موسوعة أصول الفقه

المَبحَثُ الثَّالِثُ: الصَّريحُ والكِنايةُ والتَّعريضُ


الصَّريحُ والكِنايةُ والتَّعريضُ ونَحوُها مِن أساليبِ العَرَبِ، وجاءَ الكِتابُ والسُّنَّةُ بها، والبَيانُ المَطلوبُ مُتَعَلِّقٌ بجَميعِ ذلك [348] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/284). قال الخَطيبُ البَغداديُّ: (المَجازُ في كَلامِ العَرَبِ يَشتَمِلُ على فُنونٍ؛ فمِنها: الاستِعارةُ، والتَّمثيلُ، والقَلبُ، والتَّقديمُ والتَّأخيرُ، والحَذفُ، والتَّكرارُ، والإخفاءُ والإظهارُ، والتَّعريضُ والإفصاحُ، والكِنايةُ والإيضاحُ، ومُخاطَبةُ الواحِدِ مُخاطَبةَ الجَميعِ، ومُخاطَبةُ الجَميعِ مُخاطَبةَ الواحِدِ، وخِطابُ الواحِدِ والجَميعِ خِطابَ الاثنَينِ، والقَصدُ بلَفظِ الخُصوصِ مَعنى العُمومِ، وبلَفظِ العُمومِ مَعنى الخُصوصِ. وبجَميعِ ذلك نَزَلَ كِتابُ اللهِ سُبحانَه). ((الفقيه والمتفقه)) (1/217). .
أوَّلًا: الصَّريحُ
الصَّريحُ في اللُّغةِ: اسمٌ مَأخوذٌ مِن مادَّةٍ صَرحَ. وصَرَّحتُ بالأمرِ تَصريحًا، أي: كَشَفتُه وأوضَحتُه، ويُقالُ: انصَرَحَ الحَقُّ، أي: بانَ، فالصَّريحُ اسمٌ لِما هو ظاهرُ المُرادِ مُنكَشِفُ المَعنى، بحَيثُ يَسبِقُ إلى الأفهامِ المُرادُ مِنه [349] يُنظر: ((جمهرة اللغة)) لابن دريد (1/515)، ((الصحاح)) للجوهري (1/382). ويُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 393). .
والصَّريحُ في الاصطِلاحِ: هو ما انكَشَف المُرادُ منه في نَفسِه، فيَدخُلُ فيه المُبَيَّنُ والمُحكَمُ [350] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (3/134). .
وحُكمُه: تَعَلُّقُ الحُكمِ الشَّرعيِّ به بمُجَرَّدِ التَّلَفُّظِ به دونَ نَظَرٍ إلى نيَّةِ المُتَكَلِّمِ؛ لقيامِ الكَلامِ الذي هو الصَّريحُ مَقامَ مَعناه الذي دَلَّ عليه، سَواءٌ كان حَقيقةً أو مَجازًا مِن غَيرِ نَظَرٍ إلى أنَّ المُتَكَلِّمَ أرادَ ذلك المَعنى أو لَم يُرِدْ، فعلى أيِّ وجهٍ أُضيفَ إلى المَحَلِّ مِن نِداءٍ أو وصفٍ أو خَبَرٍ كان موجِبًا للحُكمِ، حتَّى إذا قال: يا طالِقُ، أو أنتِ طالِقٌ، أو قد طَلَّقتُك، يَكونُ إيقاعًا للطَّلاقِ، نَوى أو لَم يَنوِ؛ لأنَّ عَينَه قائِمٌ مَقامَ مَعناه في إيجابِ الحُكمِ؛ لأنَّه صَريحٌ فيه [351] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/188)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (2/203)، ((فصول البدائع)) للفناري (2/192)، ((خلاصة الأفكار)) لابن قطلوبغا (ص: 103). .
ثانيًا: الكِنايةُ
الكِنايةُ لُغةً: أن تَتَكَلَّمَ بشَيءٍ وتُريدَ به غَيرَه، يُقالُ: كَنَى عنِ الأمرِ بغَيرِه يَكنِي كِنايةً: يَعني إذا تَكَلَّمَ بغَيرِه مِمَّا يُستَدَلُّ عليه، نَحوُ: الرَّفثِ والغائِطِ ونَحوِهما [352] يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (6/2477)، ((لسان العرب)) لابن منظور (15/233). .
والكِنايةُ اصطِلاحًا: هيَ اسمٌ لِما استَتَرَ فيه مُرادُ المُتَكَلِّمِ مِن حَيثُ اللَّفظُ، كقَولِه في البَيعِ: جَعَلتُه لك بكَذا، ويَدخُلُ فيه المُجمَلُ، ونَحوُه [353] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (3/134). .
ومَعناه: اللَّفظُ الذي استَتَرَ المَعنى المُرادُ به بحَسَبِ الاستِعمالِ، ولا يُفهَمُ إلَّا بقَرينةٍ، سَواءٌ استُعمِلَ استعمالًا حَقيقيًّا، كما في قَولِك لآخَرَ أمامَ النَّاسِ عن أمرٍ لا تُريدُ إظهارَه لهم: لَقيتُ صاحِبَك وكَلَّمتُه في المَسألةِ. أم كان استِعمالًا مَجازيًّا، كقَولِ الرَّجُلِ لزَوجَتِه: أنتِ حُرَّةٌ، أوِ اعتَدِّي. قاصِدًا بذلك الطَّلاقَ [354] يُنظر: ((دراسات أصولية في القرآن الكريم)) للحفناوي (ص: 243). .
والغَرَضُ مِنَ العُدولِ مِنَ الصَّريحِ إلى الكِنايةِ: إمَّا التَّحَرُّزُ عن قُبحِ الصَّريحِ، نَحوُ قَولِ اللهِ تعالى: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [النساء: 43] ، وإمَّا إخفاءُ المَكنيِّ عنه عنِ السَّامِعِ، أو نَحوُ ذلك [355] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (3/135)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (2/899). .
وحُكمُ الكِنايةِ: أنَّ الحُكمَ بها لا يَثبُتُ إلَّا بالنِّيَّةِ، أو ما يَقومُ مَقامَها مِن دَلالةِ الحالِ؛ لأنَّ في المُرادِ بها تَرَدُّدًا، فلا تَكونُ موجِبةً للحُكمِ ما لَم يَزُلْ ذلك التَّرَدُّدُ بدَليلٍ يَقتَرِنُ بها، وعلى هذا سَمَّى الفُقَهاءُ لَفظَ التَّحريمِ والبَينونةِ مِن كِناياتِ الطَّلاقِ، وهو مَجازٌ عنِ التَّسميةِ باعتِبارِ مَعنى التَّرَدُّدِ فيما يَتَّصِلُ به هذا اللَّفظُ؛ حتَّى لا يَكونَ عامِلًا إلَّا بالنِّيَّةِ، فأمَّا إذا انعَدَمَ التَّرَدُّدُ بنيَّةِ الطَّلاقِ فاللَّفظُ عامِلٌ في حَقيقةِ مُوجِبِه حتَّى تَحصُلَ به الحُرمةُ والبَينونةُ [356] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/188)، ((الكافي)) للسغناقي (2/1031)، ((فصول البدائع)) للفناري (2/192). .
قال الزَّركَشيُّ: (وأمَّا الفُقَهاءُ فقد ذَكَروا الكِناياتِ، والظَّاهرُ أنَّها عِندَهم مَجازٌ، فإذا قال الزَّوجُ: أنتِ خَليَّةٌ، مُريدًا الطَّلاقَ، فهو مَجازٌ، ويُسَمِّيه الفقيهُ كِنايةً، فلَو أرادَ حَقيقةَ اللَّفظِ لكَونِه لازِمًا للطَّلاقِ، ففي وُقوعِ الطَّلاقِ نَظَرٌ) [357] ((البحر المحيط)) (3/138). .
ولوُجودِ مَعنى التَّرَدُّدِ في الكِنايةِ لا يُقامُ بها العُقوباتُ، حتَّى لَو أقَرَّ على نَفسِه في الزِّنا فلا يُقامُ عليه الحَدُّ ما لَم يَذكُرِ اللَّفظَ الصَّريحَ [358] يُنظر: ((أصول الشاشي)) (ص: 68). .
ثالِثًا: التَّعريضُ
التَّعريضُ لُغةً: مَصدَرُ عَرَّضَ بالكَلامِ، أي: لَم يُبَيِّنْ، والتَّعريضُ قد يَكونُ بضَربِ الأمثالِ وذِكرِ الألغازِ، وهو خِلافُ التَّصريحِ في جُملةِ المَقالِ. والتَّعريضُ في خِطبةِ المَرأةِ في عِدَّتِها: أن يَتَكَلَّمَ بكَلامٍ يُشبِهُ خِطبَتَها ولا يُصَرِّحَ به [359] يُنظر: ((التقفية في اللغة)) للبندنيجي (ص: 502)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (1/294). .
والتَّعريضُ اصطِلاحًا: أن يَذكُرَ شَيئًا يَدُلُّ على شَيءٍ لَم يَذكُرْه [360] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (3/135). .
ومَعناه: أن يُضَمِّنَ الكَلامَ ما يَصلُحُ للدَّلالةِ على مَقصودِه، وتَحصُلُ الدَّلالةُ على غَيرِ مَقصودِه، إلَّا أنَّ إشعارَه بخِلافِ المَقصودِ أتَمُّ وأرجَحُ [361] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (3/137). .
والفَرقُ بَينَ الكِنايةِ والتَّعريضِ:
أنَّ الكِنايةَ: أن تَذكُرَ الشَّيءَ بذِكرِ لَوازِمِه، فيُقالُ مَثَلًا: فلانٌ كَثيرُ الرَّمادِ، كِنايةً عن جودِه.
والتَّعريضُ: أن تَذكُرَ كَلامًا يَحتَمِلُ مَقصودَك، ويَحتَمِلُ غَيرَ مَقصودِك، إلَّا أنَّ قَرائِنَ أحوالِك تُؤَكِّدُ حَملَه على مَقصودِك [362] يُنظر: ((مفاتيح الغيب)) للرازي (6/469)، ((البحر المحيط)) للزركشي (3/137). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (الفَرقُ بَينَهما: أنَّه في الكِنايةِ قاصِدٌ لإفهامِ المُخاطَبِ مُرادَه بلَفظٍ أخفى لا يَفهَمُه كُلُّ أحَدٍ، فيُكَنِّي عنِ المَعنى الذي يُريدُه بلَفظٍ أخفى مِن لَفظِه الصَّريحِ، كما كَنَّى اللهُ سُبحانَه عنِ الجِماعِ بالدُّخولِ وبالمَسِّ واللَّمسِ والإفضاءِ، وكما يُكَنَّى عنِ الفَرجِ بالهَنِ، ونَحوِ ذلك.
وأمَّا التَّعريضُ: فإيهامُ السَّامِعِ مَعنًى، ومُرادُه خِلافُه، كالتَّعريضِ بالقَذفِ مَثَلًا، فإذا قال: ما أنا بزانٍ، أوهَمَ السَّامِعَ نَفيَ الزِّنا عن نَفسِه، ومُرادُه إثباتُه للسَّامِعِ) [363] ((الصواعق المرسلة)) (1/259). .

انظر أيضا: