ثامنًا: خَفضُ الصَّوتِ
مِن آدابِ الدعاءِ: خفضُ الصوتِ
[2143] يُنظر: ((المنهاج في شعب الإيمان)) للحليمي (1/ 535)، ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (1/ 305). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ:أ- من الكِتابِ1- قال تعالى:
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف: 55] .
فيه أن الدُّعاءَ الخفِيَّ أفضَلُ وأعظَمُ مِنَ الدُّعاءِ الذي هو جَهرٌ وعلانِيَةٌ؛ وذلك لأنَّ إخفاءَ الدُّعاءِ أبعَدُ مِنَ الرِّياءِ، ولأنَّه يدلُّ على ثِقَةِ العَبدِ بأنَّ رَبَّه عالِمٌ بما خَفِيَ وما ظَهَرَ، لا يخفى عليه شيءٌ
[2144] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/399). .
2- قال تعالى:
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم: 2-3] .
3- قال تعالى:
وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا [الإسراء: 110] .
أي: ولا تَجهَرْ بدُعائِك ولا تُخافِتْ به، ولكِنْ بَينَ ذلك. وذلك على القَولِ بأنَّ المُرادَ بالصَّلاةِ في هذا المَوضِعِ: الدُّعاءُ
[2145] يُنظر: ((جامع البيان)) للطبري (15/ 125). .
ب- مِنَ السُّنَّةِعن أبي موسى رَضيَ اللهُ عنه، قال:
((كُنَّا مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَفَرٍ، فجَعل النَّاسُ يَجهَرونَ بالتَّكبيرِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّها النَّاسُ ارْبَعوا [2146] ارْبَعوا -بهَمزةِ وَصلٍ وفَتحِ الباءِ-: أيِ: ارفُقوا ولا تُجهِدوا أنفُسَكُم، يُريدُ: أمسِكوا عنِ الجَهرِ، وقِفوا عنه، وأصلُ هذه الكَلِمةِ مِن قَولِك: رَبَع الرَّجُلُ بالمَكانِ: إذا وقَف عن السَّيرِ وأقامَ به. ويُقالُ للرَّجُلِ: اربَعْ على نَفسِك، واربَعْ عليك، أي: قِفْ. وقيل: مَعناه: ارفُقْ بنَفسِك. ويُقالُ: مَعناه: انتَظِرْ. يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (2/ 1424)، ((فتح الباري)) لابن حجر (11/ 188). على أنفُسِكُم؛ إنَّكُم ليس تَدعونَ أصَمَّ ولا غائِبًا، إنَّكُم تَدْعونَ سَميعًا قَريبًا، وهو مَعَكُم)) [2147] أخرجه البخاري (2992)، ومسلم (2704) واللفظ له. .
فائدةٌ:قال ابنُ تيميَّةَ: (في إخفاءِ الدُّعاءِ فوائِدُ عَديدةٌ:
أحَدُها: أنَّه أعظَمُ إيمانًا؛ لأنَّ صاحِبَه يَعلَمُ أنَّ اللَّهَ يَسمَعُ الدُّعاءَ الخَفيَّ.
وثانيها: أنَّه أعظَمُ في الأدَبِ والتَّعظيمِ؛ لأنَّ المُلوكَ لا تُرفَعُ الأصواتُ عِندَهم، ومَن رَفعَ صَوتَه لَدَيهم مَقَتوه، وللهِ المَثَلُ الأعلى، فإذا كان يَسمَعُ الدُّعاءَ الخَفيَّ فلا يَليقُ بالأدَبِ بَينَ يَدَيه إلَّا خَفضُ الصَّوتِ به.
وثالثُها: أنَّه أبلَغُ في التَّضَرُّعِ والخُشوعِ الذي هو رُوحُ الدُّعاءِ ولُبُّه ومَقصودُه؛ فإنَّ الخاشِعَ الذَّليلَ إنَّما يَسألُ مَسألةَ مِسكينٍ ذَليلٍ قدِ انكَسَرَ قَلبُه، وذَلَّت جَوارِحُه، وخَشَعَ صَوتُه؛ حَتَّى إنَّه ليَكادُ تَبلُغُ ذِلَّتُه وسَكينَتُه وضَراعَتُه إلى أن يَنكَسِرَ لسانُه فلا يُطاوِعَه بالنُّطقِ، وقَلبُه يَسألُ طالبًا مُبتَهِلًا ولسانُه لشِدَّةِ ذِلَّتِه ساكِتٌ، وهذه الحالُ لا تَأتي مَعَ رَفعِ الصَّوتِ بالدُّعاءِ أصلًا.
ورابعُها: أنَّه أبلَغُ في الإخلاصِ.
وخامِسُها: أنَّه أبلَغُ في جَمعيَّةِ القَلبِ على الذِّلَّةِ في الدُّعاءِ؛ فإنَّ رَفعَ الصَّوتِ يُفرِّقُه، فكُلَّما خَفضَ صَوتَه كان أبلَغَ في تَجريدِ همَّتِه وقَصدِه للمَدعوِّ سُبحانَه.
وسادِسُها -وهو مِنَ النُّكَتِ البَديعةِ جِدًّا-: أنَّه دالٌّ على قُربِ صاحِبِه للقَريبِ، لا مَسألةَ نِداءِ البَعيدِ للبَعيدِ؛ ولهذا أثنى اللهُ على عَبدِه زَكَريَّا بقَولِه عَزَّ وجَلَّ:
إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم: 3] . فلَمَّا استَحضَرَ القَلبُ قُربَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ وأنَّه أقرَبُ إليه مِن كُلِّ قَريبٍ، أخفى دُعاءَه ما أمكَنَه. وقد أشارَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى المَعنى بعَينِه بقَولِه في الحَديثِ الصَّحيحِ:
((لمَّا رَفعَ الصَّحابةُ أصواتَهم بالتَّكبيرِ وهم مَعَه في السَّفَرِ، فقال: ارْبَعوا على أنفُسِكُم؛ فإنَّكُم لا تَدْعونَ أصَمَّ ولا غائِبًا، إنَّكُم تَدْعونَ سَميعًا قَريبًا، إنَّ الذي تَدعونَه أقرَبُ إلى أحَدِكُم مِن عُنُقِ راحِلَتِه)). وقد قال تعالى:
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ، وهذا القُربُ مِنَ الدَّاعي هو قُربٌ خاصٌّ ليس قُربًا عامًّا مِن كُلِّ أحَدٍ، فهو قَريبٌ مِن داعيه، وقَريبٌ مِن عابِديه، وأقرَبُ ما يَكونُ العَبدُ مِن رَبِّه وهو ساجِدٌ. وقَولُه تعالى
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً فيه الإرشادُ والإعلامُ بهذا القُربِ.
وسابعُها: أنَّه أدعى إلى دَوامِ الطَّلَبِ والسُّؤالِ؛ فإنَّ اللِّسانَ لا يَمَلُّ، والجَوارِحَ لا تَتعَبُ، بخِلافِ ما إذا رَفعَ صَوتَه؛ فإنَّه قد يَكِلُّ اللِّسانُ وتَضعُفُ قُواه، وهذا نَظيرُ مَن يَقرَأُ ويُكَرِّرُ، فإذا رَفعَ صَوتَه فإنَّه لا يَطولُ له، بخِلافِ مَن خَفَضَ صَوتَه.
وثامِنُها: أنَّ إخفاءَ الدُّعاءِ أبعَدُ له مِنَ القَواطِعِ والمُشَوِّشاتِ؛ فإنَّ الدَّاعيَ إذا أخفى دُعاءَه لَم يَدرِ به أحَدٌ، فلا يَحصُلُ على هذا تَشويشٌ ولا غَيرُه، وإذا جَهَرَ به فرَطَت له الأرواحُ البَشَريَّةُ ولا بُدَّ، ومانَعَته وعارَضَته، ولَو لَم يَكُنْ إلَّا أنَّ تَعَلُّقَها به يُفَرِّقُ عليه همَّتَه، فيَضعُفُ أثَرُ الدُّعاءِ لكفى، ومَن له تَجرِبةٌ يَعرِفُ هذا، فإذا أسَرَّ الدُّعاءَ أمِنَ هذه المَفسَدةَ.
وتاسِعُها: أنَّ أعظَمَ النِّعمةِ الإقبالُ والتَّعَبُّدُ، ولكُلِّ نِعمةٍ حاسِدٌ على قَدرِها دَقَّت أو جَلَّت، ولا نِعمةَ أعظَمُ مِن هذه النِّعمةِ؛ فإنَّ أنفُسَ الحاسِدينَ مُتَعَلِّقةٌ بها، وليس للمَحسودِ أسلَمُ مِن إخفاءِ نِعمَتِه عنِ الحاسِدِ. وقد قال يَعقوبُ ليوسُفَ عليهما السَّلامُ:
لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا الآية. وكَم مِن صاحِبِ قَلبٍ وجَمعيَّةٍ وحالٍ مَعَ اللهِ تعالى قد تَحَدَّثَ بها وأخبَرَ بها فسَلَبَه إيَّاها الأغيار! ولهذا يوصي العارِفونَ والشُّيوخُ بحِفظِ السِّرِّ مَعَ اللهِ تعالى، ولا يَطَّلعُ عليه أحَدٌ، والقَومُ أعظَمُ شَيئًا كِتمانًا لأحوالِهم مَعَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ وما وهَبَ اللهُ مِن مَحَبَّتِه والأُنسِ به وجَمعيَّةِ القَلبِ، ولا سيَّما فِعلِه للمُهتَدي السَّالكِ، فإذا تَمَكَّنَ أحَدُهم وقَويَ، وثَبَّتَ أُصولَ تلك الشَّجَرةِ الطَّيِّبةِ -التي أصلُها ثابتٌ وفَرعُها في السَّماءِ- في قَلبِه، بحَيثُ لا يخشى عليه مِنَ العَواصِفِ؛ فإنَّه إذا أبدى حالَه مَعَ اللهِ تعالى ليُقتَدى به ويُؤتَمَّ به لَم يُبالِ. وهذا بابٌ عَظيمُ النَّفعِ إنَّما يَعرِفُه أهلُه. وإذا كان الدُّعاءُ المَأمورُ بإخفائِه يَتَضَمَّنُ دُعاءَ الطَّلَبِ والثَّناءَ والمَحَبَّةَ والإقبالَ على اللهِ تعالى، فهو مِن عَظيمِ الكُنوزِ التي هيَ أحَقُّ بالإخفاءِ عن أعيُنِ الحاسِدينَ، وهذه فائِدةٌ شَريفةٌ نافِعةٌ.
وعاشِرُها: أنَّ الدُّعاءَ هو ذِكرٌ للمَدعوِّ سُبحانَه وتعالى، مُتَضَمِّنٌ للطَّلَبِ والثَّناءِ عليه بأوصافِه وأسمائِه، فهو ذِكرٌ وزيادةٌ، كما أنَّ الذِّكرَ سُمِّيَ دُعاءً لتَضَمُّنِه للطَّلَبِ، كما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أفضَلُ الدُّعاءِ الحَمدُ للهِ)) [2148] أخرجه الترمذي (3383)، وابن ماجه (3800) مِن حَديثِ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما، ولَفظُه: ((أفضَلُ الذِّكرِ لا إلَهَ إلَّا اللهُ، وأفضَلُ الدُّعاءِ الحَمدُ للهِ)). صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (846)، وحَسَّنه ابنُ حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/63)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3383)، وصحَّح إسنادَه الحاكم في ((المستدرك)) (1858)، وحَسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (846). ، فسَمَّى الحَمدَ للهِ دُعاءً، وهو ثَناءٌ مَحضٌ؛ لأنَّ الحَمدَ مُتَضَمِّنٌ الحُبَّ والثَّناءَ، والحُبُّ أعلى أنواعِ الطَّلَبِ؛ فالحامِدُ طالِبٌ للمَحبوبِ، فهو أحَقُّ أن يُسَمَّى داعيًا مِنَ السَّائِلِ الطَّالِبِ؛ فنَفسُ الحَمدِ والثَّناءِ مُتَضَمِّنٌ لأعظَمِ الطَّلَبِ، فهو دُعاءٌ حَقيقةً، بَل أحَقُّ أن يُسَمَّى دُعاءً مِن غَيرِه مِن أنواعِ الطَّلَبِ الذي هو دونَه.
والمَقصودُ: أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ الدُّعاءِ والذِّكرِ يَتَضَمَّنُ الآخَرَ ويَدخُلُ فيه، وقد قال تعالى:
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً، فأمَرَ تعالى نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَذكُرَه في نَفسِه.
قال مُجاهِدٌ وابنُ جُرَيجٍ: أُمِروا أن يَذكُروه في الصُّدورِ بالتَّضَرُّعِ والاستِكانةِ دونَ رَفعِ الصَّوتِ والصِّياحِ.
وتَأمَّلْ كَيف قال في آيةِ الذِّكرِ:
وَاذْكُرْ رَبَّكَ الآيةَ، وفي آيةِ الدُّعاءِ:
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً، فذَكَر التَّضَرُّعَ فيهما مَعًا، وهو التَّذَلُّلُ والتَّمَسكُنُ والانكِسارُ، وهو رُوحُ الذِّكرِ والدُّعاءِ. وخُصَّ الدُّعاءُ بالخُفيةِ لِما ذَكَرنا مِنَ الحِكَمِ وغَيرِها، وخُصَّ الذِّكرُ بالخِيفةِ لحاجةِ الذَّاكِرِ إلى الخَوفِ؛ فإنَّ الذِّكرَ يَستَلزِمُ المَحَبَّةَ ويُثمِّرُها، ولا بُدَّ لمَن أكثَرَ مِن ذِكرِ اللهِ أن يُثمِرَ له ذلك مَحَبَّتَه، والمَحَبَّةُ ما لَم تَقتَرِنْ بالخَوفِ فإنَّها لا تَنفَعُ صاحِبَها بَل تَضُرُّه؛ لأنَّها توجِبُ التَّوانيَ والانبِساطَ، ورُبَّما آلَت بكَثيرٍ مِنَ الجُهَّالِ المَغرورينَ إلى أنِ استَغنَوا بها عنِ الواجِباتِ، وقالوا: المَقصودُ مِنَ العِباداتِ إنَّما هو عِبادةُ القَلبِ وإقبالُه على اللهِ، ومَحَبَّتُه له، فإذا حَصَلَ المَقصودُ فالاشتِغالُ بالوسيلةِ باطِلٌ!...
فتَأمَّلْ أسرارَ القُرآنِ وحِكمَتَه في اقتِرانِ الخيفةِ بالذِّكرِ، والخُفيةِ بالدُّعاءِ، مَعَ دَلالَتِه على اقتِرانِ الخُفيةِ بالدُّعاءِ، والخيفةِ بالذِّكرِ أيضًا، وذُكِرَ الطَّمَعُ الذي هو الرَّجاءُ في آيةِ الدُّعاءِ؛ لأنَّ الدُّعاءَ مَبنيٌّ عليه؛ فإنَّ الدَّاعيَ ما لَم يَطمَعْ في سُؤالِه ومَطلوبِه لَم تَتَحَرَّكْ نَفسُه لطَلَبِه؛ إذ طَلَبُ ما لا طَمَعَ له فيه مُمتَنِعٌ، وذُكِر الخَوفُ في آيةِ الذِّكرِ لشِدَّةِ حاجةِ الخائِفِ)
[2149] ((مجموع الفتاوى)) (15/ 15-21). .