موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ الأوَّلُ: إذا قال الصَّحابيُّ قَولًا في مَسألةٍ لا مَجالَ للرَّأيِ والاجتِهادِ فيها


قد يقُولُ الصَّحابيُّ قَولًا في مَسألةٍ لا مَجالَ للرَّأيِ والاجتِهادِ فيها [2472] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (3/194)، ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص:185). وذلك كقَولِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما فيمَن نَذَرَ ذَبحَ وَلَدِه: يَذبَحُ شاةً [2473]  أخرجه عبد الرزاق (15905)، والطبراني (11/354) (11995)، ولفظُه: عن عِكرِمةَ -أحسَبُه- عن ابنِ عبَّاسٍ، قال: مَن نَذَرَ أن يَنحَرَ نَفسَه أو ولدَه فليَذبَحْ كَبشًا. قال الهيثميُّ في ((مجمع الزوائد)) (4/193): رِجالُه رِجالُ الصَّحيحِ. .
فهذا له حُكمُ المَرفوعِ [2474] قال الكورانيُّ في شَرحِه على جَمعِ الجَوامِعِ: (قال المُصَنِّفُ -ناقِلًا عن والِدِه-: حُجَّةٌ في التَّعَبُّديِّ الذي ليسَ للقياسِ فيه مَجالٌ؛ لِما رُويَ أنَّ عليًّا رَضِيَ الله عنه صَلَّى في ليلةٍ سِتَّ رَكَعاتٍ كُلَّ رَكعةٍ فيها سِتُّ سَجَداتٍ، قال الشَّافِعيُّ: لو صَحَّ عن عليٍّ أنَّه فعَل لقُلتُ به. وهذا في الحَقيقةِ ليسَ مَحَلَّ النِّزاعِ؛ لأنَّ الكَلامَ فيما يَقولُه الصَّحابيُّ برَأيِه، وما لا مَجالَ للرَّأيِ فيه، هو في المَعنى حَديثٌ مَرفوعٌ). ((الدرر اللوامع)) (4/33). كما تَقَرَّرَ في عِلمِ الحَديثِ [2475] قال السَّخاويُّ وهو يُعَلِّقُ على حَديثِ سَلَمةَ بنِ كُهَيلٍ، عن مُصعَبِ بنِ سَعدٍ، عن أبيه، قال: "المُسلِمُ يُطبَعُ على كُلِّ طَبيعةٍ غَيرِ الخيانةِ والكَذِبِ": (فهو مِمَّا يُحكَمُ له بالرَّفعِ على الصَّحيحِ؛ لكَونِه مِمَّا لا مَجالَ للرَّأيِ فيه). ((المقاصد الحسنة)) (ص:503). ويُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/464)، ((عمدة القاري)) للعيني (4/51). ، فيُقدَّمُ على القياسِ، ويُخَصُّ به النَّصُّ، إن لم يُعرَفِ الصَّحابيُّ بالأخذِ مِنَ الإسرائيليَّاتِ، وهو اختيارُ الأسمَنديِّ [2476] يُنظر: ((بذل النظر)) (ص:481). ، والرَّازيِّ [2477] يُنظر: ((المحصول)) (4/448). ، وغَيرِهما.
وذلك لأنَّ حُسنَ الظَّنِّ بالصَّحابيِّ أنَّه لا يَتَكَلَّمُ في الدِّينِ بكَلامٍ جُزافٍ، بَل ثَبَتَ عِندَه بطَريقِ الاجتِهادِ أوِ السَّماعِ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى أثنى عليهم بقَولِه تعالى: رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة: 100] ، وقَولِه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110] ، فإذا قال قَولًا لا مَجالَ للاجتِهادِ فيه فلا بُدَّ إذَنْ أن يَكونَ سَمِعَه مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [2478] يُنظر: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (2/174)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/389)، ((التمهيد)) للكلوذاني (3/195)، ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص:185). .
ولكِنَّ الأئِمَّةَ يَختَلفونَ في مَدى الاحتِجاجِ به قِلَّةً وكَثرةً؛ لعَدَمِ الاتِّفاقِ على ضابطٍ مُعَيَّنٍ يُحَدِّدُ ما لا مَجالَ للرَّأيِ فيه؛ فقد يَرى بَعضُهم أنَّ هذه المَسألةَ مِمَّا لا مَجالَ للرَّأيِ فيها، فيَعمَلُ بقَولِ الصَّحابيِّ فيها، ويَرى الآخَرُ أنَّها مِمَّا يَدخُلُه الاجتِهادُ، فلا يَعمَلُ بقَولِ الصَّحابيِّ فيها [2479] يُنظر: ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص:185). .
وقيل: ليس له حُكمُ المَرفوعِ، وهو اختيارُ السَّمعانيِّ [2480] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) (1/389). ، وأبي الخَطَّابِ الكَلْوَذانيِّ [2481] يُنظر: ((التمهيد)) (3/195). .

انظر أيضا: