موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الثَّاني: حُكمُ الأخذِ بأقَلِّ ما قيلَ


سَبَقَ في مَبحَثِ الإجماعِ بَيانُ أنَّ التَّمَسُّكَ بأقَلِّ ما قيل ليس تَمَسُّكًا بالإجماعِ، لكِن هَل يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بأقَلِّ ما قيل في المَسألةِ عُمومًا؛ لكَونِ هذا القَدْرِ هو مَحَلَّ اتِّفاقٍ بَينَ الجَميعِ، والزِّيادةُ لا دَليلَ عليها، أو لا يَصِحُّ ذلك؛ فيَجِبُ التَّمَسُّكُ بالأكثَرِ مِن أجلِ الاحتياطِ؟
في هذا خِلافٌ بَينِ الأُصوليِّينَ، والمُختارُ: جَوازُ الاحتِجاجِ بأقَلِّ ما قيل في المَسألةِ بشُروطٍ، وهو مَنقولٌ عنِ الشَّافِعيِّ [2835]  يُنظر: ((المحصول)) للرازي (6/154)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (2/259). ويُنظر أيضًا: ((لباب المحصول)) لابن رشيق (1/424)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (1/613)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2628). ، وهو قَولُ جُمهورِ الأُصوليِّينَ [2836]  يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2625)، ((تيسير الوصول)) لابن إمام الكاملية (6/119). ، وأخَذَ به الحَنَفيَّةُ وغَيرُهم في بَعضِ المَسائِلِ الفِقهيَّةِ [2837] المُلاحَظُ مِن خِلالِ الفُروعِ الفِقهيَّةِ: أنَّ غَيرَ الشَّافِعيَّةِ يَستَأنِسونَ بهذا الدَّليلِ ويُرَجِّحونَ به؛ فقد رَجَّحَ الحَنَفيَّةُ قَولَ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ الله عنه في التَّكبيراتِ الزَّوائِدِ في صَلاةِ العيدَينِ بأنَّه يُكَبِّرُ تِسعَ تَكبيراتٍ: سِتَّةٌ مِنَ الزَّوائِدِ وثَلاثةٌ أصليَّاتٌ: تَكبيرةُ الافتِتاحِ، وتَكبيرَتا الرُّكوعِ، وقدَّموه على قَولِ عليٍّ وقَولِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهم؛ حَيثُ اشتَهرَ عن ابنِ عبَّاسٍ رِوايَتانِ؛ إحداهما: أنَّه يُكَبِّرُ في العيدَينِ ثَلاثَ عَشرةَ تَكبيرةً: ثَلاثٌ أصليَّاتٌ، وعَشَرةٌ زَوائِدُ، في كُلِّ رَكعةٍ خَمسُ تَكبيراتٍ، والثَّانيةُ: أنَّه يُكَبِّرُ اثنتَي عَشرةَ تَكبيرةً، فقدَّموا قَولَ ابنِ مَسعودٍ، ودَعَموا ذلك بأنَّ التَّكبيرَ ورَفعَ الصَّوتِ والأيدي خِلافُ المَعهودِ، فكان الأخذُ بالأقَلِّ أَولى وأحوطَ. يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/277)، ((الهداية)) للمرغيناني (1/85). قال الدَّبُوسيُّ: (الأصلُ في المَقاديرِ التي لا يَسوغُ الاجتِهادُ في إثباتِ أصلِها أنَّ الدَّلالةَ مَتى اتَّفقَت في الأقَلِّ واضطَرَبَت في الزِّيادةِ، فإنَّه يُؤخَذُ بالأقَلِّ فيما وقَعَ الشَّكُّ في إثباتِه، وبالأكثَرِ فيما وقَعَ الشَّكُّ والاشتِباهُ في إسقاطِه، وعلى هذا مَسائِلُ؛ مِنها: أنَّ حَريمَ بئرِ النَّازِحِ أربَعونَ ذِراعًا عِند أبي حَنيفةَ؛ لأنَّ الأخبارَ قدِ اتَّفقَت على الأربَعينَ واضطَرَبَت في الزِّيادةِ، فأخَذنا بالأقَلِّ مِنَ المَقاديرِ؛ لأنَّ الاشتِباهَ وقَعَ في إثباتِه، وعِندَهما: في حَريم بئرِ النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِراعًا. أنَّ عِندَ أبي حَنيفةَ: للفارِسِ سَهمانِ، وللرَّاجِلِ سَهمٌ مِنَ الغَنيمةِ؛ لأنَّ الأخبارَ قدِ اتَّفقَت على السَّهمَينِ واضطَرَبَت في الزِّيادةِ، فأخَذنا بالأقَلِّ مِنَ المَقاديرِ). ((تأسيس النظر)) (ص:151). ويُنظر أيضًا: ((أحكام القرآن)) للجصاص (3/206)؛ فقد قال الجَصَّاصُ في احتِجاجِ الحَنَفيَّةِ بأقَلِّ ما قيل على أسنانِ الإبِلِ في ديةِ الخَطَأِ: (ومَذهَبُ أصحابِنا: أقَلُّ ما قيل فيه فهو ثابِتٌ، وما زادَ فلم تَقُمْ عليه دَلالةٌ، فلا يَثبُتُ). واحتَجَّ به المرغينانيُّ في حَدِ بُلوغِ الصَّبيِّ رُشدَه بأنَّه ثَماني عَشرةَ سَنةً، فقال: (وهذا أقَلُّ ما قيل فيه، فيُبنى الحُكمُ عليه للتَّيَقُّنِ به). ((الهداية)) (3/281). وكَذا الأمرُ عِندَ الحَنابلةِ؛ فقدِ استَدَلَّ ابنُ قُدامةَ لِما ذَهَبَ إليه أحمَدُ في أسنانِ دِيةِ الخَطَأِ، ومِمَّا قاله: (... لأنَّ ما قُلناه الأقَلُّ؛ فالزِّيادةُ عليه لا تَثبُتُ إلَّا بتَوقيفٍ يَجِبُ على مَنِ ادَّعاه الدَّليلُ). ((المغني)) لابن قدامة (8/378). ويُنظر أيضًا: ((المسودة)) لآل تيمية (ص:490)، ((أثر الأدلة المختلف فيها)) للبغا (ص:635). ، وبه قال أبو يَعلى [2838]  يُنظر: ((العدة)) (4/1268). ، والباجيُّ [2839]  يُنظر: ((إحكام الفصول)) (2/705). ، وشَمسُ الدِّينِ الأصفَهانيُّ [2840]  يُنظر: ((شرح المنهاج)) (2/760). .
وليس هذا معناه أنَّ الأخذَ بأقَلِّ ما قيل هو تَمسُّكٌ بالإجماعِ؛ لأنَّ نَفيَ الزَّائِدِ عن ذلك الأقَلِّ ليس مُجمَعًا عليه، وإنَّما حَصَل الإجماعُ على الأقَلِّ فقط، ونَفيُ الزَّائِدِ إنَّما كان مِن قَبيلِ البَراءةِ الأصليَّةِ.
وقد يُتَوهَّمُ أنَّ الأخذَ بأقَلِّ ما قيل إنَّما هو تَقليدٌ لصاحِبِ القَولِ الأقَلِّ، وليس كذلك، وإنَّما أخذٌ بالأقَلِّ لأنَّه مُجمَعٌ عليه ضِمنًا، لا على أنَّه أحَدُ الأقوالِ؛ ولذلك لوحِظَ فيه استِصحابُ البَراءةِ الأصليَّةِ في نَفيِ الزَّائِدِ عنه؛ ولهذا أيضًا يُشتَرَطُ فيه: أن تَكونَ الأقوالُ مَحصورةً، وأن يَكونَ الأقَلُّ جُزءًا مِنَ الأكثَرِ، كما سيَأتي في شُروطِ الأخذِ به [2841]  يُنظر: ((أثر الأدلة المختلف فيها)) لمصطفى ديب البغا (ص: 634). ويُنظر أيضًا: ((العدة)) لأبي يعلى (4/1269)، ((اللمع)) للشيرازي (ص:123)، ((الواضح)) لابن عقيل (2/317)، ((المحصول)) للرازي (6/154- 156). .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّ الأخذَ بأقَلِّ ما قيل يَرجِعُ مَعناه إلى استِصحابِ حُكمِ العَقلِ في بَراءةِ الذِّمَّةِ؛ فإنَّ الأصلَ بَراءةُ الذِّمَّةِ إلَّا فيما دَلَّ الدَّليلُ على اشتِغالِ ذِمَّتِه؛ فيَجِبُ استِصحابُ حالِ الأصلِ فيما زادَ على المُجمَعِ عليه حتَّى يَدُلَّ الدَّليلُ على الزِّيادةِ عليه.
وبَيانُه: أنَّ الأصلَ أنَّ الذِّمَّةَ بَريئةٌ، فلا يوجَبُ اشتِغالُها إلَّا بدَليلٍ سَمعيٍّ، وقد تَصَفَّحنا السَّمعَ فعَلِمنا أنَّه لا دَليلَ على اشتِغالِ ذِمَّتِه بشَيءٍ يَزيدُ على أقَلِّ ما قيل؛ لأنَّه لو كان عليه دَليلٌ لوجَبَ أن نَعلَمَه عِندَ طَلَبِه والبَحثِ عنه، فلا يُخْلِينا اللهُ مِمَّا يَدُلُّنا على ذلك مِن ظاهرٍ أو قياسٍ أو إجماعٍ، أو حُجَّةِ عَقلٍ، فإذا لم يَكُنْ في أدِلَّةِ السَّمعِ والعَقلِ ما يوجِبُ اشتِغالَ ذِمَّتِه بأكثَرَ مِنَ القَدرِ المُجمَعِ على استِحقاقِه وجَبَ بَراءةُ ذِمَّتِه. وليسَ المُرادُ بقَولِنا: إنَّ أقَلَّ ما قيل مُجمَعٌ على استِحقاقِه أنَّه مُجمَعٌ على أنَّه كُلُّ المُستَحَقِّ، وإنَّما المُرادُ به: أنَّه مُستَحَقٌّ به، وما زادَ عليه فيُختَلفُ فيه؛ فعلى الزَّائِدِ الدَّليلٌ، وإلَّا فالأصلُ بَراءةُ الذِّمَّةِ [2842]  يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (4/1268)، ((إحكام الفصول)) للباجي (2/705)، ((شرح اللمع)) للشيرازي (2/993)، ((الواضح)) لابن عقيل (2/336). .
2- أنَّ هذا القَولَ مُتَيَقَّنٌ، وما زادَ عليه مَشكوكٌ فيه؛ فلا يَجوزُ إيجابُه بالشَّكِّ [2843]  يُنظر: ((اللمع)) للشيرازي (ص: 123). .
وقيل: لا يَصِحُّ الاحتِجاجُ بأقَلِّ ما قيلَ، وهو اختيارُ ابنِ حَزمٍ [2844] قال عنِ الأخذِ بأقَلِّ ما قيل: (كان يَكونُ هذا حَقًّا صحيحًا لو أمكَنَ ضَبطُ أقوالِ جَميعِ أهلِ الإسلامِ في كُلِّ عَصرٍ، وإذ لا سَبيلَ إلى هذا فتَكَلُّفُه عناءٌ لا مَعنى له، ولا بُدَّ مِن وُرودِ النَّصِّ في كُلِّ حُكمٍ مِن أحكامِ الشَّريعةِ). ((الإحكام)) (5/50). ويُنظر أيضًا: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/451، 452). ، والقاضي عبدِ الوهَّابِ المالِكيِّ [2845] يُنظر: ((نفائس الأصول)) للقرافي (9/4071). .

انظر أيضا: