موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الثَّانيةُ: وُقوعُ الحَقيقةِ الشَّرعيَّةِ


اتَّفقَ الأُصوليُّونَ على إمكانِ الحَقيقةِ الشَّرعيَّةِ، واختَلَفوا في وُقوعِها [259] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (1/298)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (3/710). وقد حُكيَ الخِلافُ في الإمكانيَّةِ. يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (3/ 710)، ((حاشية العطار)) (1/ 395). .
فقيلَ: إنَّها واقِعةٌ، وهو قَولُ الجُمهورِ مِنَ الفُقَهاءِ [260] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (3/18)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (2/839). ، وحَكاه السَّمعانيُّ عنِ الفُقَهاءِ وغَيرِهم، وصَحَّحه [261] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) (1/271). .
وقال الماوَرديُّ: (مَذهَبُ جُمهورِ أهلِ العِلمِ وكافَّةِ أهلِ اللُّغةِ: أنَّها أسماءٌ قد كان لها في اللِّسانِ حَقيقةٌ ومَجازٌ، فكانت حَقيقَتُها ما نَقَلَها الشَّرعُ عنه، ومَجازُها ما قَرَّرَها الشَّرعُ عليه؛ لوُجودِ مَعنًى مِن مَعاني الحَقيقةِ فيها) [262] ((الحاوي الكبير)) (2/10). .
(فالشَّارِعُ نَقَلَ اللَّفظَ مِن مَعناه اللُّغَويِّ إلى مَعناه الشَّرعيِّ، وليس نقلًا مُطلَقًا، بَل مَعَ وُجودِ عَلاقةٍ بَينَ المَعنى اللُّغَويِّ والمَعنى الشَّرعيِّ، فمِثلُ ما تَصَرَّف أهلُ العُرفِ في بَعضِ الألفاظِ بنَقلِها عن مَعناها المَوضوعةِ له أصلًا، فكذلك الألفاظُ الشَّرعيَّةُ خَصَّصَت لفظةَ "الصَّلاةِ"، واستُعمِلَت في دُعاءٍ مَخصوصٍ) [263] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (3/ 1151). .
وقَرَّرَ السَّمعانيُّ أنَّ النَّقلَ إذا تَرَتَّبَ عليه تَغييرُ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ فإنَّه لا يَجوزُ، فقال: (هذا النَّقلُ كان لتَقريرِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ، لا لتَغييرِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ، ثُمَّ يُمنَعُ نَقلُ اسمٍ عن مَعناه إذا كان قد تعَلَّق به فَرضٌ، ولا يُمنَعُ مِن نَقلِ اسمٍ لَم يَتَعَلَّقْ به فَرضٌ) [264] ((قواطع الأدلة)) (1/274). .
وقيلَ: إنَّ الحَقيقةَ الشَّرعيَّةَ لَم تَقَعْ أصلًا، على مَعنى أنَّ تلك الألفاظَ الشَّرعيَّةَ مُستَعمَلةٌ في الأصلِ في المَعاني اللُّغَويَّةِ، والزِّياداتُ التي هيَ في المَعاني الشَّرعيَّةِ شُروطٌ. وهو قَولُ بَعضِ الأُصوليِّينَ [265] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/271). ، ومِنهمُ القاضي الباقِلَّانيُّ [266] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) (1/387)؛ حَيثُ قال: (اعلَموا رَضِيَ اللهُ عنكُم أنَّ الذي عليه أهلُ الحَقِّ وجَميعُ سَلَفِ الأُمَّةِ مِنَ الفُقَهاءِ وغَيرِهم أنَّ اللَّهَ سُبحانَه لم يَنقُلْ شَيئًا مِنَ الأسماءِ اللُّغَويَّةِ إلى مَعانٍ وأحكامٍ شَرعيَّةٍ، ولا خاطَبَ الأُمَّةَ إلَّا باللِّسانِ العَرَبيِّ، ولا أجرى سائِرَ الأسماءِ والتَّخاطُبِ إلَّا على ما كان جاريًا عليه في وضعِ اللُّغةِ). ، وقال المازريُّ: (هو رَأيُ المُحَقِّقينَ مِن أئِمَّتِنا الفُقَهاءِ والأُصوليِّينَ) [267] يُنظر: ((إيضاح المحصول)) (ص: 154). ، ونَقَلَه ابنُ القُشَيريِّ عنِ الشَّافِعيَّةِ، وأنَّهم قالوا: (لَم يَنقُلِ الشَّارِعُ شَيئًا مِنَ الأسامي اللُّغَويَّةِ، إنَّما خاطَبَنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بلِسانِ العَرَبِ) [268] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (3/16)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (2/839). .
وهذا الخِلافُ يَعودُ إلى اللَّفظِ إذا حَصَلَ الاتِّفاقُ على وُجوبِ الرُّجوعِ إلى بَيانِ الشَّارِعِ لهذه الأسماءِ وتَفسيرِه لها [269] يُنظر: ((معالم أصول الفقه)) للجيزاني (ص: 373). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (الاسمُ إذا بَيَّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَدَّ مُسَمَّاه لمَ يَلزَمْ أن يَكونَ قد نَقَلَه عنِ اللُّغةِ أو زادَ فيه، بَلِ المَقصودُ أنَّه عُرف مُرادُه بتَعريفِه هو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَيفما كان الأمرُ؛ فإنَّ هذا هو المَقصودُ، وهذا كاسمِ الخَمرِ؛ فإنَّه قد بَيَّنَ أنَّ كُلَّ مُسكِرٍ خَمرٌ [270] عنِ عبدِالله بنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((كُلُّ مُسكِرٍ خَمرٌ، وكُلُّ مُسكِرٍ حَرامٌ)). أخرجه مسلم (2003). ، فعُرِف المُرادُ بالقُرآنِ، وسَواءٌ كانتِ العَرَبُ قَبلَ ذلك تُطلِقُ لفظَ الخَمرِ على كُلِّ مُسكِرٍ، أو تَخُصُّ به عَصيرَ العِنَبِ. لا يُحتاجُ إلى ذلك؛ إذِ المَطلوبُ مَعرِفةُ ما أرادَ اللهُ ورَسولُه بهذا الاسمِ، وهذا قد عُرِف ببَيانِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [271] ((مجموع الفتاوى)) (19/236). .

انظر أيضا: