موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الرَّابعةُ: هل المَندوبُ مَأمورٌ به حَقيقةً؟


المَندوبُ مَأمورٌ به حَقيقةً لا مَجازًا، أي: أنَّ الأمرَ إذا ورَدَ، ودَلَّ دَليلٌ على أنَّه أُريدَ به النَّدبُ؛ فإنَّه يَكونُ أمرًا حَقيقةً. وهذا القَولُ نَقَله أبو الطَّيِّبِ الطَّبَريُّ عن نَصِّ الشَّافِعيِّ [420] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/381). ، وهو مَنقولٌ عن أحمَدَ [421] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (1/174)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/405). ، وهو قَولُ بَعضِ الحَنَفيَّةِ [422] يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 110)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/119). ، وجمهورِ المالِكيَّةِ [423] يُنظر: ((إحكام الفصول)) للباجي (1/200)، ((التحقيق والبيان)) للأبياري (1/689)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/668). ، والشَّافِعيَّةِ [424] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (1/120)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (1/557)، ((البحر المحيط)) للزركشي (1/381). ، والحنابِلةِ [425] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (1/158)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/354)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/405). .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّ اللَّهَ تعالى أطلَقَ الأمرَ على المَندوبِ في القُرآنِ الكريمِ، وكذلك النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سُنَّتِه، والأصلُ في الإطلاقِ الحَقيقةُ، فيَكونُ المَندوبُ مَأمورًا به حَقيقةً.
فمِنَ القُرآنِ الكريمِ: قَولُ اللهِ تعالى: إنَّ اللَّهَ ‌يَأْمُرُ ‌بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى [النحل: 90] ؛ فقد أمَرَ اللهُ تعالى في الآيةِ بأشياءَ؛ مِنها ما هو واجِبٌ، كالأمرِ بالعَدلِ، ومِنها ما هو مَندوبٌ إليه، كالأمرِ بالإحسانِ، وإيتاءِ ذي القُربى، ففي هذا دَلالةٌ على أنَّ الأمرَ يُطلَقُ على المَندوبِ كما يُطلَقُ على الواجِبِ، وهذا يَقتَضي أنَّ المَندوبَ مَأمورٌ به حَقيقةً.
ومِنَ السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَرَ برَدِّ السَّلامِ، وعيادةِ المَريضِ، واتِّباعِ الجَنائِزِ، وإجابةِ الدَّعوةِ، وتَشميتِ العاطِسِ [426] لَفظُه: عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((حَقُّ المُسلمِ على المُسلمِ خَمسٌ: رَدُّ السَّلامِ، وعيادةُ المَريضِ، واتِّباعُ الجَنائِزِ، وإجابةُ الدَّعوةِ، وتَشميتُ العاطِسِ)). أخرجه البخاري (1240) واللفظ له، ومسلم (2162). . وهذه الأوامِرُ مِنها ما هو واجِبٌ، ومِنها ما هو مَندوبٌ إليه، ومَعَ هذا وحَّدَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الأمرَ، وفي هذا دَلالةٌ على أنَّ الأمرَ قَدِ استُعمِلَ في المَندوبِ، والأصلُ في الاستِعمالِ الحَقيقةُ؛ فثَبَتَ أنَّ المَندوبَ مَأمورٌ به حَقيقةً [427] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/126)، ((التحبير)) للمرداوي (2/986). .
2- أنَّ فِعلَ المَندوبِ طاعةٌ بالإجماعِ، وكُلُّ ما هو طاعةٌ فهو مَأمورٌ به حَقيقةً؛ بدَلالةِ أنَّ الطَّاعةَ تُقابِلُ المَعصيةَ، والمَعصيةُ مُخالَفةُ الأمرِ، فالطَّاعةُ امتِثالُ الأمرِ، فيَكونُ المَندوبُ مَأمورًا به حَقيقةً [428] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 61)، ((فصول البدائع)) للفناري (1/260)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/669). .
وقيل: المَندوبُ غيرُ مَأمورٍ به حَقيقةً، وإنَّما الأمرُ فيه مِن بابِ المَجازِ، أي: أنَّ الأمرَ إذا ورَدَ ودَلَّ دَليلٌ على أنَّه أُريدَ به النَّدبُ، فإنَّه لا يَكونُ أمرًا على الحَقيقةِ، بَل على وَجهِ المَجازِ.
وهو مَنقولٌ عن أبي حَنيفةَ [429] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/119). ، وبه قال عامَّةُ الحَنَفيَّةِ [430] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (2/82)، ((أصول السرخسي)) (1/14)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/119). ، وبعضِ المالِكيَّةِ [431] يُنظر: ((المحصول)) لابن العربي (ص67)، ((إيضاح المحصول)) للمازري (ص: 220). ، وكثيرٍ مِنَ الشَّافِعيَّةِ [432] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) لابن السمعاني (1/62)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (2/640)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (1/557). ، ونَقَله المازَريُّ عن أبي الحَسَنِ الأشعَريِّ [433] يُنظر: ((إيضاح المحصول)) للمازري (ص: 220). .
مَنشَأُ الخِلافِ في المَسألةِ:
سَبَبُ اختِلافِ الأُصوليِّينَ في هذه المَسألةِ هو الاختِلافُ في أنَّ الأمرَ حَقيقةٌ في ماذا؟ هل هو حَقيقةٌ في الوُجوبِ أو في النَّدبِ أو في ماذا [434] يُنظر: ((التحصيل)) للأرموي (1/314). ؟
نوعُ الاختِلافِ في المسألةِ:
قيلَ: الخِلافُ في المَسألةِ لَفظيٌّ لا ثَمَرةَ لَه؛ لأنَّ المَندوبَ مَطلوبٌ فِعلُه باتِّفاقِ الجَميعِ، فلَم يَبقَ اختِلافٌ إلَّا في إطلاقِ اسمِ الأمرِ على المَندوبِ حَقيقةً أو مَجازًا. كما أنَّ القائِلينَ بأنَّ المَندوبَ مَأمورٌ به حَقيقةً يُسَلِّمونَ لأصحابِ القَولِ الآخَرِ أنَّ تَركَ المَندوبِ لا عِقابَ عليه في نارِ جَهَنَّمَ. والقائِلونَ بأنَّه غيرُ مَأمورٍ به حَقيقةً يُسَلِّمونَ لأصحابِ القَولِ الآخَرِ بأنَّ المُكلَّفَ إذا تَرَك المَندوبَ فإنَّه لا يَستَحِقُّ الثَّوابَ.
فالمَعنى مِن أصحابِ القَولينِ مُسَلَّمٌ، فلا يَبقى بَعدَ ذلك إلَّا إطلاقُ العِبارةِ، ولا مُشاحَّةَ في العِباراتِ بَعدَ الاتِّفاقِ على المَعنى [435] يُنظر: ((الوصول)) لابن برهان (1/77). . وبهذا القَولِ قال ابنُ القُشَيريِّ [436] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/382). ، وإمامُ الحَرَمينِ [437] يُنظر: ((البرهان)) (1/82). ، وابنُ بَرهانَ [438] يُنظر: ((الوصول)) (1/77). .
وقيلَ: إنَّ الخِلافَ في المَسألةِ مَعنَويٌّ تَتَرَتَّبُ عليه بَعضُ الآثارِ. وبهذا قال أبو الخَطَّابِ الكَلْوَذانيُّ [439] يُنظر: ((التمهيد)) (1/175). ، والمازَريُّ [440] يُنظر: ((إيضاح المحصول)) (ص: 220). ، والأبياريُّ [441] يُنظر: ((التحقيق والبيان)) (1/690). ، والطُّوفيُّ [442] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) (1/358). ، وصحَّحه الزَّركَشيُّ [443] يُنظر: ((البحر المحيط)) (1/382). .
وذَكروا بَعضَ الفُروعِ التَّطبيقيَّةِ، مِنها: إذا ورَدَ لَفظُ الأمرِ، ودَلَّ الدَّليلُ على أنَّه لَم يُرَد به الوُجوبُ:
فعلى القَولِ الأوَّلِ: لا يُحمَلُ الأمرُ على النَّدبِ إلَّا بدَليلٍ؛ لأنَّ حَملَ اللَّفظِ على المَجازِ لا يَجوزُ إلَّا بدَلالةٍ؛ لجَوازِ كَونِ الأمرِ للإباحةِ.
وعلى القَولِ الثَّاني: يُحمَلُ على النَّدبِ دونَ الحاجةِ إلى دَليلٍ؛ حيثُ إنَّ اللَّفظَ عِندَهم لَه حَقيقَتانِ [444] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (1/175)، ((إيضاح المحصول)) للمازري (ص: 220). .
ومِنها: إذا قال الرَّاوي: (أُمِرْنا) أو (أمَرَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بكذا):
فعلى القَولِ الأوَّلِ: يَكونُ الأمرُ للوُجوبِ، وهو ظاهرٌ فيه حَتَّى يَقومَ دَليلٌ على خِلافِه؛ لأنَّ الحَملَ على المَجازِ لا يَكونُ إلَّا بدَليلٍ.
وعلى القَولِ الثَّاني: يَكونُ الأمرُ مُتَرَدِّدًا بينَ الوُجوبِ والنَّدبِ، ولا بُدَّ مِن دَليلٍ يُرجِّحُ المُرادَ [445] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (1/175)، ((إيضاح المحصول)) للمازري (ص: 220)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/358). .

انظر أيضا: