موسوعة أصول الفقه

تَمهيدٌ في أقسامِ الألفاظِ باعتِبارِ ظُهورِ المَعنى وخَفائِه


اللَّفظُ الواضِحُ: هو ما دَلَّ على المُرادِ منه بنَفسِ صيغَتِه مِن غَيرِ تَوقُّفٍ على أمرٍ خارِجيٍّ، ويُفهَمُ الحُكمُ المُرادُ منه مِنَ الصِّيغةِ.
وحُكمُه: أنَّه يَجِبُ العَمَلُ بالحُكمِ الذي دَلَّ عليه اللَّفظُ أوِ الصِّيغةُ، ويَجِبُ تَطبيقُه على الوقائِعِ، ولا يَصِحُّ تَأويلُ ما يَحتَمِلُ التَّأويلَ منه إلَّا بدَليلٍ.
ووُضوحُ الألفاظِ وظُهورُها في الدَّلالةِ على المَعنى المُرادِ مُتَفاوِتٌ، فلَيسَت على دَرَجةٍ واحِدةٍ في وُضوحِ الحُكمِ، فبَعضُها أوضَحُ مِن بَعضٍ؛ ولذلك قَسَّمَ العُلَماءُ الألفاظَ باعتِبارِ دَرَجةِ الوُضوحِ في دَلالَتِها على المَعنى [364] يُنظر: ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/85). .
فاللَّفظُ إمَّا أن يَكونَ له مَعنًى واحِدٌ فقَط لا يَنقدِحُ في الذِّهنِ غَيرُه، أو يَكونَ له مَعنَيانِ فأكثَرُ.
فإن كان اللَّفظُ لا يَحتَمِلُ إلَّا مَعنًى واحِدًا فقَط، فهذا هو النَّصُّ.
وإن كان اللَّفظُ يَحتَمِلُ أكثَرَ مِن مَعنًى نَظَرنا: إن تَرَجَّح أحَدُ المَعاني على الآخَرِ فهو الظَّاهرُ.
وإن لَم يَتَرَجَّحْ أحَدُ المَعاني -أي: كانت مُتَساويةً- فهو المُجمَلُ.
والسَّبَبُ في تَقديمِ النَّصِّ على الظَّاهرِ: أنَّ النَّصَّ أقوى مِنَ الظَّاهرِ؛ لأنَّ النَّصَّ لا يَحتَمِلُ إلَّا مَعنًى واحِدًا، أمَّا الظَّاهرُ فهو يَحتَمِلُ مَعنَيَينِ هو في أحَدِهما أظهَرُ.
والسَّبَبُ في تَقديمِ الظَّاهرِ على المُجمَلِ: أنَّ الظَّاهرَ قَريبٌ مِنَ النَّصِّ مِن وجهَينِ:
الأوَّلُ: أنَّ الظَّاهرَ يُفهَمُ منه مَعنًى واحِدٌ، وإنِ احتَمَلَ مَعنًى آخَرَ لَكِنَّه مَرجوحٌ.
الثَّاني: أنَّ الظَّاهرَ يُشارِكُ النَّصَّ في وُجوبِ العَمَلِ بهما. أمَّا المُجمَلُ فلا يُفهَمُ منه مَعنًى مُعَيَّنٌ، ولا يَجوزُ العَمَلُ به، فلذلك أُخِّرَ [365] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (3/1191). وهذا تَقسيمُ الجُمهورِ غَيرِ الحَنَفيَّةِ، أمَّا عِندَ الحَنَفيَّةِ: فكُلٌّ مِنَ الواضِحِ والخَفيِّ مُتَفاوِتٌ في دَرَجةِ الوُضوحِ والخَفاءِ، فالواضِحُ بَعضُه أوضَحُ مِن بَعضٍ، والخَفيُّ بَعضُه أخفى مِن بَعضٍ، فيَكونُ للوُضوحِ مَراتِبُ، وللخَفاءِ مَراتِبُ. وقد قَسَّمَ الحَنَفيَّةُ اللَّفظَ الواضِحَ بحَسبِ مَراتِبِ الوُضوحِ إلى أربَعِ دَرَجاتٍ مُتَفاوِتةٍ، وهيَ: الظَّاهرُ، والنَّصُّ، والمُفسرُ، والمُحكَمُ. فأوضَحُها المُحكَمُ، ثُمَّ المُفسرُ، ثُمَّ النَّصُّ ثُمَّ الظَّاهِرُ. وتَظهَرُ فائِدةُ هذا التَّقسيمِ عِندَ التَّعارُضِ، فيُقدَّمُ النَّصُّ على الظَّاهرِ، ويُقدَّمُ المُفسرُ عليهما، ويُقدَّمُ المُحكَمُ على الكُلِّ. وأساسُ التَّفاوُتِ بَينَ هذه المَراتِبِ وُقوعُ أحَدِ الاحتِمالاتِ التَّاليةِ فيه، وهيَ: احتِمالُ التَّأويلِ والتَّخصيصِ، واحتِمالُ النَّسخِ، واحتِمالُ كَونِ اللَّفظِ مَسوقًا بالذَّاتِ لإفادةِ مَعناه والمُرادِ منه، أو كَونِ المَعنى غَيرَ مَسوقٍ أصليًّا مِنه. فإن كان اللَّفظُ لا يَحتَمِلُ التَّأويلَ والتَّخصيصَ ولا النَّسخَ فهو المُحكَمُ، وهو أعلى دَرَجاتِ الوُضوحِ. وإن كان لا يَحتَمِلُ التَّأويلَ والتَّخصيصَ، ويَدُلُّ على مَعناه دَلالةً قَطعيَّةً، لَكِنَّه يَقبَلُ النَّسخَ، فهو المُفسَّرُ. وإن كان اللَّفظُ يَحتَمِلُ التَّأويلَ والتَّخصيصَ ويَقبَلُ النَّسخَ، ولَكِنَّه مَسوقٌ بالذَّاتِ لإفادةِ مَعناه والمُرادِ منه، فهو النَّصُّ. وإن كان اللَّفظُ يَحتَمِلُ التَّأويلَ والتَّخصيصَ ويَقبَلُ النَّسخَ، وليس مَقصودًا بالسِّياقِ، فهو الظَّاهرُ، وهو أقَلُّ المَراتِبِ وُضوحًا. ويَكونُ الفَرقُ بَينَ المُحكَمِ والمُفسَّرِ: أنَّ الأوَّلَ لا يَحتَمِلُ النَّسخَ، والثَّاني يَحتَمِلُه في عَهدِ الرِّسالةِ. والفَرقُ بَينَ المُفسَّرِ والنَّصِّ: أنَّ الأوَّلَ يَبينُ المُرادُ منه بنَفسِ الصِّيغةِ، والثَّاني يَكونُ المُرادُ منه بمَعنًى مِنَ المُتَكَلِّمِ. ويَنقَسِمُ اللَّفظُ باعتِبارِ خَفاءِ المَعنى إلى: خَفيٍّ، ومُشكِلٍ، ومُجمَلٍ، ومُتَشابِهٍ. فالظَّاهرُ يُقابِلُه الخَفيُّ. والنَّصُّ يُقابِلُه المُشكِلُ. يُنظر: ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 116)، ((أصول السرخسي)) (1/163)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/85). .

انظر أيضا: