موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الخامِسةُ: البَيانُ بالإشارةِ


إشارةُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَكونُ بَيانًا كقَولِه [594] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (2/36)، ((العدة)) لأبي يعلى (1/124)، ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (1/316)، ((اللمع)) للشيرازي (ص: 53)، ((تقريب الوصول)) لابن جزي (ص: 162). .
والدَّليلُ على ذلك: الوُقوعُ؛ فقد حَكى اللهُ تعالى عن مَريَمَ بقَولِه: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ [مريم: 29] ، فبَيَّنَت لهم مُرادَها بالإشارةِ [595] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (2/37)، ((العدة)) لأبي يعلى (1/125). .
ووقَعَ البَيانُ بالإشارةِ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في عِدَّةِ أُمورٍ، ومِن ذلك [596] يُنظر: ((الإحكام)) لابن حزم (1/83). : حَديثُ كَعبِ بنِ مالِكٍ مَعَ أبي حَدرَدٍ؛ إذ أشارَ إليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيَدِه أن ضَعِ النِّصفَ [597] عن كَعبِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه كان له على عَبدِ اللهِ بنِ أبي حَدرَدٍ الأسلَميِّ دَينٌ، فلَقيَه فلَزِمَه، فتَكَلَّما حتَّى ارتَفعَت أصواتُهما، فمَرَّ بهما النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا كَعبُ -وأشارَ بيَدِه، كَأنَّه يَقولُ: النِّصفَ- فأخَذَ نِصفَ ما عليه وتَرَكَ نِصفًا. أخرجه البخاري (2424) واللَّفظُ له، ومسلم (1558). .
أنواعُ البَيانِ بالإشارةِ:
وقَعَ في السُّنَّةِ مِنَ البَيانِ بالإشارةِ ثَلاثةُ أنواعٍ:
النَّوعُ الأوَّلُ: إشارةٌ مُجتَمِعةٌ مَعَ لَفظٍ هو اسمٌ مِن أسماءِ الإشارةِ، تُبَيِّنُ الإشارةُ المُرادَ به. وهذا النَّوعُ في السُّنَّةِ كَثيرٌ.
ومِثالُه [598] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (1/124)، ((أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم)) لمحمد الأشقر (2/24). : حَديثُ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الشَّهرُ هَكَذا وهَكَذا وهَكَذا. وأشارَ بأصابِعِه العَشرِ))، فأفادَ أنَّه ثَلاثونَ يَومًا. ثُمَّ قال: ((الشَّهرُ هَكَذا وهَكَذا وهَكَذا. وحَبَسَ الإبهامَ في الثَّالِثةِ)) [599] أخرجه مسلم (1080) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُه: عن سَعدِ بنِ عُبَيدةَ، قال: سَمِعَ ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما رَجُلًا يَقولُ: اللَّيلةُ لَيلةُ النِّصفِ، فقال له: ما يُدريك أنَّ اللَّيلةَ النِّصفُ؟ سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: الشَّهرُ هَكَذا وهَكَذا، وأشارَ بأصابِعِه العَشرِ مَرَّتَينِ، وهَكَذا، في الثَّالِثةِ، وأشارَ بأصابِعِه كُلِّها وحَبَسَ -أو خَنَسَ- إبهامَه. والحَديثَ أخرجه البخاري (1908، 5302) مفرَّقًا بنحوِه. ، فأفادَ أنَّه تِسعةٌ وعِشرونَ يَومًا.
وقد عَقدَ البُخاريُّ في صحيحِه بابًا بعُنوانِ (الإشارةُ في الطَّلاقِ والأُمورِ) [600] يُنظر: ((صحيح البخاري)) (4/484). ، وأورَدَ فيه وفي غَيرِه مِنَ الأبوابِ أحاديثَ لهذا النَّوعِ، ومِنها حَديثُ ابنِ عُمَرَ المُتَقدِّمُ، ومِنها أيضًا [601] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (2/36). :
1- أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ بدَمعِ العَينِ، ولا بحُزنِ القَلبِ، ولَكِنْ يُعَذِّبُ بهذا أو يَرحَمُ)). وأشارَ إلى لِسانِه [602] أخرجه البخاري (1304)، ومسلم (924) باختِلافٍ يَسيرٍ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، ولَفظُه: ((إنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ بدَمعِ العَينِ، ولا بحُزنِ القَلبِ، ولَكِن يُعَذِّبُ بهذا -وأشارَ إلى لسانِه- أو يَرحَمُ)). .
2- أشارَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيَدِه نَحوَ اليَمَنِ، وقال: ((الإيمانُ هاهنا)) [603] أخرجه البخاري (4387)، ومسلم (51) من حديثِ أبي مَسعودٍ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. مَرَّتَينِ.
3- أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أنا وكافِلُ اليَتيمِ في الجَنَّةِ هَكَذا)) وأشارَ بالسَّبَّابةِ والوُسطى، وفرَّجَ بَينَهما [604] أخرجه البخاري (5304) من حديثِ سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
النَّوعُ الثَّاني: أن يَجعَلَ الإشارةَ كَجُزءٍ مِنَ القَولِ، أي: أن لا يَذكُرَ في الكَلامِ اسمَ إشارةٍ، وإنَّما يُقيمُ الإشارةَ مَقامَ اللَّفظِ، وهذا النَّوعُ أقَلُّ ورودًا مِنَ الأوَّلِ.
ومِثالُه: ما جاءَ عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه مَرفوعًا: ((في الجُمُعةِ ساعةٌ لا يوافِقُها عَبدٌ مُسلِمٌ قائِمٌ يُصَلِّي، فسَألَ اللَّهَ خَيرًا، إلَّا أعطاه))، ووضَعَ أُنمُلَتَه على بَطنِ الوُسطى والخِنصِرِ. قُلنا: يُزَهِّدُها [605] أخرجه البخاري (5294)، ومسلم (852) من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولَفظُ البخاريِّ: قال أبو القاسِمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((في الجُمُعةِ ساعةٌ لا يوافِقُها عَبدٌ مُسلِمٌ قائِمٌ يُصَلِّي، فسَألَ اللَّهَ خَيرًا إلَّا أعطاه)) وقال بيَدِه -ووضَعَ أُنمُلَتَه على بَطنِ الوُسطى والخِنصِرِ- قُلنا: يُزَهِّدُها. .
فالإشارةُ هنا قائِمةٌ مَقامَ الوَصفِ لكَلِمةِ (ساعةٍ) أي: ساعةٌ قَليلةٌ [606] يُنظر: ((أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم)) لمحمد الأشقر (2/25). .
النَّوعُ الثَّالِثُ: الإشارةُ المُجَرَّدةُ مِنَ القَولِ إذا أفادَت. وهيَ جائِزةٌ في مَقامِ بَيانِ الأحكامِ، وإن كانت لا تُعتَبَرُ في الحُقوقِ بَينَ الآدَميِّينَ مِنَ القادِرِ على النُّطقِ [607] يُنظر: ((أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم)) لمحمد الأشقر (2/25). .
ومِن ذلك [608] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (2/36)، ((أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم)) لمحمد الأشقر (2/25). : حَديثُ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يُقبَضُ العِلمُ، ويَظهَرُ الجَهلُ والفِتَنُ، ويَكثُرُ الهَرجُ. قيلَ: يا رَسولَ اللهِ: وما الهَرجُ؟ فقال هَكَذا بيَدِه، فحَرفَها، كَأنَّه يُريدُ القَتلَ)) [609] أخرجه البخاري (85). .

انظر أيضا: