موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الثَّانيةُ: إذا قال الصَّحابيُّ قَولًا ولم يَشتَهِرْ رَأيُه بَينَ الصَّحابةِ ولا خالفَه أحَدٌ مِنهم


اختَلف الأُصوليُّونَ فيما إذا قال الصَّحابيُّ قَولًا ولم يَشتَهِرْ رَأيُه بَينَ الصَّحابةِ ولا خالفَه أحَدٌ مِنهم، وذلك على أقوالٍ، مِنها:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّه ليس بحُجَّةٍ، وهو اختيارُ بَعضِ الحَنَفيَّةِ، ومِنهم أبو سَعيدٍ البَرْدَعيُّ [2485] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (3/361)، ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص:256). ، والشَّافِعيُّ في الجَديدِ [2486] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص:395). ، واختارَه مِنَ الشَّافِعيَّةِ: الآمِديُّ [2487] يُنظر: ((الإحكام)) (4/149). ، وأبو إسحاقَ الشِّيرازيُّ [2488] يُنظر: ((التبصرة)) (ص:395). ، والغَزاليُّ [2489] يُنظر: ((المستصفى)) (ص:168). ، وهو رِوايةٌ عن أحمَدَ [2490] يُنظر: ((الواضح)) لابن عقيل (5/38، 210)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/467)، ((إجمال الإصابة)) للعلائي (ص:36). ، ومِمَّنِ اختارَه مِنَ الحَنابلةِ ابنُ عَقيلٍ [2491] يُنظر: ((الواضح)) (5/38، 210). .
واستَدَلُّوا على ذلك بما يَلي:
أوَّلًا: مِنَ القُرآنِ
1- عُمومُ قَولِ اللهِ تعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر: 2] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
 أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ أمَرَ بالاعتِبارِ، وذلك يُنافي جَوازَ التَّقليدِ [2492] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (6/129)، ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص:179). .
2- عُمومُ قَولِ اللهِ تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أوجَبَتِ الآيةُ الرَّدَّ عِندَ الاختِلافِ إلى اللهِ تعالى ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلو كان الرَّدُّ إلى قَولِ الصَّحابيِّ أو مَذهَبِه مِن مَدارِكِ الأحكامِ لذَكَرَته الآيةُ، وإلَّا لزِمَ تَأخيرُ البَيانِ عن وَقتِ الحاجةِ، ولأنَّ الرَّدَّ إلى الصَّحابيِّ تَركٌ للرَّدِّ إلى اللهِ ورَسولِه، فيَكونُ تَركًا للواجِبِ، فلم يَكُنْ جائِزًا فَضلًا عن أن يَكونَ واجِبًا [2493] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/149)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3983). .
ثانيًا: الإجماعُ
اتَّفقَ الصَّحابةُ على جَوازِ مُخالَفةِ كُلِّ واحِدٍ مِن آحادِ الصَّحابةِ، ومِمَّن نَقَل الاتِّفاقَ على ذلك: الغَزاليُّ [2494] قال: (اتَّفقَتِ الصَّحابةُ على جَوازِ مُخالَفةِ الصَّحابةِ). ((المستصفى)) (ص:168). ، والرَّازيُّ [2495] قال: (الصَّحابةُ أجمَعوا على جَوازِ مُخالفةِ كُلِّ واحِدٍ مِن آحادِ الصَّحابةِ). ((المَحصول)) (6/129-130). ويُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/150). ، فلم يُنكِرْ أبو بَكرٍ وعُمَرُ رضِيَ اللهُ عنهما على مَن خالفَهما، ولا كُلُّ واحِدٍ مِنهما على صاحِبِه فيما اختَلفا فيه، بَل أوجَبوا في مَسائِلِ الاجتِهادِ على كُلِّ مُجتَهِدٍ أن يَتبَعَ اجتِهادَ نَفسِه [2496] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص:168)، ((المحصول)) للرازي (6/129-130)، ((الإحكام)) للآمدي (4/150). .
ثالثًا: أنَّ التَّابعيَّ والصَّحابيَّ مُتَساويانِ في آلةِ الاجتِهادِ وجَوازِ الخَطَأِ على كُلِّ واحِدٍ مِنهما، فلا يَجوزُ لأحَدِهما تَركُ اجتِهادِه لقَولِ الآخَرِ، كالصَّحابيَّينِ والتَّابعيَّينِ [2497] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص:395)، .
رابعًا: لو كان قَولُه حُجَّةً لدَعا النَّاسَ إلى قَولِه، كالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكالأُمَّةِ لمَّا كان إجماعُهم حُجَّةً دَعَوا سائِرَ الأُمَمِ إلى ما أجمَعوا عليه [2498] يُنظر: ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 257)، ((بذل النظر)) للأسمندي (ص:575). .
خامِسًا: أنَّه قَولُ عالمٍ يَجوزُ عليه الخَطَأُ، فلم يَكُنْ حُجَّةً، كقَولِ التَّابِعينَ [2499] يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (1/439)، ((التبصرة)) للشيرازي (ص:395)، ((المستصفى)) للغزالي (ص:168)، ((الإحكام)) للآمدي (4/150). ، وبَيانُه أنَّ الصَّحابيَّ غَيرُ مَعصومٍ عنِ الخَطَأِ، واحتِمالُ الخَطَأِ في اجتِهادِه قائِمٌ، واحتِمالُ أنَّه قال ذلك باجتِهادِه ثابتٌ، فلا يَلزَمُ تَقليدُه؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى مَتى نَصَبَ الأماراتِ على الأحكامِ فقد كَلَّف المُجتَهِدَ بالاستِدلالِ بها، ولا يَختَصُّ ذلك ببَعضِ المُجتَهِدينَ دونَ البَعضِ؛ فيَجِبُ على كُلِّ مُجتَهِدٍ العَمَلُ باجتِهادِه، وذلك يَمنَعُ مِن تَقليدِ غَيرِه [2500] يُنظر: ((بذل النظر)) للأسمندي (ص:575)، ((الضروري)) لابن رشد (ص:97). .
القَولُ الثَّاني: أنَّه حُجَّةٌ، وهو اختيارُ مُعظَمِ الحَنَفيَّةِ، ومِنهمُ الجَصَّاصُ [2501] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (3/361)، ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص:256)، ((أصول السرخسي)) (2/105). قال السَّرَخْسيُّ: (عَمَلُ عُلمائِنا بهذا في مَسائِلِهم مُختَلِفٌ). ((أصول السرخسي)) (2/ 106). وقال الجَصَّاصُ: (كان أبو الحَسَنِ يَقولُ: كَثيرًا مِمَّا أرى لأبي يوسُفَ في إضعافِ مَسألةٍ يَقولُ: القياسُ كَذا، إلَّا أنِّي تَرَكتُه للأثَرِ، وذلك الأثَرُ قَولُ صَحابيٍّ لا يُعرَفُ عن غَيرِه مِن نُظَرائِه خِلافُه. قال أبو الحَسَنِ: فهذا يَدُلُّ مِن قَولِه دَلالةً بَيِّنةً على أنَّه كان يَرى أنَّ تَقليدَ الصَّحابيِّ إذا لم يُعلَمْ خِلافُه مِن أهلِ عَصرِه أَولى مِنَ القياسِ. قال أبو الحَسَنِ: أمَّا أنا فلا يُعجِبُني هذا المَذهَبُ. قال أبو الحَسَنِ: وأمَّا أبو حَنيفةَ فلا يُحفَظُ عنه ذلك، إنَّما الذي يُحفَظُ عنه أنَّه قال: إذا اجتَمَعَتِ الصَّحابةُ على شَيءٍ سَلَّمناه لهم، وإذا اجتَمَعَ التَّابِعونَ زاحَمناهم). ((الفصول)) (3/361). وقال أبو يَعلى الحَنبَليُّ: (قد ثَبَتَ أنَّ قَولَ الصَّحابيِّ إذا انفرَدَ حُجَّةٌ مُقَدَّمٌ على القياسِ في الصَّحيحِ مِن قَولِ أصحابِنا، وقَولِ أصحابِ أبي حَنيفةَ وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ). ((العدة)) (4/1161). ، وبَدرُ الدِّينِ العَينيُّ [2502] يُنظر: ((نخب الأفكار)) (2/62). ، واختارَه مالِكٌ [2503] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص:445). ، واختارَه الشَّافِعيُّ في القديمِ [2504] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص:395)، ((التلخيص)) لإمام الحرمين (3/451). قال ابنُ تَيميَّةَ: (وإن قال بَعضُهم قَولًا ولم يَقُلْ بَعضُهم بخِلافِه ولم يَنتَشِرْ، فهذا فيه نِزاعٌ، وجُمهورُ العُلماءِ يَحتَجُّونَ به كَأبي حَنيفةَ، ومالكٍ، وأحمدَ في المَشهورِ عنه، والشَّافِعيِّ في أحَدِ قَولَيه، وفي كُتُبِه الجَديدةِ الاحتِجاجُ بمِثلِ ذلك في غَيرِ مَوضِعٍ، ولكِن مِنَ النَّاسِ مَن يَقولُ: هذا هو القَولُ القديمُ). ((مجموع الفتاوى)) (20/14). ومُحَقِّقو المَذهَبِ الشَّافِعيِّ -ومِنهمُ السُّبكيُّ- نَسَبَ إلى الشَّافِعيِّ في الجَديدِ أنَّه ليسَ حُجَّةً، وأخبَرَ أنَّ ما عَمِل فيه بقَولِ الصَّحابيِّ ليسَ تَقليدًا للصَّحابيِّ، إنَّما لأجلِ أنَّه قَولٌ فيما لا مَجالَ للاجتِهادِ فيه، فله حُكمُ الرَّفعِ، قال وليُّ الدِّينِ العِراقيُّ: (قال السُّبكيُّ: إنَّ الشَّافِعيَّ يَستَثني مِن قَولِه في الجَديدِ: ليسَ بحُجَّةٍ، التَّعَبُّديَّ الذي لا مَجالَ للقياسِ فيه؛ لأنَّه قال في اختِلافِ الحَديثِ: رُوِيَ عن عليٍّ رَضِيَ الله عنه أنَّه صَلَّى في ليلةٍ سِتَّ رَكَعاتٍ في كُلِّ رَكعةٍ سِتَّ سَجَداتٍ، ولو ثَبَتَ ذلك عن عليٍّ قُلتُ به؛ لأنَّه لا مَجالَ للقياسِ فيه، والظَّاهِرُ أنَّه فعَله تَوقيفًا). ((الغيث الهامع)) (ص:651). وقال الغَزاليُّ: (رَجَعَ في الجَديدِ إلى أنَّه لا يُقَلِّدُ العالمُ صَحابيًّا كما لا يُقَلِّدُ عالِمًا آخَرَ). ((المستصفى)) (ص:170). إلَّا أنَّ كَلامَ الشَّافِعيِّ في كِتابِه "الأُمِّ" يُبَيِّنُ أنَّه يَأخُذُ بقَولِ الصَّحابيِّ؛ حَيثُ قال: (قُلتُ: أقولُ ما كان الكِتابُ والسُّنَّةُ مَوجودَينِ فالعُذرُ عَمَّن سَمِعَهما مَقطوعٌ إلَّا باتِّباعِهما، فإذا لم يَكُنْ ذلك صِرْنا إلى أقاويلِ أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو واحِدٍ مِنهم، ثُمَّ كان قَولُ الأئِمَّةِ أبي بَكرٍ أو عُمَرَ أو عُثمانَ -إذا صِرْنا فيه إلى التَّقليدِ- أحَبَّ إلينا، وذلك إذا لم نَجِدْ دَلالةً في الاختِلافِ تَدُلُّ على أقرَبِ الاختِلافِ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ، فيُتبَعُ القَولُ الذي مَعَه الدَّلالةُ؛ لأنَّ قَولَ الإمامِ مَشهورٌ بأنَّه يَلزَمُه النَّاسُ، ومَن لزِمَ قَولَه النَّاسُ كان أشهَرَ مِمَّن يُفتي الرَّجُلَ أوِ النَّفرَ، وقد يَأخُذُ بفُتياه أو يَدَعُها، وأكثَرُ المُفتينَ يُفتونَ للخاصَّةِ في بُيوتِهم ومَجالِسِهم، ولا تُعنى العامَّةُ بما قالوا عِنايَتَهم بما قال الإمامُ، وقد وجَدنا الأئِمَّةَ يَبتَدِئونَ فيَسألونَ عنِ العِلمِ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ فيما أرادوا أن يَقولوا فيه، ويَقولونَ فيُخبرونَ بخِلافِ قَولِهم، فيَقبَلونَ مِنَ المُخبرِ ولا يَستَنكِفونَ على أن يَرجِعوا لتَقواهمُ اللَّهَ وفَضلهم في حالاتِهم، فإذا لم يوجَدْ عنِ الأئِمَّةِ فأصحابُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ الدِّينِ في مَوضِعٍ أخَذْنا بقَولِهم، وكان اتِّباعُهم أَولى بنا مِنِ اتِّباعِ مَن بَعدَهم، والعِلمُ طَبَقاتٌ شَتَّى؛ الأولى: الكِتابُ والسُّنَّةُ إذا ثَبَتَتِ السُّنَّةُ. ثُمَّ الثَّانيةُ: الإجماعُ فيما ليسَ فيه كِتابٌ ولا سُنَّةٌ. والثَّالِثةُ: أن يَقولَ بَعضُ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا نَعلمُ له مُخالِفًا مِنهم، والرَّابعةُ: اختِلافُ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ذلك). ((الأم)) (7/280). وقال أيضًا: (إذا باعَ الرَّجُلُ العَبدَ أو شَيئًا مِنَ الحَيَوانِ بالبَراءةِ مِنَ العُيوبِ، فالذي نَذهَبُ إليه -واللَّهُ تعالى أعلَمُ- قَضاءُ عُثمانَ بنِ عَفَّانَ رَضيَ اللهُ تعالى عنه أنَّه بَرِئَ مِن كُلِّ عَيبٍ لم يَعلَمْه، ولم يَبرَأْ مِن عَيبٍ عَلِمَه ولم يُسَمِّه البائِعُ ويَقِفُه عليه، وإنَّما ذَهَبنا إلى هذا تَقليدًا). ((الأم)) (6/219). وقد أطال ابنُ القَيِّمِ في بَيانِ ذلك في ((إعلام الموقعين)) (4/581: 583). ، والحَنابلةُ، وهو رِوايةٌ عن أحمَدَ [2505] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (4/1178-1182)، ((الواضح)) لابن عقيل (5/38، 210). ، واختارَه ابنُ تَيميَّةَ [2506] يُنظر: ((تنبيه الرجل العاقل)) (2/563). ، والطُّوفيُّ [2507] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) (3/185). ، والسَّعديُّ [2508] يُنظر: ((رسالة لطيفة جامعة في أصول الفقه المهمة)) (ص: 109). ، واستَظهَرَه الشِّنقيطيُّ [2509] يُنظر: ((مذكرة أصول الفقه)) (ص: 256-257). .
واستَدَلُّوا على ذلك بأدِلَّةٍ، مِنها:
أوَّلًا: مِنَ القُرآنِ
عُمومُ قَولِ اللهِ تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة: 100] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ مَدَح الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم والتَّابِعينَ لهم بالإحسانِ، وإنَّما استَحَقَّ التَّابعونَ لهمُ المَدحَ باتِّباعِهم لهم بإحسانٍ؛ مِن حَيثُ الرُّجوعُ إلى رَأيِهم دونَ الرُّجوعِ إلى الكِتابِ والسُّنَّةِ؛ إذ لو كان المَدحُ مِن أجلِ رُجوعِهم إلى الكِتابِ والسُّنَّةِ لكان استِحقاقُ المَدحِ باتِّباعِ الكِتابِ والسُّنَّةِ لا باتِّباعِ الصَّحابةِ، والمَدحُ في الآيةِ لاتِّباعِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم [2510] يُنظر: ((ميزان الأصول)) للسمرقندي (1/485)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/222)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (5/556). .
ثانيًا: الإجماعُ
أنَّ التَّابعينَ لا يَختَلفونَ في الرُّجوعِ إلى أقوالِ الصَّحابةِ فيما ليس فيه كِتابٌ ولا سُنَّةٌ ولا إجماعٌ، ثُمَّ هذا مَشهورٌ أيضًا في كُلِّ عَصرٍ ولا يَخلو عنه عَصرٌ، فيُستَدَلُّ بأقوالِهم وتُذكَرُ في الكُتُبِ [2511] يُنظر: ((إجمال الإصابة)) للعلائي (ص:67). ؛ قال ابنُ القَيِّمِ: (لم يَزَلْ أهلُ العِلمِ في كُلِّ عَصرٍ ومِصرٍ يَحتَجُّونَ بما هذا سَبيلُه مِن فتاوى الصَّحابةِ وأقوالِهم، ولا يُنكِرُه مُنكِرٌ مِنهم، وتَصانيفُ العُلماءِ شاهِدةٌ بذلك، قال بَعضُ عُلماءِ المالكيَّةِ: أهلُ الأعصارِ مُجمِعونَ على الاحتِجاجِ بما هذا سَبيلُه، وذلك مَشهورٌ في رِواياتِهم وكُتُبِهم ومُناظَراتِهم واستِدلالاتِهم، ويَمتَنِعُ والحالةُ هذه إطباقُ هؤلاء كُلِّهم على الاحتِجاجِ بما لم يَشرَعِ اللهُ ورَسولُه الاحتِجاجَ به، ولا نَصَبَه دَليلًا للأُمَّةِ، فأيُّ كِتابٍ شِئتَ مِن كُتُبِ السَّلَفِ والخَلَفِ المُتَضَمِّنةِ للحُكمِ والدَّليلِ وجَدتَ فيه الاستِدلالَ بأقوالِ الصَّحابةِ، ووجَدتَ ذلك طِرازَها وزينَتَها) [2512] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (6/30). .
ثالثًا: أنَّ الصَّحابيَّ حَضَرَ التَّنزيلَ فعَرَف التَّأويلَ لمُشاهَدَتِه لقَرائِنِ الأحوالِ [2513] يُنظر: ((مذكرة أصول الفقه)) للشنقيطي (ص: 256). .
رابعًا: أنَّ قَولَ الصَّحابيِّ إذا انتَشَرَ ولم يُنكِرْ عليه مُنكِرٌ، كان حُجَّةً؛ فكان حُجَّةً مَعَ عَدَمِ الانتِشارِ [2514] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/ 154). .
خامِسًا: أنَّ الصَّحابيَّ إذا أفتى فتلك الفتوى التي يُفتي بها لا تَخرُجُ عن سِتَّةِ وُجوهٍ [2515] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/ 623). :
1- أن يَكونَ سَمِعَها مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
2- أن يَكونَ سَمِعَها مِمَّن سَمِعَها مِنه.
3- أن يَكونَ فَهِمَها مِن آيةٍ مِن كِتابِ اللهِ فَهمًا خَفِيَ علينا.
4- أن يَكونَ قدِ اتَّفقَ عليها مَلؤُهم، ولم يُنقَلْ إلينا إلَّا قَولُ المُفتي بها وَحدَه.
5- أن يَكونَ لكَمالِ عِلمِه باللُّغةِ ودَلالةِ اللَّفظِ على الوَجهِ الذي انفرَدَ به عنَّا، أو لقَرائِنَ حاليَّةٍ اقتَرَنَت بالخِطابِ، أو لمَجموعِ أُمورٍ فَهِموها على طولِ الزَّمانِ مِن رُؤيةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومُشاهَدةِ أفعالِه وأحوالِه وسيرَتِه، وسَماعِ كَلامِه، والعِلمِ بمَقاصِدِه، وشُهودِ تَنزيلِ الوَحيِ ومُشاهَدةِ تَأويلِه بالفِعلِ، فيَكونُ فَهِمَ ما لا نَفهَمُه نحن، وعلى هذه التَّقاديرِ الخَمسةِ تَكونُ فتواه حُجَّةً يَجِبُ اتِّباعُها.
6- أن يَكونَ قد فَهِمَ ما لم يُرِدْه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأخطَأ في فَهمِه، والمُرادُ غَيرُ ما فَهِمَه، وعلى هذا التَّقديرِ لا يَكونُ قَولُه حُجَّةً، ومَعلومٌ أنَّ وُقوعَ احتِمالٍ مِن خَمسةٍ أغلَبُ على الظَّنِّ مِن وُقوعِ احتِمالِ واحِدٍ مُعَيَّنٍ؛ إذ يُفيدُ ظنًّا غالبًا قويًّا على أنَّ الصَّوابَ في قَولِه دونَ ما خالفَه مِن أقوالِ مَن بَعدَه، وليسَ المَطلوبُ إلَّا الظَّنَّ الغالِبَ، والعَمَلُ به مُتَعَيَّنٌ.
وقيل: هو حُجَّةٌ فيما لا مَجالَ للاجتِهادِ فيه، وهو اختيارُ أبي الحُسَينِ البَصريِّ [2516] يُنظر: ((المعتمد)) (2/174). ، والأسمَنديِّ [2517] يُنظر: ((بذل النظر)) (ص:573). .
وقيل: حُجَّةٌ إن خالَفَ القياسَ [2518] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3982). .

انظر أيضا: