تمهيدٌ في أهميةِ ذِكرِ الله، وبعضِ فضائلِه
الذِّكرُ قُوتُ قَلبِ المُؤمِنِ، وبَهجةُ رُوحِه، ودَواءُ أسقامِه، والسَّبَبُ الواصِلُ بَينَه وبَينَ رَبِّه، وبابُ اللهِ الأعظَمُ المَفتوحُ بَينَه وبَينَ عَبدِه، ما لم يُغلِقْه العَبدُ بغَفلتِه، وإذا أرادَ اللهُ بعَبدِه خَيرًا حَبَّبَ إليه ذِكرَه. ومُلازَمَتُه أفضَلُ ما شَغَل به العَبدُ -في الجُملةِ- نَفسَه، وهو سِلاحُه الذي يُقاتِلُ به قُطَّاعَ طَريقِه، مَتى غَفل عنه صَرَعه عَدُوُّه.
وهو روحُ الأعمالِ الصَّالحةِ، فإذا خَلا العَمَلُ عنِ الذِّكرِ كان كالجَسَدِ الذي لا رُوحَ فيه، والذِّكرُ للقَلبِ كالماءِ للسَّمَكِ لا حَياةَ له إلَّا به.
ومَثَلُ الذي يَذكُرُ رَبَّه والذي لا يَذكُرُه مَثَلُ الحَيِّ والمَيِّتِ، ومَثَلُ أهلِ الذِّكرِ والغَفلةِ كَمَثَلِ النُّورِ والظُّلمةِ.
ومَن أحَبَّ رَبَّه أكثَرَ مِن ذِكرِه، وعلى قَدرِ لَهجِه بذِكرِه يُديمُ اللهُ عليه ألطافَ بِرِّه.
وكُلَّما ازدادَ الذَّاكِرُ في ذِكرِه استِغراقًا ازدادَ المَذكورُ مَحَبَّةً إلى لقائِه واشتياقًا، وإذا واطَأَ في ذِكرِه قَلبُه للسانِه نَسيَ في جَنبِ ذِكرِه كُلَّ شَيءٍ، وحَفِظَ اللهُ عليه كُلَّ شَيءٍ، وكان له عِوضًا مِن كُلِّ شَيءٍ.
وفي كُلِّ جارِحةٍ مِنَ الجَوارِحِ عُبوديَّةٌ مُؤَقَّتةٌ، والذِّكرُ عُبوديَّةُ القَلبِ واللِّسانِ، وهيَ غَيرُ مُؤَقَّتةٍ، بَل هم مَأمورونَ بذِكرِ مَعبودِهم ومَحبوبِهم في كُلِّ حالٍ؛ قيامًا وقُعودًا وعلى جُنوبِهم.
وبالذِّكرِ يَستَدفِعُ المُؤمِنونَ الآفاتِ، ويَستَكشِفونَ الكُرُباتِ، وتَهونُ عليهم به المُصيباتُ، إذا أظَلَّهمُ البَلاءُ فإليه مَلجَؤُهم، وإذا نَزَلت بهمُ النَّوازِلُ فإليه مَفزَعُهم، فهو رياضُ جَنَّتِهمُ التي فيها يَتَقَلَّبونَ، ورؤوسُ أموالِ سَعادَتهمُ التي بها يتَّجِرون
[1976] يُنظر: ((حلية الأولياء وطبقات الأصفياء)) لأبي نعيم (3/ 107) و(4/ 38) و(10/ 59)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/ 660)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/ 395، 396)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 451). .
هذا، وللذِّكرِ فضائِلُ كَثيرةٌ نَذكُرُ بَعضَها
[1977] ويُنظر فوائِدُ الذِّكرِ في كِتابِ: ((الوابل الصيب)) لابن القيم (ص: 41-82). :
قال الله تعالى:
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ [البقرة: 152] .
وقال تعالى:
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] .
وقال تعالى:
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت: 45] . أي: وما في الصَّلاةِ مِن ذِكرِ اللهِ أكبَرُ مِن كَونِها تنهَى عن الفَحشاءِ والمُنكَرِ
[1978] يُنظر: ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدُّرَر السَّنيَّة (23/ 569-571). قال ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ الصَّلاةَ فيها دَفعٌ للمكروهِ، وهو الفَحشاءُ والمُنكَرُ، وفيها تحصيلُ المحبوبِ، وهو ذِكرُ اللهِ، وحُصولُ هذا المحبوبِ أكبَرُ من دَفعِ المكروهِ؛ فإنَّ ذِكرَ اللهِ عبادةٌ للهِ، وعبادةُ القلبِ للهِ مقصودةٌ لذاتِها، وأمَّا اندِفاعُ الشَّرِّ عنه فهو مقصودٌ لغَيرِه على سبيلِ التَّبَعِ). ((مجموع الفتاوى)) (10/ 188). وقال أيضًا: (قولُه: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ بيانٌ لِما تتَضَمَّنُه من دفعِ المفاسِدِ والمضارِّ، وقَولُه: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ بيانٌ لِما فيها من المنفَعةِ والمصلَحةِ، أي: ذِكرُ اللهِ الذي فيها أكبَرُ من كونِها ناهيةً عن الفَحشاءِ والمنكَرِ، فإنَّ هذا هو المقصودُ لنَفسِه، كما قال: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: 9] ، والأوَّلُ تابعٌ، فهذه المنفَعةُ والمصلَحةُ أعظَمُ من دَفعِ تلك المفسَدةِ... ومَن ظَنَّ أنَّ المعنى: ولذِكرُ اللهِ أكبَرُ من الصَّلاةِ فقد أخطأ؛ فإنَّ الصَّلاةَ أفضَلُ مِنَ الذِّكرِ المجرَّدِ بالنَّصِّ والإجماعِ. والصَّلاةُ ذِكرٌ للهِ لكِنَّها ذِكرٌ على أكمَلِ الوُجوهِ، فكيف يُفَضَّلُ ذِكرُ اللهِ المُطلَقُ على أفضَلِ أنواعِه؟!). ((مجموع الفتاوى)) (20/ 192، 193). .
وقال تعالى:
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور: 36 - 38] .
عن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَثَلُ الَّذي يَذكُرُ رَبَّه والَّذي لا يَذكُرُ، مَثَلُ الحَيِّ والمَيِّتِ)) [1979] أخرجه البخاري (6407). وفي رِوايةٍ:
((مَثَلُ البَيتِ الذي يُذكَرُ اللَّهُ فيه، والبَيتِ الَّذي لا يُذكَرُ اللَّهُ فيه، مَثَلُ الحَيِّ والمَيِّتِ)) [1980] أخرجها مسلم (779). .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ يَقولُ: أنا مَعَ عَبدي إذا هو ذَكَرَني وتَحَرَّكَت بي شَفَتاه)) [1981] أخرجه البخاري معلقًا بصيغة الجزم قبل حديث (7524)، وأخرجه موصولًا ابن ماجه (3792)، وأحمد (10968) واللفظ لهما. صححه ابن حبان في ((صحيحه)) (815)، وابن حجر في ((تهذيب التهذيب)) (12/448)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3792)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (10968). .
وعنه رَضِيَ الله عنه، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((يقولُ اللهُ تعالى: أنا عند ظَنِّ عَبدي بي، وأنا معه إذا ذكَرَني؛ فإنْ ذكَرَني في نَفسِه ذكَرتُه في نفسي، وإن ذكَرَني في ملأٍ ذكَرتُه في ملأٍ خَيرٍ منه، وإن تَقَرَّبَ إليَّ بشِبرٍ تَقَرَّبتُ إليه ذِراعًا، وإن تَقَرَّبَ إليَّ ذِراعًا تَقَرَّبتُ إليه باعًا، وإن أتاني يَمشي أتَيتُه هَرولةً)) [1982] أخرجه البخاري (7405) واللفظ له، ومسلم (2675). .
وعن مُعاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((سَألتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّ الأعمالِ أحَبُّ إلى اللهِ؟ قال: أن تَموتَ ولسانُك رَطبٌ مِن ذِكرِ اللهِ)) [1983] أخرجه ابن حبان (818)، والطبراني (20/107) (212) واللفظ لهما، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (513). صَحَّحه ابنُ حبان، وحَسَّنه ابنُ حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/94)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (165). .
وعن ثَوبانَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((لمَّا نَزَلت وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ [التوبة: 34] قال: كُنَّا مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بَعضِ أسفارِه، فقال بَعضُ أصحابِه: أُنزِلَت في الذَّهَبِ والفِضَّةِ، لو عَلِمنا أيُّ المالِ خَيرٌ فنَتَّخِذُه؟ فقال: أفضَلُه لسانٌ ذاكِرٌ، وقَلبٌ شاكِرٌ، وزَوجةٌ مُؤمِنةٌ تُعينُه على إيمانِه)) [1984] أخرجه الترمذي (3094) واللفظ له، وأحمد (22392). صَحَّحه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (1913)، وحَسَّنه الترمذي، وحَسَّنه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22392). .
هذا، وللذِّكرِ آدابٌ يَنبَغي على المُسلمِ أن يُراعيَها، وفيما يَلي نَذكُرُ أهَمَّ هذه الآدابِ:
انظر أيضا:
عرض الهوامش