موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ الثَّالثَ عَشَرَ: قادِحُ القَولِ بالموجَبِ


الموجَبُ: اسمُ مَفعولٍ، وهو ما توجِبُه العِلَّةُ أو الدَّليلُ، أي: الحُكمُ الذي أوجَبَته العِلَّةُ أو الدَّليلُ. أمَّا الموجِبُ بكَسرِ الجيمِ فهو نَفسُ العِلَّةِ أو الدَّليلِ [2257] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/372)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/396). .
والمُرادُ بالقَولِ الموجَبِ في القياسِ: تَسليمُ ما ادَّعاه المُستَدِلُّ موجِب عِلَّتِه، مَعَ بَقاءِ الخِلافِ في صورةِ النِّزاعِ [2258] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 402). .
وقيل: هو تَسليمُ ما جَعَله المُستَدِلُّ مُوجَبَ العِلَّةِ مَعَ استِبقاءِ الخِلافِ [2259] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/269). .
وقيل: هو تَسليمُ كَونِ الوَصفِ عِلَّةً، وبَيانُ أنَّ مَعلولَها غَيرُ ما ادَّعاه المُعَلِّلُ [2260] يُنظر: ((أصول الشاشي)) (ص: 346). .
شَرحُ التَّعريفِ المُختارِ:
- جُملة "تَسليمُ ما ادَّعاه المُستَدِلُّ مُوجِب عِلَّتِه": أي: أن يُسَلِّمَ الخَصمُ بالدَّليلِ الذي استَدَلَّ به المُستَدِلُّ، إلَّا أنَّه يَقولُ: هذا الدَّليلُ ليسَ في مَحَلِّ النِّزاعِ، إنَّما هو في غَيرِه، فيَبقى الخِلافُ بَينَهما [2261] يُنظر: ((تقريب الوصول)) لابن جزي (ص: 189). .
ومَعنى ذلك أنَّ تَسليمَ الخَصمِ إنَّما هو لمُقتَضى الدَّليلِ ومُوجَبِه، لا لنَفسِ الدَّليلِ؛ إذ الدَّليلُ ليسَ مُرادًا لذاتِه، بَل لكَونِه وسيلةً إلى مَعرِفةِ المَدلولِ [2262] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/555). .
- جُملةُ: "مَعَ بَقاءِ الخِلافِ في صورةِ النِّزاعِ": أي: أن يَظُنَّ المُعَلِّلُ أنَّ ما أتى به مُستَلزِمٌ لمَطلوبِه مِن حُكمِ المَسألةِ المُتَنازَعِ فيها، مَعَ كونِه غَيرَ مُستَلزَمٍ، فلا يَنقَطِعُ النِّزاعُ بتَسليمِه [2263] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/373). .
والمَعنى: أنَّ الذي يَقتَضيه الدَّليلُ ليسَ هو المُتَنازَعَ فيه؛ لأنَّ الخَصمَ إذا قال بموجَبِ العِلَّةِ كانت العِلَّةُ في مَوضِعِ الإجماعِ، فيَكونُ الحُكمُ الذي عَلَّله مُجمَعًا عليه، لكِنَّ العِلَّةَ لا تَكونُ مُتَناوِلةً لمَوضِعِ الخِلافِ. وإذا لم يَكُنْ موجَبُ العِلَّةِ مُتَنازَعًا فيه أمكَنَ تَسليمُه، ويبقى الخِلافُ على حالِه في صورةِ النِّزاعِ [2264] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (5/1463)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 402). .
والقَولُ بالموجَبِ لا يَختَصُّ بالقياسِ، وإنَّما يَدخُلُ في العِلَلِ والنُّصوصِ [2265] مِثالُ القَولِ بالموجبِ في القُرآنِ الكَريمِ: قَولُ اللهِ تعالى: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ [المنافقون: 8]. أي: صحيحٌ ما يَقولونَ مِن أنَّ الأعَزَّ يُخرِجُ الأذَلَّ، لكِنَّ النِّزاعَ باقٍ؛ فإنَّهم كَنَّوا بالأعَزِّ عن فريقِهم وبالأذَلِّ عن فريقِ المُؤمِنينَ، وأثبَتوا للأعَزِّ الإخراجَ؛ فأثبَتَ اللَّهُ تعالى في الرَّدِّ عليهم صِنفَ العِزَّةِ للهِ ولرَسولِه وللمُؤمِنينَ، أي: فإذا كان الأعَزُّ يُخرِجُ الأذَلَّ فأنتُم المُخرَجونَ. يُنظر: ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/472)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/375). ومِثالُه في السُّنَّةِ: قَولُ المُستَدِلِّ: المُحرِمُ إذا ماتَ لا يُغَسَّلُ ولا يُمَسُّ بطِيبٍ؛ لقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مَحرِمٍ وقَصَته ناقَتُه: ((لا تُمِسُّوه بطِيبٍ؛ فإنَّه يُبعَثُ يَومَ القيامةِ مُلبِّيًا)) [أخرجه البخاري (1851)، ومسلم (1206) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، ولفظُ البخاريِّ: ((أنَّ رَجُلًا كان مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فوقَصَته ناقَتُه وهو مُحرِمٌ، فماتَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اغسِلوه بماءٍ وسِدرٍ، وكَفِّنوه في ثَوبَيه، ولا تُمِسُّوه بطيبٍ، ولا تُخَمِّروا رَأسَه؛ فإنَّه يُبعَثُ يَومَ القيامةِ مُلبِّيًا))]، فيَقولُ المُعتَرِضُ: سَلَّمنا ذلك الرَّجُلَ، وإنَّما النِّزاعُ ليسَ في ذلك المُحرِمِ الذي ورَدَ فيه النَّصُّ، إنَّما النِّزاعُ في غَيرِه مِن المُحرِمينَ في زَمانِنا، والنَّصُّ ليسَ فيه عُمومٌ يتناوَلُهم، إنَّما هو في شَخصٍ مَخصوصٍ؛ لأنَّ اللَّفظَ لم يَرِدْ بصيغةِ العُمومِ، فلا يَضُرُّنا التِزامُ مُوجِبِه. يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 402)، ((تقريب الوصول)) لابن جزي (ص: 190). ، وجَميعِ ما يُستَدَلُّ به مِن القياسِ وغَيرِه [2266] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 402)، ((نفائس الأصول)) له (8/3446)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3459)، ((تقريب الوصول)) لابن جزي (ص: 189). ويُنظر للقول بالموجب في الإجماع: ((قوادح الاستدلال بالإجماع)) لسعد الشثري (ص: 439). .
قال الزَّركَشيُّ: (القَولُ بالموجَبِ مِن أحسَنِ ما يَجيءُ به المُناظِرُ... وهو مِن أحسَنِ وُجوهِ الاعتِراضاتِ، وأكثَرُ الاعتِراضاتِ الوارِدةِ على النُّصوصِ تَرجِعُ إليه؛ لأنَّ النَّصَّ إذا ثَبَتَ فلا يُمكِنُ رَدُّه، فلا يَرِدُ عليه سُؤالٌ إلَّا وحاصِلُه يَرجِعُ إلى تَسليمِ النَّصِّ، ومَنعِ لُزومِ الحُكمِ مِنه) [2267] ((البحر المحيط)) (7/375). .
مِثالُ القَولِ بالموجَبِ:
إذا قال الشَّافِعيُّ فيمَن أتى حَدًّا خارِجَ الحَرَمِ، ثُمَّ لجَأ إلى الحَرَمِ: يُستَوفى مِنه الحَدُّ؛ لأنَّه وُجِدَ سَبَبُ جَوازِ الاستيفاءِ مِنه، فكان جائِزًا؛ قياسًا على الحِلِّ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ (الحَنَفيُّ أو الحَنبَليُّ): أنا قائِلٌ بموجِبِ دَليلِك، وأنَّ استيفاءَ الحَدِّ جائِزٌ عِندي، لكِن لا أُسَلِّمُ في استيفاءِ الحَدِّ مِنه في الحَرَمِ حتَّى يَخرُجَ إلى الحِلِّ؛ فإنِّي أُنازِعُ في جَوازِ هَتكِ حُرمةِ الحَرَمِ، وليسَ في دَليلِك ما يَقتَضي جَوازَه.
فهذا قد سَلَّمَ للمُستَدِلِّ مُقتَضى دَليلِه، وهو جَوازُ استيفاءِ الحَدِّ، وادَّعى بَقاءَ الخِلافِ في شَيءٍ آخَرَ، وهو هَتكُ حُرمةِ الحَرَمِ [2268] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/111)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3462)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/555)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/397). .
وَجهُ كَونِ القَولِ بالموجَبِ قادِحًا:
القَولُ بالموجَبِ يُبطِلُ العِلَّةَ باعتِبارِ صورةِ النِّزاعِ خاصَّةً، وإلَّا فالعِلَّةُ صحيحةٌ مُسَلَّمةٌ، وحُكمُها صحيحٌ مُسَلَّمٌ أيضًا، وإنَّما بُطلانُها باعتِبارِ صورةِ النِّزاعِ خاصَّةً؛ وذلك أنَّ المُستَدِلَّ بها أرادَ أن يُثبِتَ الشَّيءَ المُتَنازَعَ فيه، فإذا هو قد أثبَتَ غَيرَه، بمَنزِلةِ الرَّامي إذا رَمى فأخطَأ الغَرَضَ؛ فإنَّ ذلك لا يَقدَحُ، فكذلك هاهنا، الاستِدلالُ صحيحٌ، وإنَّما فسَدَ مِن جِهةِ كونِه حادَ عن مَحَلِّ النِّزاعِ [2269] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/397). .
فإذا صَحَّ القَولُ بالموجَبِ وتَوجَّهَ على المُستَدِلِّ صحيحًا، انقَطَعَ؛ لأنَّ به تَبَيَّنَ أنَّ قياسَه لم يَتَناوَلْ مَحَلَّ النِّزاعِ، فتَبقى دَعواه خاليةً عن دَليلٍ.
وإذا فسَدَ القَولُ بالموجَبِ انقَطَعَ المُعتَرِضُ؛ إذ بفسادِه يَثبُتُ دَليلُ المُستَدِلِّ على مَحَلِّ النِّزاعِ سالِمًا عن مُعارِضٍ [2270] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/556). .
أقسامُ القَولِ بالموجَبِ:
القَولُ بالموجَبِ: إمَّا أن يَرِدَ مِن المُعتَرِضِ دَفعًا عن مَذهَبِه، أو إبطالًا لمَذهَبِ المُستَدِلِّ باستيفاءِ الخِلافِ مَعَ تَسليمِ مُقتَضى دَليلِه [2271] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/558). .
القِسمُ الأوَّلُ: أن يَدفعَ به المُعتَرِضُ عن مَذهَبِه [2272] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (4/186)، ((الإحكام)) للآمدي (4/111). .
مِثالُه: أن يَقولَ المُستَدِلُّ (كالشَّافِعيِّ أو الحَنبَليِّ) في وُجوبِ القِصاصِ بالقَتلِ بالمُثقَّلِ: التَّفاوُتُ في الآلةِ لا يَمنَعُ وُجوبَ القِصاصِ؛ قياسًا على التَّفاوُتِ في القَتلِ؛ فإنَّه لو ذَبَحَه، أو ضَرَبَ عُنُقَه، أو طَعنَه برُمحٍ، أو رَماه بسَهمٍ، أو غَيرِ ذلك مِن صُوَرِ القَتلِ، لم يَمنَعِ القِصاصَ؛ فكذلك التَّفاوُتُ في الآلةِ لا يَمنَعُ القِصاصَ، مُحَدَّدةً كانت أو مُثقَّلةً.
فهذا تَعَرُّضٌ مِن المُستَدِلِّ بإبطالِ مَأخَذِ الخَصمِ؛ إذ الحَنَفيُّ يَرى أنَّ التَّفاوُتَ في الآلةِ يَمنَعُ القِصاصَ؛ لأنَّ المُثَقَّلَ لمَّا تَقاصَرَ تَأثيرُه عن المُحَدَّدِ أورَثَ ذلك شُبهةً، والقِصاصُ حَدٌّ يُدرَأُ بالشُّبهةِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ (الحَنَفيُّ) دِفاعًا عن مَذهَبِه: أنا قائِلٌ بموجَبِ الدَّليلِ، وأُسَلِّمُ أنَّ التَّفاوُتَ في الآلةِ لا يَمنَعُ القِصاصَ، فلمَ لا يَمتَنِعُ وُجوبُ القِصاصِ بسَبَبٍ آخَرَ؟ فإنَّه لا يَلزَمُ مِن عَدَمِ المانِعِ للقِصاصِ ثُبوتُه، بَل إنَّما يَلزَمُ ثُبوتُه مِن وُجودِ مُقتَضيه، وهو السَّبَبُ الصَّالحُ لإثباتِه والنِّزاعِ فيه؛ ولهذا يَجِبُ القِصاصُ عِندي بالقَتلِ بالسَّيفِ أو السِّكِّينِ، أو نَحوِهما مِن الآلاتِ مَعَ تَفاوُتِها، لكِن إذا كانت صالحةً للإزهاقِ بالسَّرَيانِ في البَدَنِ بخِلافِ المُثقَّلِ [2273] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/269)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/328)، ((نفائس الأصول)) للقرافي (8/3446)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/558). .
القِسمُ الثَّاني: أن يَرِدَ الموجَبُ مِن المُعتَرِضِ إبطالًا لمَذهَبِ المُستَدِلِّ [2274] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (4/188). .
مِثالُه: أن يَقولَ المُستَدِلُّ في وُجوبِ زَكاةِ الخَيلِ: الخَيلُ حَيَوانٌ تَجوزُ المُسابَقةُ عليه؛ فتَجِبُ الزَّكاةُ فيه؛ قياسًا على الإبِلِ؛ فإنَّ الخَيلَ يُسابَقُ عليها كالإبِلِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: أنا قائِلٌ بموجَبِ هذه العِلَّةِ؛ فإنَّ الزَّكاةَ عِندي واجِبةٌ في الخَيلِ إذا كانت للتِّجارةِ، فإيجابُ الزَّكاةِ مِن حَيثُ الجُملةُ أقولُ به، ولكِنَّ نِزاعَنا في إيجابِ الزَّكاةِ في رِقابِها مِن حَيثُ هيَ خَيلٌ، لا زَكاةِ الاتِّجارِ بها. فسَلَّمَ ما اقتَضَته العِلَّةُ، ولم يَضُرَّه ذلك في صورةِ النِّزاعِ [2275] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/270)، ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/413)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 402)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/399). .
كيفيَّةُ الجَوابِ عن القَولِ بالموجَبِ:
تَقدَّمَ أنَّ القَولَ بالموجَبِ يَنقَسِمُ إلى قِسمَينِ، فالجَوابُ عنه يَكونُ بحَسَبِ هَذَينِ القِسمَينِ:
أوَّلًا: الجَوابُ عن القِسمِ الأوَّلِ، ويَكونُ بطُرُقٍ:
الطَّريقُ الأوَّلُ: أن يُبَيِّنَ المُستَدِلُّ لُزومَ حُكمِ مَحَلِّ النِّزاعِ بوُجودِ مُقتَضيه مِمَّا ذَكَرَه في دَليلِه إن أمكَنَه بَيانُه [2276] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/329)، ((الإحكام)) للآمدي (4/112)، ((نفائس الأصول)) للقرافي (8/3451)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/559). .
مِثلُ: أن يَقولَ المُستَدِلُّ في بَيعِ الغائِبِ: عَقدُ مُعاوَضةٍ، فلا يَنعَقِدُ على خيارِ الرُّؤيةِ؛ قياسًا على النِّكاحِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: أقولُ بموجِبِ هذا الدَّليلِ؛ فإنَّه إنَّما يَدُلُّ على أنَّ البَيعَ لا يَثبُتُ فيه خيارُ الرُّؤيةِ، فلمَ قُلتَ: إنَّه لا يَصِحُّ؟
فيُجيبُ المُستَدِلُّ بقَولِه: لأنَّ خيارَ الرُّؤيةِ لازِمٌ لصِحَّةِ البَيعِ عِندَك، فإذا سَلَّمتَ انتِفاءَ لازِمِها لزِمَك تَسليمُ انتِفائِها؛ إذ لا بَقاءَ للمَلزومِ بدونِ لازِمِه [2277] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/560). .
الطَّريقُ الثَّاني: أن يُبَيِّنَ المُستَدِلُّ أنَّ النِّزاعَ مَقصودٌ فيما يَعرِضُ له في الدَّليلِ، إمَّا بإقرارٍ أو اعتِرافٍ مِن المُعتَرِضِ بذلك.
مِثلُ: أن يَقولَ المُستَدِلُّ: إنَّما فرَضْنا الكَلامَ في صِحَّةِ بَيعِ الغائِبِ لا في ثُبوتِ خيارِ الرُّؤيةِ فيه، ويوقِعَ الاستِدلالَ على ذلك [2278] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/329)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/560)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/378). .
أو باشتِهارٍ بَينَ أهلِ العُرفِ أنَّ مِثلَ هذه المَسألةِ إنَّما جَرَت العادةُ أن يَقَعَ النِّزاعُ فيها في كذا؛ بأن يَقولَ: المَسألةُ مَشهورةٌ بالخِلافِ فيما فُرِضَ فيه الكَلامُ إن أمكَنَ، والشُّهرةُ بذلك دَليلُ وُقوعِ الخِلافِ فيه [2279] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/112)، ((نفائس الأصول)) للقرافي (8/3450)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/560). .
فلا يُسمَعُ مِن المُعتَرِضِ العُدولُ عنه؛ لأنَّه في الأوَّلِ إنكارٌ لما اعتَرَف به، وفي الثَّاني نَوعُ مُراوغةٍ ومُغالطةٍ ودَعوى جَهلٍ بالمَشهوراتِ، كمَن نَشَأ في بلادِ الإسلامِ وشَرِبَ أو زَنى مُدَّعيًا للجَهلِ بتَحريمِ ذلك [2280] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/560). .
ومِثالُه: أن يَقولَ المُستَدِلُّ: الدَّينُ لا يَمنَعُ وُجوبَ الزَّكاةِ، ووطءُ الثَّيِّبِ لا يَمنَعُ الرَّدَّ بالعَيبِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: أُسَلِّمُ أنَّه لا يَمنَعُ، لكِن لمَ قُلتَ: إنَّ الزَّكاةَ والرَّدَّ يَثبُتانِ؟
فيُجيبُ المُستَدِلُّ بقَولِه: هذا القَولُ بالموجَبِ لا يُسمَعُ؛ لأنَّ مَحَلَّ النِّزاعِ في هذه المَسائِل ونَحوِها مَشهورٌ، وهو أنَّ النِّزاعَ في الزَّكاةِ: هَل تَجِبُ مَعَ الدَّينِ، ووطءُ الثَّيِّبِ هَل يَجوزُ مَعَه الرَّدُّ؟ ومَعَ الشُّهرةِ لا يُقبَلُ العُدولُ عن المَشهورِ، ولا دَعوى خَفائِه [2281] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/329)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/560). .
وقال بَعضُ الأُصوليِّينَ: ويُمكِنُ أن يُرَدَّ هذا التَّقسيمُ مِن القَولِ بالموجَبِ إلى دَعوى فَسادِ الوَضعِ؛ لكَونِ دَليلِ المُستَدِلِّ فيه يَدُلُّ على خِلافِ مَحَلِّ النِّزاعِ، فأشبَهَ اقتِضاءُ العِلَّةِ خِلافَ ما عُلِّقَ بها [2282] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/561). .
ثانيًا: الجَوابُ عن القِسمِ الثَّاني: وهو أن يَرِدَ الموجَبُ مِن المُعتَرِضِ إبطالًا لمَذهَبِ المُستَدِلِّ:
فالجَوابُ عن القَولِ بموجبِه أن يُبَيِّنَ المُستَدِلُّ أنَّ عُمومَه، أو ظاهِرَه، أو تَفسيرَه، يَمنَعُ مِن القَولِ بموجِبِه [2283] يُنظر: ((المعونة)) للشيرازي (ص: 109). .
فمِثالُ العُمومِ: أن يَقولَ المُستَدِلُّ (كالشَّافِعيِّ والحَنبَليِّ): إنَّ القيامَ في الصَّلاةِ واجِبٌ على المُصَلِّي في السَّفينةِ؛ لأنَّ القيامَ فَرضٌ يَلزَمُ المُصَلِّيَ في غَيرِ السَّفينةِ، فوجَبَ في السَّفينةِ؛ قياسًا على سائِرِ الفُروضِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ (الحَنَفيُّ): أنا أقولُ بموجِبِه؛ فإنَّ القيامَ يَجِبُ في السَّفينةِ إذا كانت واقِفةً.
فيُجيبُ المُستَدِلُّ بالعُمومِ فيَقولُ: قَولُنا: "فوجَبَ في السَّفينةِ" عامٌّ في جَميعِ الأحوالِ، في حالِ قيامِ السَّفينةِ، وفي حالِ السَّيرِ؛ فالعِلَّةُ ثابتةٌ في حالِ السَّيرِ والوُقوفِ، فإذا سَلَّمَه في حالٍ بَقيَت العِلَّةُ حُجَّةً في غَيرِ تلك الحالِ، فلا يَصِحُّ القَولُ ببَعضِ مُوجِبِها [2284] يُنظر: ((المعونة)) للشيرازي (ص: 109)، ((التمهيد)) للكلوذاني (4/187)، ((الواضح)) لابن عقيل (2/266). .
ومِثالُ الظَّاهرِ: أن يَقولَ المُستَدِلُّ (الشَّافِعيُّ) في زَكاةِ الحُليِّ: إنَّه ما يَجِبُ فيه الزَّكاةُ بالحَولِ والنِّصابِ، فوجَبَ أن يَتَنَوَّعَ نَوعَينِ: نَوعٌ تَجِبُ فيه الزَّكاةُ، ونَوعٌ لا تَجِبُ فيه الزَّكاةُ؛ قياسًا على الماشيةِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: أنا أقولُ بموجِبِه؛ فإنَّه عِندي يَتَنَوَّعُ إلى نَوعَينِ: نَوعٌ تَجِبُ فيه الزَّكاةُ، وهو ما كان في البالِغِ. ونَوعٌ لا تَجِبُ فيه الزَّكاةُ، وهو ما كان للصَّبيِّ.
فيُجيبُ المُستَدِلُّ بالظَّاهِرِ، فيَقولُ: ظاهرُ التَّعليلِ يَقتَضي أن يَتَنَوَّعَ في نَفسِه، وفيما ذَكَرتُم لم يَتَنَوَّعِ المالُ، وإنَّما يَتَنَوَّعُ المالِكُ، فمالكٌ يَجِبُ عليه، ومالكٌ لا يَجِبُ عليه [2285] يُنظر: ((المعونة)) للشيرازي (ص: 110). .
ومِثالُ التَّفسيرِ: ما سَبَقَ في وُجوبِ الزَّكاةِ في الخَيلِ: يَقولُ المُستَدِلُّ (الحَنَفيُّ): حَيَوانٌ يُسابَقُ عليه، فتَجِبُ فيه الزَّكاةُ؛ قياسًا على الإبِلِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ (الشَّافِعيُّ): أنا أقولُ بموجِبِ ذلك، وهو وُجوبُ زَكاةِ القيمةِ فيها إذا كانت للتِّجارةِ.
فيُجيبُ المُستَدِلُّ بقَولِه: الزَّكاةُ التي ذَكَرْنا هيَ المَعروفةُ في الخَيلِ، وهيَ التي وقَعَ السُّؤالُ عنها، وهيَ زَكاةُ السَّومِ؛ فالنِّزاعُ إنَّما كان في زَكاةِ العَينِ، فقد عُرِّفَت الزَّكاةُ بالألِفِ واللَّامِ، فيَنصَرِفُ إلى مَحَلِّ النِّزاعِ المَعهودِ، وهو زَكاةُ العَينِ؛ فالعُدولُ إلى زَكاةِ القيمةِ لا يُسمَعُ؛ لأنَّه تَركٌ لمَدلولٍ إلى غَيرِه [2286] يُنظر: ((المعونة)) للشيرازي (ص: 110)، ((التمهيد)) للكلوذاني (4/187)، ((الواضح)) لابن عقيل (2/267)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/561). .

انظر أيضا: