موسوعة أصول الفقه

تَمهيدٌ: نَظرةٌ إجماليَّةٌ حولَ الاستِدلالِ بقَولِ الصَّحابيِّ


أجمَعَ العُلماءُ على أنَّ قَولَ الصَّحابيِّ ليس حُجَّةً على غَيرِه مِنَ الصَّحابةِ المُجتَهِدينَ، ومِمَّن نَقَل ذلك إمامُ الحَرَمَينِ [2469] قال: (أجمَعوا أنَّ قَولَ الصَّحابيِّ لا يَكونُ حُجَّةً على الصَّحابيِّ، والظَّاهِرُ مِنَ المَذاهِبِ أنَّهم إذا اختَلفوا يَسقُطُ الاحتِجاجُ بأقوالِهم). ((الاجتِهاد)) (ص:121). ، والآمِديُّ [2470] قال: (اتَّفقَ الكُلُّ على أنَّ مَذهَب الصَّحابيِّ في مَسائِلِ الاجتِهادِ لا يَكونُ حُجَّةً على غَيرِه مِنَ الصَّحابةِ المُجتَهدينَ، إمامًا كان أو حاكِمًا أو مُفتيًا). ((الإحكام)) (4/149). ، وصِفيُّ الدِّينِ الهِنديُّ [2471] قال: (اختَلفوا في أنَّ مَذهَبَ الصَّحابيِّ وقَولَه هَل هو حُجَّةٌ على مَن بَعدَهم مِنَ التَّابعَينِ أم لا؟ وإنَّما قُلنا على مَن بَعدَهم؛ لأنَّه ليسَ قَولُ بَعضِهم على بَعضٍ حُجَّةً وِفاقًا). ((نهاية الوصول)) (8/3981). ويُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (4/1209،1208)، ((الواضح)) لابن عقيل (5/210)، ((بذل النظر)) للأسمندي (ص:573)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2672، 2673). قال الشِّنقيطيُّ: (قَولُ الصَّحابيِّ الذي ليسَ له حُكمُ الرَّفعِ ليسَ بحُجَّةٍ على مُجتَهدٍ آخَرَ مِنَ الصَّحابةِ إجماعًا). ((مذكرة أصول الفقه)) (ص: 257). فالاتِّفاقُ قائِمٌ على أنَّ الصَّحابةَ إذا اختَلفوا لم يَكُنْ قَولُ أحَدِهم بعَينِه حُجَّةً على أحَدِهم. وتَبَعًا لذلك اختَلف أهلُ العِلمِ في بَعضِ المَسائِلِ التي وقَعَ فيها خِلافٌ بَينَ الصَّحابةِ رَضِيَ الله عنهم، فتَخَيَّرَ العُلماءُ مِن أقوالِهم بما يَرى كُلٌّ مِنهم أنَّه أقرَبُ للصَّوابِ، ومِن ذلك: مَسألةُ زَكاةِ الحُليِّ المُعَدِّ للزِّينةِ؛ فعِندَ مالِكٍ والشَّافِعيِّ وأحمدَ: لا زَكاةَ فيه، واستَدَلُّوا بقَولِ العَديدِ مِنَ الصَّحابةِ، مِنهم عائِشةُ رَضِيَ الله عنها؛ فقد كانت تَلي بَناتِ أخيها يَتامى في حِجرِها ولهنَّ حُليٌّ، فلا تُخرِجُ مِنه الزَّكاةَ. يُنظر: ((المدونة)) (1/305-306)، ((الأم)) (2/44)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (3/271)، ((مسائل الإمام أحمد)) رواية أبي داود السجستاني (ص:114)، ((الهداية)) للكلوذاني (ص:137). وعِند أبي حَنيفةَ: تَجِبُ فيه الزَّكاةُ؛ لعُمومِ الأحاديثِ، ولِما رُويَ عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ مِن أنَّ فيه الزَّكاةَ. يُنظر: ((الحجة)) لمحمد بن الحسن (1/448)، ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (2/314). ومِن ذلك أيضًا مَسألةُ: الخَلوةُ الصحيحةُ بدونِ وطءٍ هَل توجِبُ المَهرَ كامِلًا أو لا؟ فاختَلف الفُقَهاءُ في ذلك؛ فذَهَبَ الحَنَفيَّةُ والحَنابِلةُ إلى أنَّها توجِبُ المَهرَ كامِلًا، واستَدَلُّوا بقَولِ الصَّحابةِ، ومِنهم زُرارةُ بنُ أبي أَوفى؛ حَيثُ قال: قَضاءُ الخُلفاءِ الرَّاشِدينَ المَهديِّينَ أنَّ مَن أغلقَ بابًا، أو أرخى سِترًا فقد وجَبَ المَهرُ، ووجَبَتِ العِدَّةُ. يُنظر: ((البناية)) للبابرتي (5/147). ((مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه)) لكوسج (4/1594)، ((الكافي)) لابن قدامة (3/65). وذَهَبَ الشَّافِعيُّ إلى أنَّه ليسَ لها مِنَ المَهرِ إلَّا نِصفُه، ولا تَأثيرَ للخَلوةِ في كَمالِ مَهرٍ ولا إيجابِ عِدَّةٍ، وبه قال مِنَ الصَّحابةِ: ابنُ عبَّاسٍ، وابنُ مَسعودٍ. يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (9/540)، ((نهاية المطلب)) للجويني (13/178). .
ولكِن هَل يُعتَبَرُ قَولُ الصَّحابيِّ حُجَّةً على مَن بَعدَه مِنَ التَّابِعينَ وغَيرِهم؟ فهذا فيه تَفصيلٌ، فيُنظَرُ هَل رَأيُه مِمَّا له حُكمُ الرَّفعِ، أو أنَّه من قَبيلِ الاجتِهادِ؟ وإذا كان مِن بابِ الاجتِهادِ فقد يَنتَشِرُ بَينَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم ولا يُنكِرونَه، وقد لا يَشتَهرُ بَينَهم، غَيرَ أنَّه لا يُعلمُ له مُخالِفٌ.

انظر أيضا: