موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ الثَّاني: الاستِحسانُ اصطِلاحًا


الاستِحسانُ في اصطِلاحِ الأُصوليِّينَ: هو العُدولُ عنِ الحُكمِ في مَسألةٍ ما بمِثلِ ما حُكِمَ به في نَظائِرِها إلى خِلَافِهِ؛ لوجهٍ أقوى يَقتَضي هذا العُدولَ [2537] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (6/125)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/3). .
وقيل: هو دَليلٌ يُقابِلُ القياسَ الجَليَّ [2538] يُنظر: ((التوضيح)) لصدر الشريعة (2/162)، ((حاشية التفتازاني على شرح العضد على مختصر المنتهى)) (3/576). .
وقيل: هو اسمٌ لدَليلٍ مُتَّفَقٍ عليه، نَصًّا كان أو إجماعًا أو قياسًا خَفيًّا، إذا وقَعَ في مُقابَلةِ قياسٍ تَسبقُ إليه الأفهامُ [2539] يُنظر: ((التلويح)) للتفتازاني (2/163). .
وقيل: هو الأخذُ بمَصلحةٍ جُزئيَّةٍ في مُقابَلةِ دَليلٍ كُلِّيٍّ [2540] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (5/194). .
وهذه التَّعريفاتُ وإن تَعَدَّدَت ألفاظُها إلَّا أنَّها تَجمَعُها حَقيقةٌ واحِدةٌ، وهيَ: تَرجيحُ دَليلٍ والعَمَلُ به في مُقابَلةِ دَليلٍ آخَرَ، سَواءٌ كان هذا الدَّليلُ المَعمولُ به والمُرَجِّحُ نَصًّا أو عُرفًا أو قياسًا، أو غَيرَ ذلك مِن صُوَرِ الاستِحسانِ الوارِدِ ذِكرُها، وهو ما عَبَّروا عنه بأنَّه عُدولُ المُجتَهِدِ عن أن يَحكُمَ في مَسألةٍ ما بمِثلِ ما حَكَمَ في نَظائِرِها إلى الحُكمِ بخِلافِه بناءً على وَجهٍ أقوى اقتَضى هذا العُدولَ [2541] يُنظر: بحث ((الاستحسان: حقيقته ومذاهب الأصوليين فيه)) للنشمي مجلة الشريعة بالكويت (العدد:1/ص:112). .
وهو في الحَقيقةِ عَمَلٌ بأقوى الدَّليلينِ، ولكِن ليس كُلُّ عَمَلٍ بأقوى الدَّليلينِ يُسَمَّى استِحسانًا، بل هو عَمَلٌ بأقوى الدَّليلينِ فيما حَكَمَ فيه المُجتَهِدُ بصِحَّةِ كُلِّ واحِدٍ مِنَ الدَّليلَينِ [2542] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (5/1610). .
وإنَّما خُصَّ باسمِ الاستِحسانِ للتَّمييزِ بَينَ هذا النَّوعِ مِنَ الدَّليلِ وبَينَ الظَّاهرِ الذي تَسبقُ إليه الأوهامُ قَبلَ التَّأمُّلِ، على مَعنى أنَّه يُمالُ بالحُكمِ عن ذلك الظَّاهرِ؛ لكَونِه مُستَحسَنًا لقوَّةِ دَليلِه، وهو نَظيرُ عِباراتِ أصحابِ الفُنونِ الأُخرى في التَّمييزِ بَينَ الطُّرُقِ لمَعرِفةِ المُرادِ؛ فإنَّ أهلَ النَّحوِ يَقولونَ: هذا نُصِبَ على التَّفسيرِ، وهذا نُصِبَ على المَصدَرِ، وهذا نُصِبَ على الظَّرفِ، وهذا نُصِبَ على التَّعَجُّبِ، وما وضَعوا هذه العِباراتِ إلَّا للتَّمييزِ بَينَ الأدَواتِ النَّاصِبةِ، وأهلُ العَروضِ يَقولونَ: هذا مِنَ البَحرِ الطَّويلِ، وهذا مِنَ البَحرِ المُتَقارِبِ، وهذا مِنَ البَحرِ المَديدِ؛ فكذلك استَعمَل العُلماءُ عِبارةَ القياسِ والاستِحسانِ للتَّمييزِ بَينَ الدَّليلينِ المُتَعارِضَينِ، وتَخصيصِ أحَدِهما بالاستِحسانِ؛ لكونِ العَمَلِ به مُستَحسَنًا، ولكَونِه مائِلًا عن سَنَنِ القياسِ الظَّاهِرِ؛ فكان هذا الاسمُ مُستَعارًا لوُجودِ مَعنى الاسمِ فيه [2543] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (2/201). .
وسَمَّى الحَنَفيَّةُ الاستِحسانَ بهذا الاسمِ؛ لاستِحسانِهم تَركَ القياسِ، أوِ الوَقفِ عنِ العَمَلِ به بدَليلٍ آخَرَ فوقَه في المَعنى المُؤَثِّرِ أو مِثلِه، وإن كان أخفى مِنه إدراكًا، ولم يَرَوا القياسَ الظَّاهرَ حُجَّةً قاطِعةً لظُهورِه، ولا رَأوا الظُّهورَ رُجحانًا، بَل نَظَروا إلى قوَّةِ الدَّليلِ في نَفسِه مِنَ الوَجهِ الذي تَتَعَلَّقُ به صِحَّتُه.
فجَعَلوا تَركَ القياسِ والأخذَ بما هو أرفَقُ للنَّاسِ استِحسانًا، وهو اسمٌ لدَليلٍ، نَصًّا كان أو إجماعًا أو قياسًا خَفيًّا، إذا وقَعَ في مُقابَلةِ قياسٍ جَليٍّ سَبَقَ إليه الفَهمُ، ولو لم تُقصَدْ فيه المُقابَلةُ بَينَهما، وإذا كان الدَّليلُ ظاهرًا جَليًّا وأثَرُه ضَعيفًا يُسَمَّى قياسًا، وإذا كان باطِنًا خَفيًّا وأثَرُه قويًّا يُسَمَّى استِحسانًا؛ والتَّرجيحُ بالأثَرِ لا بالخَفاءِ والظُّهورِ.
فقد يَقوى أثَرُ القياسِ في بَعضِ الفُصولِ فيُؤخَذُ به، وقد يَقوى أثَرُ الاستِحسانِ فيُرَجَّحُ به، وهذا اللَّفظُ في اصطِلاحِ الأُصولِ في مُقابَلةِ القياسِ الجَليِّ شائِعٌ يُعمَلُ به إذا كان أقوى مِنه، وسَمَّوه بذلك لأنَّه في الأغلَبِ يَكونُ أقوى مِنَ القياسِ الجَليِّ، فيَكونُ قياسًا مُستَحسَنًا.
ولم يَكُنْ غَرَضُهم مِن هذه التَّسميةِ -واللَّهُ أعلمُ- إلَّا ليُمَيِّزوا بَينَ الحُكمِ الأصليِّ الذي يَدُلُّ عليه القياسُ الظَّاهِرُ، وبَينَ الحُكمِ المُمالِ عن تلك السُّنَنِ الظَّاهِرةِ بدَليلٍ أوجَبَ الإمالةَ؛ فسَمَّوا الذي يَبقى على الأصلِ قياسًا، والذي يُمالُ استِحسانًا [2544]  يُنظر: ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 404)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/268)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 107). .

انظر أيضا: