موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الخامِسةُ: المَندوبُ بالجُزءِ يَكونُ واجِبًا بالكُلِّ


المُرادُ بالمَندوبِ بالجُزءِ: ما يَختَصُّ بالمُكلَّفِ وحدَه في بَعضِ الأحوالِ، بمَعنى أنَّ المُكلَّفَ قَد يَترُكُ فِعلَ المَندوبِ أحيانًا لعُذرٍ أو لغيرِ عُذرٍ، ولا حَرَجَ عليه في التَّركِ.
والمَندوبُ بالكُلِّ: أن يَترُكَه المُكلَّفُ على الدَّوامِ فلا يَفعَلَه، أو يَفعَلَه نادِرًا.
وكذا أن يَترُكَه أهلُ بَلَدٍ جَميعًا. مِثلُ تَركِ الأذانِ في المَساجِدِ، وصَلاةِ الجَماعةِ.
وقد ذَكرَ الأُصوليُّونَ في حُكمِ المَندوبِ: أنَّه يُثابُ فاعِلُه ولا يُعاقَبُ تارِكُه [446] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/374)، ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 37). .
لَكِنْ هذا إنَّما يَكونُ للمَندوبِ بالجُزءِ، وليس للمَندوبِ بالكُلِّ؛ لأنَّ المَندوبَ بالجُزءِ يَكونُ واجِبًا بالكُلِّ، ولذلك لَو تَمالَأ أهلُ بَلَدٍ على تَركِ المَندوبِ أُجبروا عليه [447] يُنظر: ((الضياء اللامع)) لحلولو (1/329). .
وعلى هذا فيَسوغُ للمُكلَّفِ في حالةِ الجُزءِ ما لا يَسوغُ لَه في حالةِ الكُلِّ، وكذا يَسوغُ لَه ما لا يَسوغُ للجَماعةِ.
وقد ذَكرَ الشَّاطِبيُّ أنَّ الفِعلَ إذا كان مَندوبًا بالجُزءِ كان واجِبًا بالكُلِّ؛ كالأذانِ في المَساجِدِ الجَوامِعِ أو غيرها، وصَلاةِ الجَماعةِ، وصَلاةِ العيدَينِ، وصَدَقةِ التَّطَوُّعِ، والنِّكاحِ، والوِترِ، والفَجرِ، والعُمرةِ، وسائِرِ النَّوافِلِ الرَّواتِبِ؛ فإنَّها مَندوبٌ إليها بالجُزءِ، ولَو فُرِضَ تَركُها جُملةً لَجُرحَ التَّارِكُ لَها؛ ألَا تَرى أنَّ في الأذانِ إظهارًا لشَعائِرِ الإسلامِ؟ ولذلك يَستَحِقُّ أهلُ المِصرِ القِتالَ إذا تَرَكوه.
وكذلك صَلاةُ الجَماعةِ -علَى رأْيِ مَنْ قَالَ باسْتِحبَابِها- لمَن داومَ على تَركِها يُجرَّحُ، فلا تُقبَلُ شَهادَتُه؛ لأنَّ في تَركِها مُضادَّةً لإظهارِ شَعائِرِ الدِّينِ، وقد تَوعَّدَ الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مَن داومَ على تَركِ الجَماعةِ؛ فهَمَّ أن يُحَرِّقَ عليهم بُيوتَهم [448] لَفظُه: عن أبي هُرَيرةَ قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ أثقَلَ صَلاةٍ على المُنافِقينَ: صَلاةُ العِشاءِ وصَلاةُ الفجرِ، ولو يَعلَمونَ ما فيهما لأتَوهما ولو حَبْوًا. ولَقَد هَمَمتُ أن آمُرَ بالصَّلاةِ فتُقامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فيُصَلِّيَ بالنَّاسِ، ثُمَّ أنطَلِقَ مَعي برِجالٍ مَعَهم حُزَمٌ مِن حَطَبٍ إلى قَومٍ لا يَشهَدونَ الصَّلاةَ، فأُحَرِّقَ عليهم بُيوتَهم بالنَّارِ)). أخرجه البخاري (657)، ومسلم (651) واللفظ له. ، كما كان عليه السَّلامُ لا يُغيرُ على قَومٍ حَتَّى يُصبِحَ، فإن سَمِعَ أذانًا أمسَك، وإلَّا أغارَ [449] لَفظُه: عن أنَسِ بنِ مالكٍ ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا غَزا بنا قَومًا لَم يَكُنْ يَغزو بنا حَتَّى يُصبِحَ ويَنظُرَ؛ فإن سَمع أذانًا كفَّ عنهم، وإن لَم يَسمَعْ أذانًا أغارَ عليهم)). أخرجه البخاري (610). وأخرَجَه مُسلم (382) عن أنَسِ بنِ مالكٍ قال: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُغيرُ إذا طَلَعَ الفجرُ، وكان يَستَمِعُ الأذانَ؛ فإن سَمِع أذانًا أمسَك وإلَّا أغار)). .
والنِّكاحُ لا يَخفى ما فيه مِمَّا هو مَقصودٌ للشَّارِعِ؛ مِن تَكثيرِ النَّسلِ، وإبقاءِ النَّوعِ الإنسانيِّ، وما أشبَهَ ذلك؛ فالتَّركُ لَها جُملةً مُؤَثِّرٌ في أوضاعِ الدِّينِ إذا كان دائِمًا، أمَّا إذا كان في بَعضِ الأوقاتِ فلا تَأثيرَ لَه، فلا مَحظورَ في التَّركِ [450] يُنظر: ((الموافقات)) (1/211). ويُنظر أيضًا: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (2/310). .

انظر أيضا: