُ في إثباتِ عِلِّيَّته بما يَشاءُ مِن المَسالكِ على نَحوِ طُرُقِ إثباتِ المُستَدِلِّ للعِلَّةِ، فيَصيرُ هو مُستَدِلًّا، والمُستَدِلُّ مُعتَرِضًا، فتَنقَلِبُ الوظيفتانِ
[2128] يُنظر: ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/456)، ((تحفة المسؤول)) للرهوني (4/201). .
مِثالُه: ما سَبَقَ في مِثالِ رَفعِ اليَدَينِ؛ حَيثُ قال المُستَدِلُّ: رُكنٌ فلا يَرفعُ فيه اليَدَينِ؛ قياسًا على السُّجودِ، فالسُّجودُ الذي هو الأصلُ رُكنٌ، والعِلَّةُ وَصفٌ شَبَهيٌّ، وهو كونُ الرُّكوعِ رُكنًا كالسُّجودِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: رُكنٌ فيَرفعُ فيه اليَدَينِ؛ قياسًا على الإحرامِ، فالإحرامُ الذي هو الأصلُ رُكنٌ، والعِلَّةُ أيضًا وصفٌ شَبَهيٌّ
[2129] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/541). .
ثانيًا: إن كان الوَصفُ الذي أبداه المُعتَرِضُ مَنَعَ سَبَبيَّةَ الوَصفِ الذي عَلَّل به المُستَدِلُّ، فحينَئِذٍ: إمَّا أن يَبقى احتِمالُ حِكمةِ وَصفِ المُستَدِلِّ مَعَ ما أبداه المُعتَرِضُ، أو لا يَبقى:
الحالةُ الأولى: إن بَقيَ مَعَه احتِمالُ الحِكمةِ ولو كان احتِمالًا بَعيدًا، لم يَضُرَّ ذلك المُستَدِلَّ؛ لأنَّ احتِمالَ حِكمةِ وَصفِه باقٍ، والوَصفُ مَظِنَّةٌ له، وقد ألِفْنا مِن الشَّارِعِ أنَّه يَكتَفي في ثُبوتِ الحُكمِ بوُجودِ مَظِنَّتِه، ومُجَرَّدِ وُجودِ احتِمالِ حِكمَتِه، وحينَئِذٍ يَحتاجُ المُعتَرِضُ إلى أصلٍ يَشهَدُ للوَصفِ الذي أبداه بالاعتِبارِ؛ حتَّى يَقوى على إبطالِ وَصفِ المُستَدِلِّ
[2130] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/324)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/542)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (3/345). .
ومِثالُ ذلك مِن المَحسوسِ: شَخصٌ جاءَ يُكابرُ شَخصًا على أن يُخرِجَه مِن دارِه، فخَرَجَ بنَفسِه، وبَقيَ عيالُه فيها، فيَحتاجُ المُكابِرُ له إلى قَطعِ عَلائِقه عنها بالكُلِّيَّةِ حتَّى يَتَمَكَّنَ هو مِنها.
فكذلك الكَلامُ في وَصفِ المُستَدِلِّ إذا عورِضَ، وبَقيَت حِكمَتُه، كان أولى بالاعتِبارِ حتَّى يَأتيَ المُعتَرِضُ بما يَدُلُّ على اعتِبارِ وَصفِه، فيَستَويانِ حينَئِذٍ في الاعتِبارِ أو السُّقوطِ
[2131] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/542). .
ومِثالُه في الفِقهِ: أن يَقولَ المُستَدِلُّ في النَّبيذِ: مُسكِرٌ، فكان حَرامًا؛ قياسًا على الخَمرِ.
فيَقولُ الحَنَفيُّ: غَيرُ مَقطوعٍ بتَحريمِه، أو غَيرُ مُجمَعٍ على تَحريمِه، فلا يَحرُمُ؛ قياسًا على الخَلِّ واللَّبَنِ.
فيُقالُ له: الحِكمةُ في الإسكارِ باقيةٌ على ما لا يَخفى، والمُسكِرُ مَظِنَّةٌ لها، وذلك كافٍ في ثُبوتِ التَّحريمِ؛ عَمَلًا بوُجودِ المَظِنَّةِ، حتَّى تَأتيَ أنتَ أيُّها المُعتَرِضُ بشاهدٍ على اعتِبارِ وَصفِك، وهو أنَّ ما ليسَ مَقطوعًا بتَحريمِه أو مُجمَعًا على تَحريمِه لا يَكونُ حَرامًا
[2132] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/543)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (3/346). .
الحالةُ الثَّانيةُ: إنْ لم تَبقَ حِكمةُ وَصفِ المُستَدِلِّ مَعَ ما أبداه المُعتَرِضُ، لم يَحتَجِ المُعتَرِضُ إلى أصلٍ يَشهَدُ لما ذَكَرَه بالاعتِبارِ؛ لأنَّ ثُبوتَ الحُكمِ تابعٌ لبَقاءِ الحِكمةِ -لأنَّها المَقصودُ به، وهو وسيلةٌ إليها- وقد عُلمَ انتِفاؤُها، ومَعَ انتِفاءِ المَقصودِ لا فائِدةَ في بَقاءِ الوسيلةِ
[2133] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/543)، ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 158)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (3/346). .
ومِثالُ ذلك: مَسألةُ ضَمانِ العَبدِ ونَظائِرُها مِن قياسِ الشَّبَهِ؛ فإنَّ الأشباهَ قد تَتَعادَلُ، فلا تَبقى حِكمةُ شَبَهِ المُستَدِلِّ، كما إذا قال المُستَدِلُّ: مالٌ لمَعصومٍ، فيُضمَنُ بكَمالِ قيمَتِه؛ قياسًا على البَهيمةِ. فالحِكمةُ فيه ظاهِرةٌ، وهيَ تَحصيلُ العَدلِ بجَبرِ ما فاتَ مِن مالِ المالِكِ بقيمةِ الفائِتِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: إنسانٌ مَعصومٌ، فلا يَزيدُ بَدَلُه على الألفِ؛ قياسًا على الحُرِّ. فتَكونُ هذه حِكمةً مُقاوِمةً، أو مُقارِبةً للأولى مِن جِهةِ أنَّ الشَّرعَ قدَّرَ بَدَلَ الإنسانِ المَعصومِ ألفًا، فالزِّيادةُ عليه افتِئاتٌ عليه، وطَعنٌ في حِكمَتِه، وهذا إنسانٌ مَعصومٌ، فلا يَحتاجُ المُعتَرِضُ هَهنا إلى أصلٍ يَشهَدُ لِما ذَكَرَه بالاعتِبارِ؛ لمُقاومَتِه وَصفَ المُستَدِلِّ بنَفسِه.
لكِن للمُستَدِلِّ أن يُرَجِّحَ وَصفَه على وصفِ المُعتَرِضِ بأن يَقولَ: ما ذَكَرتَه مُتَّجِهٌ، لكِن ما ذَكَرتُه أنا أرجَحُ؛ لأنَّ العَبدَ في بابِ الضَّمانِ والإتلافِ أشبَهُ بالبَهيمةِ مِنه بالحُرِّ؛ لأنَّ شِبهَ الماليَّةِ فيه أمكَنُ مِن شِبهِ الحُرِّيَّةَ؛ لثُبوتِ أحكامِ الأموالِ فيه، مِن وُرودِ عُقودِ المُعاوَضاتِ ونَحوِها عليه، فكان بالمالِ أشبَهَ، فأُلحِقَ به في الضَّمانِ بقيمَتِه مَهما بَلغَت
[2134] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/543)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (3/347). .
مَوقِفُ المُعتَرِضِ والمُستَدِلِّ في المُعارَضةِ في الفَرعِ:في المُعارَضةِ في الفَرعِ يَنقَلبُ المُعتَرِضُ مستَدِلًّا على إثباتِ المُعارَضةِ، والمُستَدِلُّ مُعتَرِضًا، فيَعتَرِضُ على دَليلِ المُعتَرِضِ بما أمكَنه مِن الأسئِلةِ، فتَنقَلبُ الوظيفتانِ
[2135] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/324)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/456)، ((المختصر)) لابن اللحام (ص158)، ((الذخر الحرير)) للبعلي (ص745). .
وذلك لأنَّ المُعارَضةَ هيَ المُقابَلةُ على جِهةٍ، وكُلُّ واحِدٍ مِن المُمانِعَينِ مانِعٌ لمَقصودِ خَصمِه، مُثبِتٌ لمَقصودِه هو.
وأصلُ ذلك: أنَّ المُعارَضةَ بالنِّسبةِ إلى المُستَدِلِّ كالدَّليلِ الابتِدائيِّ بالنِّسبةِ إلى المُعتَرِضِ، وكُلُّ واحِدٍ مِنهما يَصيرُ مُستَدِلًّا مُعتَرِضًا مِن جِهَتَينِ، كما أنَّ المُختَلفَينِ في قَدرِ الثَّمَنِ ونَحوِه، كُلُّ واحِدٍ مِنهما مُدَّعٍ مُنكِرٌ مِن جِهَتَينِ
[2136] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/544، 546). .
الفرقُ بَينَ المُعارَضةِ في الفرعِ، والمُعارَضةِ في الأصلِ:يُمكِنُ التَّفريقُ بَينَهما مِن ثَلاثةِ أوجُهٍ:
أوَّلًا: أنَّ المُعارَضةَ في الفرعِ هيَ التي تُعنى بالمُعارَضةِ عِندَ الإطلاقِ في بابِ القياسِ، بخِلافِ قادِحِ المُعارَضةِ في الأصلِ
[2137] يُنظر: ((حاشية التفتازاني على شرح العضد)) (3/536). .
ثانيًا: أنَّه في جانِبِ المُعارَضةِ في الفَرعِ يَحتاجُ المُعتَرِضُ إلى ذِكرِ صَلاحيَّةِ ما يَذكُرُه للتَّعليلِ، وأصلٍ يَشهَدُ له، ثُمَّ يَنقَلبُ مُستَدِلًّا، والمُستَدِلُّ مُعتَرِضًا عليه.
وأمَّا في جانِبِ المُعارَضةِ في الأصلِ فلا يَحتاجُ المُعتَرِضُ إلى ذِكرِ غَيرِ صَلاحيَّةِ ما يَذكُرُه، ولا يَحتاجُ إلى أصلٍ
[2138] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/318). .
ثالثًا: أنَّ المُعارَضةَ في حُكمِ الفَرعِ بناءٌ لا هَدمٌ، بخِلافِ المُعارَضةِ في الأصلِ؛ فإنَّ حاصِلَها يَرجِعُ إلى مَنعِ المُقدِّمةِ، وهو كونُ الحُكمِ مُعَلَّلًا بما ذُكِرَ مِن الوَصفِ، وهو مُقدِّمةٌ مِن مُقدِّماتِ قياسِ المُستَدِلِّ، فلا يَلزَمُ مِن قَبولِ المُعارَضةِ في الأصلِ قَبولُ المُعارَضةِ في الفَرعِ
[2139] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3607)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/422). .
حُجِّيَّةُ قادِحِ المُعارَضةِ في الفَرعِ:يَجوزُ للمُعتَرِضِ إيرادُ المُعارَضةِ في الفَرعِ، ويُعَدُّ قادِحًا، والاعتِراضُ بها مَقبولٌ، وهذا هو قَولُ أكثَرِ الأُصوليِّينَ
[2140] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/102)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3607)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1389)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/422). .
الأدِلَّةُ على قَبولِ قادِحِ المُعارَضةِ في الفَرعِ:1- وُجودُ الإجماعِ على أنَّ الدَّليلَ مَعَ وُجودِ المَعارِضِ عُطْلٌ، ولأنَّ المُستَدِلَّ عِندَ وُرودِها مُتَحَكِّمٌ، والتَّحَكُّمُ باطِلٌ إجماعًا
[2141] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/422). .
2- أنَّها قادِحةٌ في حَقِّ النَّاظِرِ بالإجماعِ، والأصلُ أنَّ كُلَّ ما كان قادِحًا في حَقِّ النَّاظِرِ فهو قادِحٌ في حَقِّ المُناظِرِ إلَّا ما استُثنيَ؛ لأجلِ ضَبطِ الكَلامِ
[2142] يُنظر: ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/410). .
3- أنَّها طَريقُ الهَدمِ؛ لأنَّها يَلزَمُ مِنها هَدمُ ما بَناه المُستَدِلُّ بمُعارَضةِ دَليلِه بدَليلِه، فلو لم تُقبَلِ المُعارَضةُ في الفرعِ لبَطَلَ مَقصودُ المُناظَرةِ، واختَلَّت فائِدةُ البَحثِ والاجتِهادِ، وهيَ ثُبوتُ الحُكمِ؛ لأنَّه لا يَتَحَقَّقُ بمُجَرَّدِ الدَّليلِ ما لم يَسلَمْ عن المُعارِضِ
[2143] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/102)، ((نفائس الأصول)) للقرافي (8/3480)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3607)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/456). .
وهيَ وإن كانت بناءً مِن المُعتَرِضِ فهيَ بناءٌ بالعَرَضِ، وهيَ بالذَّاتِ هَدمٌ لِما بَناه المُستَدِلُّ، وهو المَقصودُ مِنها، فأشبَهَت المَنعَ
[2144] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/546). .
وقيل: لا تَكونُ قادِحًا، وليسَ للمُعتَرِضِ إيرادُ المُعارَضةِ في الفرعِ، والاعتِراضُ بها غَيرُ مَقبولٍ، وهو قَولُ بَعضِ الأُصوليِّينَ؛ وعَلَّلوه بأنَّها غَصبٌ لمَنصِبِ الاستِدلالِ؛ لأنَّها استِدلالٌ وبناءٌ مِن المُعتَرِضِ، ووظيفةُ المُعتَرِضِ أن يَكونَ هادِمًا لِما يَذكُرُه المُستَدِلُّ لا بانيًا، فلا يَصِحُّ مِنه خِلافُ وَظيفتِه
[2145] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/325)، ((الإحكام)) للآمدي (4/101)، ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/410)، ((نفائس الأصول)) للقرافي (8/3479). .
كيفيَّةُ الجَوابِ عن قادِحِ المُعارَضةِ في الفَرعِ:يُجيبُ المُستَدِلُّ عَمَّا أورَدَه المُعتَرِضُ في المُعارَضةِ في الفَرعِ بأن يَقدَحَ فيه بكُلِّ ما للمُعتَرِضِ أن يَقدَحَ به في الدَّليلِ ابتِداءً
[2146] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/102)، ((نفائس الأصول)) للقرافي (8/3480)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3607)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1389)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/456). .
فإن كانت المُعارَضةُ قياسًا اعتَرَضَ المُستَدِلُّ عليه بأسئِلةِ القياسِ المَذكورةِ، كالاستِفسارِ، والمَنعِ، وفسادِ الوضعِ، وفسادِ الاعتِبارِ، ونَحوِها مِن الاعتِراضاتِ
[2147] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/545)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (3/348). .
فيَقولُ المُستَدِلُّ مَثَلًا: إنَّ قياسَك الذي عارَضْتَني به فاسِدُ الوضعِ، أو فاسِدُ الاعتِبارِ، أو عِلَّتُك التي استَنَدتَ إليها مَنقوضةٌ أو غَيرُ مُؤَثِّرةٍ، أو الحُكمُ في الأصلِ مَمنوعٌ، أو إلى آخِرِ تلك الأجوِبةِ التي تَرِدُ على المُستَدِلِّ ابتِداءً قدحًا في قياسِه
[2148] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2272). .
ومِثالُ ذلك: احتِجاجُ الشَّافِعيَّةِ على أنَّ المَدينَ تَجِبُ عليه الزَّكاةُ بالقياسِ على غَيرِ المَدينِ، بجامِعِ مِلكِ النِّصابِ.
فيَقولُ الحَنَفيَّةُ والمالِكيَّةُ: عارَضَنا في الفَرعِ مُعارِضٌ، وهو الدَّينُ، فوجَبَ ألَّا يَثبُتَ الحُكمُ الذي هو وُجوبُ الزَّكاةِ؛ لأجلِ تَعَلُّقِ حَقِّ الغُرَماءِ بالمالِ.
والجَوابُ عِندَ الشَّافِعيَّةِ: بمَنعِ أن يَكونَ الدَّينُ مُعارِضًا، فيَقولونَ: إنَّ الدَّينَ لا يَصلُحُ أن يَكونَ مُعارِضًا؛ لأنَّه مُتَعَلِّقٌ بالذِّمَّةِ لا بعَينِ المالِ، بدَليلِ أنَّه لو هَلكَ المالُ بسَبَبِه أو بغَيرِ سَبَبِه لم يَسقُطِ الدَّينُ، وأمَّا الزَّكاةُ فهيَ مُتَعَلِّقةٌ بعَينِ المالِ لا بالذِّمَّةِ، بدَليلِ أنَّه لو هَلكَ المالُ بغَيرِ سَبَبِه لسَقَطَت الزَّكاةُ
[2149] يُنظر: ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 729). .