موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الثَّاني: أقسامُ الذَّرائِعِ


أوَّلًا: أقسامُ الذَّرائِعِ بحَسَبِ مَوقِفِ العُلماءِ مِنها سَدًّا وفتحًا
تَنقَسِمُ الذَّرائِعُ بحَسَبِ مَوقِفِ العُلماءِ مِنها سَدًّا وفتحًا إلى ثَلاثةِ أقسامٍ [2660] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (2/32). :
القِسمُ الأوَّلُ: ما اتَّفقَتِ الأُمَّةُ على سَدِّه ومَنعِه وحَسمِه
ومِثالُه: حَفرُ الآبارِ في طُرُقِ المُسلِمينَ؛ فإنَّه وسيلةٌ إلى إهلاكِهم. وسَبُّ الأصنامِ عِندَ مَن يُعلمُ مِن حالِه أنَّه يَسُبُّ اللَّهَ تعالى عِندَ سَبِّها.
وضابطُ ما اتُّفِقَ على سَدِّه ومَنعِه:
1- ما يَرجِعُ المَنعُ فيه إلى نَصٍّ مِنَ الشَّارِعِ، كالمَنعِ مِن سَبِّ الأصنامِ؛ فإنَّه ثابتٌ بنَصٍّ مِنَ الشَّارِعِ، وهو قَولُه تعالى: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 108] ، وتَسميةُ ما ثَبَتَ النَّهيُ عنه ذَريعةً تَجَوُّزٌ؛ لأنَّ مِن شَرطِ الوسيلةِ أن تَكونَ جائِزةً، وما دامَ النَّهيُ عنها ثابتًا فلا يَصِحُّ إطلاقُ الذَّريعةِ عليها إلَّا تَجوُّزًا [2661] يُنظر: ((سد الذرائع)) للبرهاني (ص:108). .
2- ما يُؤَدِّي إلى المَفسَدةِ قَطعًا أو يَغلبُ على الظَّنِّ إفضاؤُه إلى المَفسَدةِ، فيُعتَبرُ كالمُؤَدِّي قَطعًا؛ إقامةً للغالِبِ مَقامَ الكُلِّ، كحَفرِ البئرِ خَلفَ البابِ [2662] يُنظر: ((حاشية التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب التنقيح)) لابن عاشور (2/224،225)، ((سد الذرائع)) للبرهاني (ص:108). .
القِسمُ الثَّاني: ما أجمَعَتِ الأُمَّةُ على عَدَمِ سَدِّه وعَدَمِ مَنعِه
فهو ذَريعةٌ لا تُسَدُّ، ووسيلةٌ لا تُحسَمُ، وضابِطُه: ما كان إفضاؤُه نادِرًا وغَيرَ مُطَّرِدٍ، كالمَنعِ مِن زِراعةِ العِنَبِ خَشيةَ الخَمرِ؛ فإنَّه لم يَقُلْ به أحَدٌ، وكالمَنعِ مِنَ المُجاوَرةِ في البُيوتِ خَشيةَ الزِّنا، فهما وإن أدَّيا إلى المَحظورِ، وهو شُربُ الخَمرِ في المِثالِ الأوَّلِ، والزِّنا في المثالِ الثَّاني، لكِن لا يَأخُذانِ حُكمَ الذَّرائِعِ؛ وذلك لنُدرةِ الإفضاءِ، وكَونِ الإفضاءِ ليس مُباشِرًا، بَل يُحتاجُ إلى العَصرِ والغَليِ في مِثالِ العِنَبِ، ثُمَّ إنَّه تَعارُضٌ لمَفسَدةٍ بَعيدةٍ مَعَ حاجةٍ للنَّاسِ قد تَكونُ ضَروريَّةً، وليسَ مِنَ المَعقولِ إهمالُ حاجةٍ مِن حاجاتِ النَّاسِ تَقومُ عليها مَصالِحُ مُتَعَدِّدةٌ مِن أجلِ احتِمالٍ ضَعيفٍ لوُقوعِ المَفسَدةِ، كما في زِراعةِ العِنَبِ، والتَّجاوُرِ في البُيوتِ، الذي بَلغَت فيه الحاجةُ حَدَّ الضَّرورةِ التي لا غِنى للنَّاسِ عنها، ويَسقُطُ في مُقابِلِها احتِمالُ المَحظورِ [2663] يُنظر: ((حاشية التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب التنقيح)) لابن عاشور (2/225)، ((سد الذرائع)) للبرهاني (ص:107،106). .
القِسمُ الثَّالثُ: ما اختَلف فيه العُلماءُ هَل يُسَدُّ أو لا؟
وضابِطُه: ما تَرَدَّدَ بَينَ الأمرَينِ السَّابقَينِ، مِثلُ بُيوعِ الآجالِ، كمَن باعَ سِلعةً بعَشَرةِ دَراهمَ إلى شَهرٍ، ثُمَّ اشتَراها بخَمسةٍ قَبلَ الشَّهرِ؛ فمالِكٌ [2664] يُنظر: ((التهذيب)) لابن البراذعي (3/135)، ((الإشراف)) للقاضي عبد الوهاب (2/560)، ((المقدمات الممهدات)) لابن رشد (2/39). يَقولُ: إنَّ ذلك وسيلةٌ لسَلفِ خَمسةٍ بعَشَرةٍ إلى أجَلٍ تَوسُّلًا بإظهارِ صورةِ البَيعِ، فيَمنَعُه مالِكٌ لأجلِ ذلك، والشَّافِعيُّ [2665] يُنظر: ((الأم)) (3/79). يَقولُ: يُنظَرُ إلى صورةِ البَيعِ، ويُحمَلُ الأمرُ على ظاهرِه، فيُجَوِّزُ ذلك.
وكذلك اختُلِف في مَسائِلَ أُخرى، مِثلُ: النَّظَرِ إلى غَيرِ عَورةِ النِّساءِ بغَيرِ شَهوةٍ هَل يَحرُمُ؛ لأنَّه قد يُؤَدِّي إلى الزِّنا، أو لا يَحرُمُ؟ وكَذا حُكمُ القاضي بعِلمِه هَل يَحرُمُ؛ لأنَّه وسيلةٌ للقَضاءِ بالباطِلِ مِن قُضاةِ السُّوءِ، أو لا يَحرُمُ؟ [2666] يُنظر: ((حاشية التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب التنقيح)) لابن عاشور (2/225)، ((سد الذرائع)) للبرهاني (ص:109). .
ثانيًا: أقسامُ الذَّرائِعِ بحَسَبِ أصلِ وَضعِها
تَنقَسِمُ الذَّرائِعُ بحَسَبِ أصلِ وَضعِها إلى قِسمَينِ [2667] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/4-5). ويُنظر أيضًا: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (6/173)، ((سد الذرائع)) للبرهاني (ص:183،182، 186). :
القِسمُ الأوَّلُ: أن يَكونَ الفِعلُ أوِ القَولُ قد وُضِعَ للإفضاءِ إلى المَفسَدةِ، كشُربِ المُسكِرِ المُفضي إلى مَفسَدةِ السُّكْرِ، والزِّنا المُفضي إلى مَفسَدةِ اختِلاطِ الأنسابِ وفَسادِ الفِراشِ، فهذه في أصلِ وَضعِها مُفضيةٌ لهذه المَفاسِدِ.
القِسمُ الثَّاني: أن توضَعَ للإفضاءِ إلى أمرٍ جائِزٍ، فيُتَّخَذَ وسيلةً إلى المُحَرَّمِ، سَواءٌ بقَصدٍ، كَمَن يَقصِدُ بالنِّكاحِ التَّحليلَ، أو يَقصِدُ بعَقدِ البَيعِ الرِّبا.
أو بغَيرِ قَصدٍ، وتَكونُ مَفسَدةُ الفِعلِ أرجَحَ مِن مَصلحَتِه، كمَسَبَّةِ المُشرِكينَ بَينَ ظَهرانَيهم.
أو بغَيرِ قَصدٍ، وتَكونُ مَصلحةُ الفِعلِ أرجَحَ مِن مَفسَدتِه، كالنَّظَرِ إلى المَخطوبةِ.
ثالثًا: أقسامُ الذَّرائِعِ بحَسَبِ قَصدِ الإضرارِ وعَدَمِه
تَنقَسِمُ الذَّرائِعُ بحَسَبِ قَصدِ الإضرارِ بالآخَرينَ وعَدَمِه إلى قِسمَينِ [2668] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (3/53). :
القِسمُ الأوَّلُ: أن يَقصِدَ ذلك الإضرارَ، كالمُرْخِصِ في السِّلعةِ لطَلَبِ مَعاشِه مَعَ قَصدِ الإضرارِ بالغَيرِ.
القِسمُ الثَّاني: ألَّا يَقصِدَ الإضرارَ بأحَدٍ، وهو نَوعانِ:
1- أن يَلحَقَه ضَرَرٌ لو مُنِعَ مِن ذلك:
فهو مُحتاجٌ إلى فِعلِه، كَمَن يَدفعُ عن نَفسِه مَظلَمةً، ويَعلمُ أنَّها تَقَعُ على غَيرِه، ومَن يَسبِقُ إلى شِراءِ طَعامٍ أو دَواءٍ ونَحوِه عالِمًا بأنَّه إذا حازَه استَضَرَّ غَيرُه، ولو أُخِذَ مِن يَدِه استَضَرَّ هو.
2- أن لا يَلحَقَه ضَرَرٌ لو مُنِعَ مِن ذلك، وهو على ثَلاثةِ أنواعٍ:
أ- ما يَكونُ أداؤُه إلى المَفسَدةِ قَطعيًّا، كحَفرِ بئرٍ خَلفَ بابِ الدَّارِ في الظَّلامِ، بحَيثُ يَقَعُ الدَّاخِلُ فيه قَطعًا.
ب- ما يَكونُ أداؤُه إلى المَفسَدةِ نادِرًا، كحَفرِ البئرِ في مَوضِعٍ لا يُؤَدِّي غالبًا إلى وُقوعِ أحَدٍ فيه.
ج- ما يَكونُ أداؤُه إلى المَفسَدةِ كَثيرًا لا نادِرًا، وهو على وجهَينِ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أن يَكونَ كَثيرًا غالبًا، أي: كبَيعِ السِّلاحِ لأهلِ الحَربِ، ويُقصَدُ بالكَثيرِ الغالِبُ الظَّنِّيُّ الذي هو أقَلُّ مِنَ القَطعِ واليَقينِ.
الوَجهُ الثَّاني: أن يَكونَ كَثيرًا لا غالبًا، كمَسائِلِ بُيوعِ الآجالِ، أي: يَكونُ أداؤُه إلى المَفسَدةِ كَثيرًا، لكِنَّ هذه الكَثرةَ ليسَت غالبةً بحَيثُ تَصِلُ إلى دَرَجةِ الظَّنِّ، ولا نادِرةً، بَل بَينَ الأمرَينِ.

انظر أيضا: