المَطلَبُ الرَّابِعُ: حُكمُ استِعمالِ أحَدِ المُتَرادِفَينِ مَكانَ الآخَرِ
المُتَرادِفاتُ حالَ إفرادِها -كما في تَعديدِ الأشياءِ- يَصِحُّ إقامةُ بَعضِها مَكانَ بَعضٍ بلا خِلافٍ بَينَ الأُصوليِّينَ، كما حَكاه ابنُ السُّبكيِّ
[190] قال: (... وأمَّا في حالِ الإفرادِ كما في تَعديدِ الأشياءِ، فلا خِلافَ في جَوازِ ذلك). ((الإبهاج)) (3/624). ، فيَصِحُّ إقامةُ لَفظِ (البُرِّ) مَكانَ لَفظِ (القَمحِ)، و(القُعودِ) مَكانَ (الجُلوسِ)، وهكذا.
أمَّا في حالِ تَركيبِ المُتَرادِفاتِ، فهَل يَجِبُ صِحَّةُ إقامةِ كُلِّ واحِدٍ مِنَ المُتَرادِفَينِ مَكانَ الآخَرِ؟ فقدِ اختَلَف الأُصوليُّونَ فيه على مَذاهبَ
[191] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (3/624)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (1/ 424). :
فقيلَ: يَصِحُّ وَضعُ أحَدِ المُتَرادِفَينِ مَكانَ الآخَرِ على الإطلاقِ؛ لأنَّ المَقصودَ مِنَ التَّركيبِ إنَّما هو المَعنى دونَ اللَّفظِ، فإذا صَحَّ النُّطقُ مَعَ أحَدِ اللَّفظَينِ وجَبَ بالضَّرورةِ أن يَصِحَّ مَعَ اللَّفظِ الآخَرِ، سَواءٌ كان ذلك بالنِّسبةِ إلى اللُّغةِ الواحِدةِ أو بالنِّسبةِ إلى لُغَتَينِ، فيَجوزُ أن تَقولَ: هذا قَمحٌ جَيِّدٌ، وهذه حِنطةٌ جَيِّدةٌ. وهو قَولُ بَعضِ الأُصوليِّينَ
[192] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (1/203)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 106)، ((تحفة المسئول)) للرهوني (1/319)، ((البحر المحيط)) للزركشي (2/361). ، واختارَه ابنُ الحاجِبِ
[193] يُنظر: ((مختصر منتهى السول)) (1/230). ، وابنُ السُّبكيِّ
[194] يُنظر: ((جمع الجوامع)) (ص: 28). .
وقيلَ: يَصِحُّ إقامةُ كُلِّ واحِدٍ مِنَ المُتَرادِفَينِ مَقامَ الآخَرِ إن كانا مِن لُغةٍ واحِدةٍ، ولا يَجوزُ في لُغَتَينِ مُختَلِفتَينِ، وهو قَولُ بَعضِ الأُصوليِّينَ
[195] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (2/362)، ((تحفة المسئول)) للرهوني (1/319). ، ومِنهمُ البَيضاويُّ
[196] يُنظر: ((المنهاج)) (ص: 85). ، والهِنديُّ
[197] يُنظر: ((نهاية الوصول)) (1/203). .
وقيلَ: لا يَلزَمُ اشتِراطُ إقامةِ كُلِّ واحِدٍ مِنَ المُتَرادِفَينِ مَكانَ الآخَرِ مُطلَقًا؛ لأنَّ صِحَّةَ الضَّمِّ قد تَكونُ مِن عَوارِضِ الألفاظِ، والمَقصودُ هو المَعنى، وهو قَولُ بَعضِ الأُصوليِّينَ
[198] يُنظر: ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (1/370)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 106)، ((تحفة المسئول)) للرهوني (1/319)، ((الردود والنقود)) للبابرتي (1/229). ، ومِنهمُ الرَّازيُّ
[199] يُنظر: ((المحصول)) (1/257). .
قال ابنُ السُّبكيِّ: (هذا كَلامُ الأُصوليِّينَ في المَسألةِ. وأمَّا الفُقَهاءُ فلا خِلافَ عِندَهم في إقامةِ كُلِّ واحِدٍ مِنَ المُتَرادِفَينِ المُختَلِفَيِ اللُّغةِ مَقامَ الآخَرِ فيما تُشتَرَطُ فيه الألفاظُ، كعُقودِ البَياعاتِ وغَيرِها، وأمَّا ما وقَعَ النَّظَرُ في أنَّ التَّعَبُّدَ هَل وقَعَ بلَفظِه فليس مِن هذا البابِ؛ لأنَّ المانِعَ إذ ذاكَ مِن إقامةِ أحَدِ المُتَرادِفَينِ مَقامَ الآخَرِ ليس أنَّه لا يَصِحُّ إقامةُ مُتَرادِفٍ مَقامَ صاحِبِه، بَل لِما وقَعَ مِنَ التَّعَبُّدِ بجوهَرِ لَفظِه، كالخِلافِ في أنَّ لَفظَ (النِّكاحِ) هَل يَنعَقِدُ بالعَجَميَّةِ واللُّغاتِ للقادِرِ على العَرَبيَّةِ؟ ونَظائِرِ ذلك)
[200] ((الإبهاج)) (3/624). ويُنظر أيضًا: ((البحر المحيط)) للزركشي (2/365). .
ويَتَرَتَّبُ على الخِلافِ في هذه المَسألةِ مَسألةٌ أُصوليَّةٌ، وهيَ: هَل يَجوزُ نَقلُ الحَديثِ بالمَعنى
[201] يُنظر: ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 106)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (3/1130). .
فقيلَ: يَجوزُ نَقلُ الحَديثِ في لُغةٍ واحِدةٍ ومِن لُغَتَينِ.
وقيلَ: يَجوزُ نَقلُ الحَديثِ بالمَعنى في لُغةٍ واحِدةٍ دونَ اللُّغَتَينِ.
وقيلَ: لا يَجوزُ نَقلُ الحَديثِ بالمَعنى مُطلَقًا.
وحتَّى مَن أجازَ رِوايةَ الحَديثِ بالمَعنى قدِ اشتَرَطَ عِلمَ الرَّاوي بالفُروقِ اللُّغَويَّةِ بَينَ المُتَرادِفاتِ.
قال مُحَمَّدٌ الأمينُ الشِّنقيطيُّ: (شُروطُ جَوازِه عِندَ مَن أجازَه: الأوَّلُ منها: أن يَكونَ ناقِلُ الحَديثِ بالمَعنى عالِمًا باللِّسانِ العَرَبيِّ، لا تخفى عليه النُّكَتُ الدَّقيقةُ التي يَحصُلُ بها الفرقُ الخَفيُّ بَينَ مَعاني الألفاظِ، عارِفًا بالمُحتَمَلِ وغَيرِه، والظَّاهِرِ والأظهَرِ، والعامِّ والأعَمِّ، ونَحوِ ذلك؛ لأنَّ مَن ليس كذلك قد يُبدِلُ اللَّفظَ بلَفظٍ يُساويه في ظَنِّه، وبَينَهما تَفاوُتٌ في المَعنى خاف عليه، فيَأتي الخَلَلُ في حَديثِه مِن ذلك)
[202] ((مذكرة أصول الفقه)) (ص: 211-212). .
وقد أشارَ عَلاءُ الدِّينِ البُخاريُّ إلى أنَّ اختِلافَ الأسماءِ يَدُلُّ على اختِلافِ المَعاني؛ ولذا يَقَعُ الاشتِباهُ في بَعضِ مَسائِلِ القياسِ عِندَ إلحاقِ أصلٍ بفَرعٍ.
فعِندَ شَرحِه لقَولِ البَزْدَويِّ: "فالخَفيُّ اسمٌ لكُلِّ ما اشتَبَهَ مَعناه وخَفيَ مُرادُه بعارِضٍ غَيرِ الصِّيغةِ، لا يُنالُ إلَّا بالطَّلَبِ"، قال عَلاءُ الدِّينِ: (قيلَ: ما اشتَبَهَ مَعناه مِن حَيثُ اللُّغةُ، وخَفِي مُرادُه، أي: الحُكمُ الشَّرعيُّ، كما أنَّ مَعنى السَّارِقِ لُغةً -وهو آخِذُ مالِ الغَيرِ على سَبيلِ الخُفيةِ- اشتَبَهَ في حَقِّ الطَّرَّارِ والنَّبَّاشِ، وكَذا حُكمُه، وهو وُجوبُ القَطعِ، خَفيَ في حَقِّهما... "بعارِضٍ غَيرِ الصِّيغةِ" أي: خَفيَ بسَبَبٍ عارِضٍ، لا أن يَكونَ اللَّفظُ خَفيًّا في نَفسِه؛ فإنَّ آيةَ السَّرِقةِ ظاهرةٌ في كُلِّ سارِقٍ، لَم يُعرَفْ باسمٍ آخَرَ، ولَكِنَّها خَفيَّةٌ في الطَّرَّارِ والنَّبَّاشِ لعارِضِ اختِصاصِهما باسمَينِ آخَرَينِ يُعرَفانِ بهما، واختِلافُ الأسماءِ يَدُلُّ على اختِلافِ المَعاني؛ فبَعُدا بهذه الواسِطةِ عنِ اسمِ السَّرِقةِ؛ فلهذا خَفيَتِ الآيةُ في حَقِّهما، وقَولُه: "لا يُنالُ إلَّا بالطَّلَبِ" تَأكيدٌ)
[203] ((كشف الأسرار)) (1/ 52). .
وقال الجُرجانيُّ: (الخَفيُّ: هو ما خَفيَ المُرادُ منه بعارِضٍ في غَيرِ الصِّيغةِ، لا يُنالُ إلَّا بالطَّلَبِ، كآيةِ السَّرِقةِ؛ فإنَّها ظاهِرةٌ فيمَن أخَذَ مالَ الغَيرِ مِنَ الحِزرِ على سَبيلِ الاستِتارِ خُفيةً، بالنِّسبةِ إلى مَنِ اختَصَّ باسمٍ آخَرَ يُعرَفُ به، كالطَّرَّارِ والنَّبَّاشِ؛ وذلك لأنَّ فِعلَ كُلٍّ مِنهما وإن كان يُشبِهُ فِعلَ السَّارِقِ، لَكِنَّ اختِلافَ الاسمِ يَدُلُّ على اختِلافِ المُسَمَّى ظاهِرًا، فاشتَبَهَ الأمرُ في أنَّهما داخِلانِ تَحتَ لَفظِ: السَّارِقِ، حتَّى يُقطَعا كالسَّارِقِ أو لا)
[204] ((التعريفات)) (ص: 100). .
ومِنَ المَواضِعِ التي تَمَّ فيها إعمالُ الفُروقِ اللُّغَويَّةِ في عِلمِ أُصولِ الفِقهِ، مَوضوعُ حُروفِ المَعاني. وعلى سَبيلِ المِثالِ: حَرفُ "حتَّى".
فالحَرفُ "حتَّى" مَوضوعٌ في الأصلِ ليُفيدَ مَعنى: الغايةِ.
قال عَلاءُ الدِّينِ البُخاريُّ مُعَلِّقًا على هذا المَعنى الذي تَختَصُّ به "حتَّى": (إنَّما قُلنا: مَعنى الغايةِ حَقيقةُ هذا الحَرفِ؛ ليكونَ الحَرفُ مَوضوعًا لمعنًى يَخُصُّ ذلك الحَرفَ بذلك المَعنى، فيَنتَفي الاشتِراكُ، أو يَخُصُّ ذلك المَعنى بذلك الحَرفِ، فيَنتَفي التَّرادُفُ. فإن قيلَ: كَيف يَنتَفي التَّرادُفُ، وقد وُضِعَ للغايةِ حَرفُ "إلى" أيضًا؟
قُلنا: قد ثَبَتَ الفرقُ المانِعُ مِنَ التَّرادُفِ بَينَهما؛ وذلك أنَّ الغايةَ في "حتَّى" يَجِبَ أن تَكونَ مَوضوعةً بأن تَكونَ شَيئًا يَنتَهي به المَذكورُ أو عِندَه، كالرَّأسِ للسَّمَكةِ، والصَّباحِ للبارِحةِ، ولا يُشتَرَطُ ذلك في "إلى"؛ فامتَنَعَ قَولُك: نِمتُ البارِحةَ حتَّى نِصفِ اللَّيلِ، وصَحَّ: نِمتُها إلى نِصفِ اللَّيلِ)
[205] ((كشف الأسرار)) (2/ 160). .