موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ الثَّاني: أقسامُ المَصلَحةِ مِن جِهةِ اعتِبارِ الشَّرعِ لها


تَنقَسِمُ المَصلَحةُ مِن جِهةِ اعتِبارِ الشَّرعِ لها إلى ثَلاثةِ أقسامٍ:
1- المَصالِحُ المُعتَبَرةُ:
وهيَ ما عُلمَ اعتِبارُ الشَّرعِ لها، وهيَ كُلُّ مَصلحةٍ ثَبَتَ الحُكمُ المُؤَدِّي إليها بدَليلٍ مِن نَصٍّ أو إجماعٍ، وقد عَبَّرَ الأُصوليُّونَ عنها بالمَصلَحةِ المُعتَبَرةِ، أوِ المُناسِبِ المُعتَبَرِ، وهذا النَّوعُ يَجوزُ بناءُ الأحكامِ عليه والتَّعليلُ به بإجماعِ القائِلينَ بحُجِّيَّةِ القياسِ [2605] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/ 12). .
قال الغَزاليُّ: (أمَّا ما شَهدَ الشَّرعُ لاعتِبارِها فهيَ حُجَّةٌ، ويَرجِعُ حاصِلُها إلى القياسِ، وهو اقتِباسُ الحُكمِ مِن مَعقولِ النَّصِّ والإجماعِ... ومِثالُه: حُكْمُنا أنَّ كُلَّ ما أسكَرَ مِن مَشروبٍ أو مَأكولٍ فيَحرُمُ قياسًا على الخَمرِ؛ لأنَّها حُرِّمَت لحِفظِ العَقلِ الذي هو مَناطُ التَّكليفِ، فتَحريمُ الشَّرعِ الخَمرَ دَليلٌ على مُلاحَظةِ هذه المَصلَحةِ) [2606]  يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص:174). .
وقد أشارَ الشَّاطِبيُّ إلى ذلك بقَولِه: (المَعنى المُناسِبُ الذي يُربَطُ به الحُكمُ لا يَخلو مِن ثَلاثةِ أقسامٍ: أحَدُها: أن يَشهَدَ الشَّرعُ بقَبولِه؛ فلا إشكالَ في صِحَّتِه، ولا خِلافَ في إعمالِه، وإلَّا كان مُناقَضةً للشَّريعةِ، كشَرعيَّةِ القِصاصِ حِفظًا للنَّفسِ والأطرافِ) [2607]  يُنظر: ((الاعتصام)) للشاطبي (2/609). .
2- المَصالِحُ المُلغاةُ:
وهيَ كُلُّ مَنفَعةٍ دَلَّ الشَّرعُ على عَدَمِ الاعتِدادِ بها وعَدَمِ مُراعاتِها في الأحكامِ الشَّرعيَّةِ؛ وذلك لانطِوائِها على مَفسَدةٍ أعظَمَ مِنها، أو لأنَّها تُفوِّتُ مَصلحةً أكبَرَ.
ومِثالُ المَصلَحةِ المُلغاةِ: ما في الزِّنا مِن لذَّةِ قَضاءِ الشَّهوةِ، وما في تَركِ قَطعِ السَّارِقِ مِن مَصلَحةِ تَمَتُّعِه بأعضائِه، وما في التَّسويةِ بَينَ الرِّجالِ والنِّساءِ في الميراثِ مِن مَصلَحةِ تَرغيبِ النِّساءِ في الإسلامِ، والمَنعُ مِن زِراعةِ العِنَبِ لئَلَّا يُعصَرَ خَمرًا، وغَيرُ ذلك.
والضَّابِطُ الذي به نَعرِفُ أنَّ المَصلَحةَ مُلغاةٌ هو مُخالفتُها لنَصٍّ أو إجماعٍ أو قياسٍ جَليٍّ.
فالمَنافِعُ المُشارُ إليها سابقًا مُصادِمةٌ لنُصوصِ الشَّرعِ الصَّحيحةِ الصَّريحةِ، وهيَ مَصالِحُ جُزئيَّةٌ لو رُوعيَت لفوَّتَت مَصالِحَ كُلِّيَّةً [2608]  يُنظر: ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 205). .
قال الآمِديُّ: (المُناسِبُ الذي لم يَشهَدْ له أصلٌ بالاعتِبارِ بوَجهٍ مِنَ الوُجوهِ، وظَهَرَ مَعَ ذلك إلغاؤُه وإعراضُ الشَّارِعِ عنه في صُوَرِه، فهذا مِمَّا اتُّفِقَ على إبطالِه وامتِناعِ التَّمَسُّكِ به، وذلك كقَولِ بَعضِ العُلماءِ لبَعضِ المُلوكِ لمَّا جامَعَ في نَهارِ رَمَضانَ وهو صائِمٌ: (يَجِبُ عليك صَومُ شَهرَينِ مُتَتابعَينِ)، فلمَّا أُنكِرَ عليه حَيثُ لم يَأمُرْه بإعتاقِ رَقَبةٍ مَعَ اتِّساعِ مالِه، قال: لو أمَرتُه بذلك لسَهُلَ عليه ذلك، واستَحقَرَ إعتاقَ رَقَبةٍ في قَضاءِ شَهوةِ فَرجِه؛ فكانتِ المَصلَحةُ في إيجابِ الصَّومِ مُبالَغةً في زَجرِه، فهذا وإن كان مُناسِبًا غَيرَ أنَّه لم يَشهَدْ له شاهِدٌ في الشَّرعِ بالاعتِبارِ مَعَ ثُبوتِ إلغائِه بنَصِّ الكِتابِ) [2609]  ((الإحكام)) (3/357). .
وقال الغَزاليُّ عن هذه الفتوى أيضًا: (هذا قَولٌ باطِلٌ ومُخالِفٌ لنَصِّ الكِتابِ بالمَصلَحةِ، وفَتحُ هذا البابِ يُؤَدِّي إلى تَغييرِ جَميعِ حُدودِ الشَّرائِعِ ونُصوصِها؛ بسَبَبِ تَغَيُّرِ الأحوالِ. ثُمَّ إذا عُرِف ذلك مِن صَنيعِ العُلماءِ لم تَحصُلِ الثِّقةُ للمُلوكِ بفتواهم، وظَنُّوا أنَّ كُلَّ ما يُفتونَ به فهو تَحريفٌ مِن جِهَتِهم بالرَّأيِ) [2610]  ((المستصفى)) (ص: 174). .
ولو أرادَ الشَّرعُ ذلك لبَيَّنه أو نَبَّهَ عليه؛ إذ تَأخيرُ البَيانِ عن وقتِ الحاجةِ، وإيهامُ التَّسويةِ بَينَ الأشخاصِ في الأحكامِ مَعَ افتِراقِهم فيها: لا يَجوزُ [2611]  يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/206). .
3- المَصالِحُ المُرسَلةُ:
وتُسَمَّى أيضًا "المُناسِبَ المُرسَلَ"، ويُسَمِّيها البَعضُ "الاستِصلاحَ"، وأُطلِقَ عليها أيضًا "الاستِدلالُ المُرسَلُ".
وهيَ: مَعنًى مُشعِرٌ بالحُكمِ مُناسِبٌ له فيما يَقتَضيه الفِكرُ العَقليُّ مِن غَيرِ وِجدانِ أصلٍ مُتَّفَقٍ عليه [2612]  يُنظر: ((البرهان)) لإمام الحرمين (2/161). .
وقيل: الاعتِمادُ على المَعنى المُناسِبِ المَصلحيِّ الذي يَظهَرُ في الفَرعِ مِن غَيرِ استِشهادٍ بأصلٍ مُعَيَّنٍ [2613]  يُنظر: ((شفاء الغليل)) للغزالي (ص: 188). ويُنظر أيضًا: ((المنخول)) للغزالي (ص: 465). .
وتَعَدَّدَت عِباراتُ الأُصوليِّينَ في تَعريفِها، وكُلُّها مُتَقارِبةٌ، فهيَ تَعني عُمومًا الوَصفَ المُلائِمَ لمَقاصِدِ الشَّرعِ والخاليَ عن دَليلٍ خاصٍّ يَدُلُّ على اعتِبارِ صِحَّةِ بناءِ الأحكامِ عليه، أو يَدُلُّ على فسادِ بناءِ الأحكامِ عليه [2614]  يُنظر: ((الوصف المناسب لشرع الحكم)) لأحمد الشنقيطي (ص: 251). .
شَرحُ التَّعريفِ المُختارِ وبَيانُ مُحتَرَزاتِه:
- كَلمةُ "مَعنًى": أي: الوَصفُ يُبنى عليه الحُكمُ؛ فهو جِنسٌ في التَّعريفِ يَشمَلُ جَميعَ الأوصافِ مُعتَبَرةً أو مُلغاةً، أو مُرسَلةً.
- عِبارةُ "مُشعِرٌ بالحُكمِ": أي: أنَّ الوَصفَ المُرسَلَ هو ما يَتَرَتَّبُ على بناءِ الحُكمِ عليه مَصلَحةٌ؛ لأنَّ ذلك هو مَعنى المُناسَبةِ، واحتُرِز به عنِ الأوصافِ غَيرِ المُناسِبةِ، كالوَصفِ الشَّبَهيِّ والطَّرديِّ.
- عِبارةُ "فيما يَقتَضيه الفِكرُ العَقليُّ": مَعناها: أنَّ مُناسَبَتَه مُستَفادةٌ مِنَ العَقلِ؛ حَيثُ لم تَثبُتْ بدَليلٍ مِن أدِلَّةِ الشَّرعِ، وهو قَيدٌ مُخرِجٌ للأوصافِ المُعتَبَرةِ والمُلغيةِ لوُجودِ الدَّليلِ على اعتِبارِها أو إلغائِها.
- عِبارةُ "مِن غَيرِ وِجدانِ أصلٍ مُتَّفَقٍ عليه": مَعناها: أنَّ المُناسَبةَ بَينَ الوصفِ والحُكمِ لم تَثبُتْ بالأدِلَّةِ التي اتَّفقَ عليها الأُصوليُّونَ، وهذا التَّعريفُ هو مَعنى قَولِ الأُصوليِّينَ: المُناسِبُ المُرسَلُ هو الذي لا يُعلمُ اعتِبارُه ولا إلغاؤُه [2615] يُنظر: ((الوصف المناسب لشرع الحكم)) لأحمد الشنقيطي (ص:250). .

انظر أيضا: