موسوعة الآداب الشرعية

حادي عشرَ: المحافظةُ على ألفاظِ الأذكارِ دونَ زيادةٍ أو نقصانٍ


الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عنِ البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا أتَيتَ مَضجَعَك فتَوضَّأْ وُضوءَك للصَّلاةِ، ثُمَّ اضطَجِعْ على شِقِّك الأيمَنِ، ثُمَّ قُل: اللَّهُمَّ أسلَمتُ وَجهي إليك، وفوَّضتُ أمري إليك، وألجَأتُ ظَهري إليك؛ رَغبةً ورَهبةً إليك، لا مَلجَأَ ولا مَنجا مِنك إلَّا إليك، اللَّهُمَّ آمَنتُ بكِتابِك الذي أنزَلتَ، وبنَبيِّك الذي أرسَلتَ، فإن مُتَّ مِن لَيلَتِك فأنتَ على الفِطرةِ، واجعَلْهنَّ آخِرَ ما تَتَكَلَّمُ به. قال: فرَدَّدتُها على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلَمَّا بَلَغتُ: اللَّهُمَّ آمَنتُ بكِتابِك الذي أنزَلتَ، قُلتُ: ورَسولِك، قال: لا، ونَبيِّك الذي أرسَلتَ)) [2036] أخرجه البخاري (247) واللفظ له، ومسلم (2710). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (أَولى ما قيلَ في الحِكمةِ في رَدِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على مَن قال الرَّسولَ بَدَلَ النَّبيِّ: أنَّ ألفاظَ الأذكارِ تَوقيفيَّةٌ ولَها خَصائِصُ وأسرارٌ لا يَدخُلُها القياسُ؛ فتَجِبُ المُحافظةُ على اللَّفظِ الذي ورَدَت به، وهذا اختيارُ المازَريِّ [2037] يُنظر: ((المعلم بفوائد مسلم)) للمازري (3/ 330). قال: فيُقتَصَرُ فيه على اللَّفظِ الوارِدِ بحُروفِه، وقد يَتَعَلَّقُ الجَزاءُ بتلك الحُروفِ، ولَعَلَّه أُوحيَ إليه بهذه الكَلِماتِ، فيَتَعَيَّنُ أداؤُها بحُروفِها) [2038] ((فتح الباري)) (11/ 112). وقد قال ابنُ حَجَرٍ في مَوضِعٍ آخَرَ بَعدَ أن ذَكَرَ بَعضَ الأوجُه: (... أو لأنَّ ألفاظَ الأذكارِ تَوقيفيَّةٌ في تَعيينِ اللَّفظِ وتَقديرِ الثَّوابِ؛ فرُبَّما كان في اللَّفظِ سِرٌّ ليس في الآخَرِ ولَو كان يُرادِفُه في الظَّاهرِ، أو لَعَلَّه أوحيَ إليه بهذا اللَّفظِ فرَأى أن يَقِفَ عِندَه). ((فتح الباري)) (1/ 358). .
2- عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما، ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يُعَلِّمُهم هذا الدُّعاءَ كما يُعَلِّمُهمُ السُّورةَ مِنَ القُرآنِ، يَقولُ: قولوا: اللَّهُمَّ إنَّا نعوذُ بك مِن عَذابِ جَهَنَّمَ، وأعوذُ بك مِن عَذابِ القَبرِ، وأعوذُ بك مِن فِتنةِ المَسيحِ الدَّجَّالِ، وأعوذُ بك مِن فِتنةِ المَحيا والمَماتِ [2039] قال ابنُ العَطَّارِ: (قَولُه: «ومِن فِتنةِ المحيا والمماتِ»: أي: الحياةِ والموتِ؛ ففِتنةُ المَحْيَا: ما يَتعرَّضُ له الإنسانُ مُدَّةَ حَياتِه مِنَ الافتِتَانِ بالدُّنيا والشَّهَوَاتِ والجَهَالاتِ، وأشَدُّها وأعظَمُها -والعِياذُ باللهِ تعالى منه- أمرُ الخاتِمَةِ عندَ الموتِ، وفتنةُ المماتِ قيل: المرادُ: فِتنةُ القَبرِ، وقد صَحَّ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الاستعاذةُ من عذابِ القَبرِ، وفِتنةُ القَبرِ كمِثلِ أو أعظَمَ مِن فِتنةِ الدَّجَّالِ، ولا يكونُ من هذا الوَجهِ متكَرِّرًا مع قولِه: «من عذابِ القَبرِ»؛ لأنَّ العذابَ مرتَّبٌ على الفتنةِ، والسَّبَبُ غيرُ المسَبَّبِ، ولا يقالُ: إنَّ المقصودَ زوالُ عذابِ القَبرِ؛ لأنَّ الفِتنةَ نَفسَها أمرٌ عظيمٌ، وهو شديدٌ يُستعاذُ باللهِ من شَرِّه، ويجوزُ أن يرادَ بفِتنةِ المماتِ: الفِتنةُ عندَ الموتِ، وأضيفَت إلى الموتِ؛ لقُربِها منه عندَ الاحتضارِ، أو قَبلَه بقليلٍ، وتكونُ فِتنةُ المحيا على هذا ما يقَعُ قَبلَ ذلك في مدَّةِ الحياةِ للإنسانِ وتصَرُّفِه في الدُّنيا، فإنَّ ما قارب الشَّيءَ يُعطى حُكمَه، فحالةُ الموتِ تُشبَّهُ بالموتِ، فلا تُعَدُّ من الدُّنيا، فعلى هذا يكونُ الجَمعُ بَينَ فتنةِ المحيا والمماتِ وفِتنةِ المسيحِ الدَّجَّالِ وفِتنةِ القَبرِ مِن بابِ ذِكرِ الخاصِّ بعدَ العامِّ، ونظائِرُه كثيرةٌ. واللهُ أعلَمُ. ويحتَمِلُ أن يُرادَ بفِتنةِ المحيا والمماتِ حالةُ الاحتضارِ وحالةُ المساءلةِ في القَبرِ، فكأنَّه استعاذ من فتنةِ هذين المقامَينِ، وسأل التَّثبيتَ فيهما). ((العدة في شرح العمدة)) (2/ 615). ) [2040]  أخرجه مسلم (590). .
قال أبو الوليدِ الباجِيُّ: (قَولُه: «كان يُعَلِّمُهم هذا الدُّعاءَ كما يُعَلِّمُهمُ السُّورةَ مِنَ القُرآنِ» دَليلٌ على تَأكُّدِه وما نُدِبَ إليه مِن تَحَفُّظِ ألفاظِه) [2041] ((المنتقى شرح الموطأ)) (1/ 358). .
فائدةٌ:
قال ابنُ حَجَرٍ بَعدَ أن أورَدَ حَديثَ زَيدِ بنِ ثابتٍ: ((أُمِرْنا أن نُسَبِّحَ في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وثَلاثينَ، ونَحمَدَ ثَلاثًا وثَلاثينَ، ونُكَبِّرَ أربَعًا وثَلاثينَ؛ فأُتِيَ رَجُلٌ في مَنامِه فقيلَ له: أمرَكم مُحَمَّدٌ أن تُسَبِّحوا، فذَكَرَه؟ قال: نَعَم، قال: اجعَلوها خَمسًا وعِشرينَ، واجعَلوا فيها التَّهليلَ، فلَمَّا أصبَحَ أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأخبَرَه، فقال: فافعَلوه)) [2042] أخرجه الترمذي (3413) واللفظ له، والنسائي (1350)، وأحمد (21600). صححه الترمذي، وابن خزيمة في ((صحيحه)) (1/732)، وابن حبان في ((صحيحه)) (2017)، وابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/277). ، وحديثَ ابنِ عُمَرَ: ((رَأى رَجُلٌ مِنَ الأنصارِ فيما يَرى النَّائِمَ)) فذَكَرَ نَحوَه، وفيه: ((فقيلَ له: سَبِّحْ خَمسًا وعِشرينَ، واحمَدْ خَمسًا وعِشرينَ، وكَبِّرْ خَمسًا وعِشرينَ، وهَلِّلْ خَمسًا وعِشرينَ؛ فتلك مِائةٌ، فأمَرَهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَفعَلوا كما قال)) [2043] لفظُه: عن ابنِ عُمَرَ ((أنَّ رَجُلًا رأى فيما يرى النَّائِمُ، قيل له: بأيِّ شيءٍ أمَركم نبيُّكم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قال: أمَرَنا أن نُسَبِّحَ ثلاثًا وثلاثين، ونحمَدَ ثلاثًا وثلاثين، ونُكَبِّرَ أربعًا وثلاثين، فتلك مائةٌ، قال: سَبِّحوا خمسًا وعِشرين، واحمَدوا خمسًا وعِشرين، وكبِّروا خمسًا وعشرين، وهَلِّلوا خمسًا وعِشرين، فتلك مائةٌ، فلمَّا أصبح ذَكَر ذلك للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: افعَلوا كما قال الأنصاريُّ)). أخرجه النسائي (1351) واللفظ له، والبزار (5919)، والطبراني في ((الدعاء)) (730). قال الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (1351): حسنٌ صحيحٌ، وحَسَّنه ابنُ حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/278)، وحَسَّن إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سير أعلام النبلاء)) (10/459).
قال ابنُ حَجَرٍ: (واستُنبِطَ مِن هذا أنَّ مُراعاةَ العَدَدِ المَخصوصِ في الأذكارِ مُعتَبَرةٌ، وإلَّا لَكان يُمكِنُ أن يُقالَ لَهم: أضيفوا لَها التَّهليلَ ثَلاثًا وثَلاثينَ، وقد كان بَعضُ العُلَماءِ يَقولُ: إنَّ الأعدادَ الوارِدةَ كالذِّكرِ عَقِبَ الصَّلَواتِ، إذا رُتِّبَ عليها ثَوابٌ مَخصوصٌ، فزادَ الآتي بها على العَدَدِ المَذكورِ، لا يَحصُلُ له ذلك الثَّوابُ المَخصوصُ؛ لاحتِمالِ أن يَكونَ لتلك الأعدادِ حِكمةٌ وخاصِّيَّةٌ تَفوتُ بمُجاوَزةِ ذلك العَدَدِ. قال شَيخُنا الحافِظُ أبو الفَضلِ في شَرحِ التِّرمِذيِّ: وفيه نَظَرٌ؛ لأنَّه أتى بالمِقدارِ الذي رُتِّبَ الثَّوابُ على الإتيانِ به، فحَصَلَ له الثَّوابُ بذلك، فإذا زادَ عليه مِن جِنسِه، كَيف تَكونُ الزِّيادةُ مُزيلةً لذلك الثَّوابِ بَعدَ حُصولِه؟ اهـ. ويُمكِنُ أن يَفتَرِقَ الحالُ فيه بالنِّيَّةِ؛ فإن نَوى عِندَ الانتِهاءِ إليه امتِثالَ الأمرِ الوارِدِ، ثُمَّ أتى بالزِّيادةِ، فالأمرُ كما قال شَيخُنا لا مَحالةَ، وإن زاد بغَيرِ نيَّةٍ بأن يَكونَ الثَّوابُ رُتِّبَ على عَشَرةٍ مَثَلًا، فرَتَّبَه هو على مِائةٍ، فيَتَّجِه القَولُ الماضي. وقد بالَغَ القَرافيُّ في القَواعِدِ [2044] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (4/ 204، 218). فقال: مِنَ البدَعِ المَكروهةِ الزِّيادةُ في المَندوباتِ المَحدودةِ شَرعًا؛ لأنَّ شَأنَ العُظَماءِ إذا حَدُّوا شَيئًا أن يوقَفَ عِندَه ويُعَدَّ الخارِجُ عنه مُسيئًا للأدَبِ. اهـ. وقد مَثَّلَه بَعضُ العُلَماءِ بالدَّواءِ يَكونُ مَثَلًا فيه أوقيَّةُ سُكَّرٍ، فلَو زيدَ فيه أوقيَّةٌ أُخرى لتَخَلَّفَ الانتِفاعُ به، فلَوِ اقتَصَرَ على الأوقيَّةِ في الدَّواءِ ثُمَّ استَعمَلَ مِنَ السُّكَّرِ بَعدَ ذلك ما شاءَ، لَم يَتَخَلَّفِ الانتِفاعُ، ويُؤَيِّدُ ذلك أنَّ الأذكارَ المُتَغايِرةَ إذا ورَدَ لكُلٍّ مِنها عَدَدٌ مَخصوصٌ مَعَ طَلَبِ الإتيانِ بجَميعِها مُتَواليةً، لَم تَحسُنِ الزِّيادةُ على العَدَدِ المَخصوصِ؛ لِما في ذلك مِن قَطعِ الموالاةِ؛ لاحتِمالِ أن يَكونَ للمُوالاةِ في ذلك حِكمةٌ خاصَّةٌ تَفوتُ بفواتِها. واللَّهُ أعلَمُ) [2045] ((فتح الباري)) (2/ 330). ويُنظر: ((تحفة الذاكرين)) للشوكاني (ص: 112، 113). .

انظر أيضا: