موسوعة الآداب الشرعية

سادسَ عشرَ: تَركُ التَّعَدِّي في الدُّعاءِ


من آدابِ الدُّعاءِ: تَركُ التَّعَدِّي فيه [2185] مِنَ الاعتداءِ في الدُّعاءِ ما هو خاصٌّ باللَّفظِ، كالتكَلُّفِ والسَّجعِ، والمبالغةِ في رَفعِ الصَّوتِ؛ فقد صَحَّ النَّهيُ عن ذلك، ومنها ما هو خاصٌّ بالمعنى، وهو طلَبُ غيرِ المَشروعِ مِن وَسائِلِ المعاصي ومَقاصِدِها- كضرَرِ العِبادِ، وأسبابِ الفَسادِ- وطلَبُ المُحالِ الشَّرعيِّ أو العَقليِّ، كطلَبِ إبطالِ سُنَنِ اللهِ في الخَلقِ، وتبديلِها أو تَحويلِها، ومنه طلَبُ النَّصرِ على الأعداءِ مَع تَركِ وسائِلِه- كأنواعِ السِّلاحِ والنِّظامِ- والغِنى بدونِ كَسْبٍ، والمغفرةِ مع الإصرارِ على الذَّنبِ. واللهُ تعالى يقولُ: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا. يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/408، 409). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ:
أ- من الكِتابِ
- قال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 55-56] .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي نعامةَ، أنَّ عَبدَ اللهِ بنَ مُغَفَّلٍ سَمِعَ ابنَه يَقولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أسألُك القَصرَ الأبيَضَ عن يَمينِ الجَنَّةِ إذا دَخَلتُها، فقال: أي بُنَيَّ، سَلِ اللَّهَ الجَنَّةَ، وتَعَوَّذْ به مِنَ النَّارِ؛ فإنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إنه سيَكونُ في هذه الأُمَّةِ قَومٌ يَعتَدونَ في الطُّهورِ والدُّعاءِ)) [2186] أخرجه أبو داود (96) واللفظ له، وابن ماجه (3864)، وأحمد (16801). صححه ابن حبان في ((صحيحه)) (6763)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (2/599)، وابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (1/223)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (96). .
2- عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((قامَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في صَلاةٍ وقُمنا مَعَه، فقال أعرابيٌّ وهو في الصَّلاةِ: اللَّهُمَّ ارحَمني ومُحَمَّدًا، ولا تَرحَمْ مَعنا أحَدًا! فلَمَّا سَلَّمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال للأعرابيِّ: لقد حَجَّرتَ [2187] حَجَّرتَ واسِعًا: أي: ضَيَّقتَ ما وسَّعَه اللَّهُ، وخَصَصتَ به نَفسَك دونَ غَيرِك، مِن قَولِهم: حَجَّرَ فلانٌ: إذا اتَّخَذَ له على أرضٍ حِجارةً مُحدِقةً بها، والمَعنى: أنَّ رَحمةَ اللهِ تعالى واسِعةٌ لكُلِّ شَيءٍ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (4/ 523) و (7/ 86)، ((النهاية)) لابن الأثير (1/ 342). واسِعًا! يُريدُ: رَحمةَ اللهِ)) [2188] أخرجه البخاري (6010). .
3- عن أبي موسى رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((كُنَّا مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَفَرٍ، فجَعَل النَّاسُ يَجهَرونَ بالتَّكبيرِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّها النَّاسُ ارْبَعوا [2189] ارْبَعوا -بهَمزةِ وَصلٍ وفَتحِ الباءِ-: أي: ارْفُقوا ولا تُجهِدوا أنفُسَكم. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (11/188). على أنفُسِكُم، إنَّكُم ليس تَدعونَ أصَمَّ ولا غائِبًا، إنَّكُم تَدعونَ سَميعًا قَريبًا، وهو مَعَكُم)) [2190] أخرجه البخاري (2992)، ومسلم (2704) واللفظ له. .
فائدةٌ:
قال ابن تيمية: (وقَولُه تعالى: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ قيلَ: المُرادُ أنَّه لا يُحِبُّ المُعتَدينَ في الدُّعاءِ، كالذي يَسألُ ما لا يَليقُ به مِن مَنازِلِ الأنبياءِ وغَيرِ ذلك. وقد رَوى أبو داوُدَ في سُنَنِه عن عَبدِ اللهِ بنِ مُغَفَّلٍ أنَّه سَمِعَ ابنَه يَقولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أسألُك القَصرَ الأبيَضَ عن يَمينِ الجَنَّةِ إذا دَخَلتُها، فقال: أي بُنَيَّ، سَلِ اللَّهَ الجَنَّةَ، وتَعَوَّذْ به مِنَ النَّارِ؛ فإنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إنه سيَكونُ في هذه الأُمَّةِ قَومٌ يَعتَدونَ في الطُّهورِ والدُّعاءِ)) [2191] أخرجه أبو داود (96) واللفظ له، وابن ماجه (3864)، وأحمد (16801). صححه ابن حبان في ((صحيحه)) (6763)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (2/599)، وابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (1/223)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (96). .
وعَلى هذا فالاعتِداءُ في الدُّعاءِ تارةً بأن يَسألَ ما لا يَجوزُ له سُؤالُه مِنَ المَعونةِ على المُحَرَّماتِ، وتارةً يَسألُ ما لا يَفعَلُه اللهُ، مِثلُ أن يَسألَ تَخليدَه إلى يَومِ القيامةِ، أو يَسألَه أن يَرفعَ عنه لَوازِمَ البَشَريَّةِ مِنَ الحاجةِ إلى الطَّعامِ والشَّرابِ، ويَسألَه بأن يُطلِعَه على غَيبِه، أو أن يَجعَلَه مِنَ المَعصومينَ، أو يَهبَ له ولَدًا مِن غَيرِ زَوجةٍ، ونَحوَ ذلك مِمَّا سُؤالُه اعتِداءٌ لا يُحِبُّه اللهُ ولا يُحِبُّ سائِلَه. وفُسِّرَ الاعتِداءُ برَفعِ الصَّوتِ أيضًا في الدُّعاءِ. وبَعدُ؛ فالآيةُ أعَمُّ مِن ذلك كُلِّه، وإن كان الاعتِداءُ بالدُّعاءِ مُرادًا بها فهو مِن جُملةِ المُرادِ، واللَّهُ لا يُحِبُّ المُعتَدينَ في كُلِّ شَيءٍ، دُعاءً كان أو غَيرَه، كما قال تعالى: وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وعَلى هذا فيَكونُ أمَرَ بدُعائِه وعِبادَتِه، وأخبَرَ أنَّه لا يُحِبُّ أهلَ العُدوانِ وهم يَدعونَ مَعَه غَيرَه، فهؤلاء أعظَمُ المُعتَدينَ عُدوانًا؛ فإنَّ أعظَمَ العُدوانِ الشِّرك، وهو وضعُ العِبادةِ في غَيرِ مَوضِعِها، فهذا العُدوانُ لا بُدَّ أن يَكونَ داخِلًا في قَولِه تعالى: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، ومِنَ العُدوانِ أن يَدعوَه غَيرَ مُتَضَرِّعٍ، بَل دُعاءُ هذا كالمُستَغني المُدلي على رَبِّه، وهذا مِن أعظَمِ الاعتِداءِ لمُنافاتِه لدُعاءِ الذَّليلِ، فمَن لَم يَسألْ مَسألةَ مِسكينٍ مُتَضَرِّعٍ خائِفٍ فهو مُعتَدٍ. ومِنَ الاعتِداءِ أن يَعبُدَه بما لَم يَشرَعْ، ويُثنيَ عليه بما لَم يُثنِ به على نَفسِه ولا أَذِنَ فيه؛ فإنَّ هذا اعتِداءٌ في دُعائِه: الثَّناءِ والعِبادةِ، وهو نَظيرُ الاعتِداءِ في دُعاءِ المَسألةِ والطَّلَبِ. وعَلى هذا فتَكونُ الآيةُ دالَّةً على شَيئَينِ: أحَدُهما: مَحبوبٌ للرَّبِّ سُبحانَه، وهو الدُّعاءُ تَضَرُّعًا وخُفيةً. الثَّاني: مَكروهٌ له مَسخوطٌ، وهو الاعتِداءُ، فأمَرَ بما يُحِبُّه ونَدَبَ إليه، وحَذَّرَ مِمَّا يُبغِضُه وزَجَر عنه بما هو أبلَغُ طُرُقِ الزَّجرِ والتَّحذيرِ، وهو لا يُحِبُّ فاعِلَه، ومَن لا يُحِبُّه اللهُ فأيُّ خَيرٍ يَنالُه؟ وقَولُه تعالى: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ عَقيبَ قَولِه: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً دَليلٌ على أنَّ مَن لَم يَدعُه تَضَرُّعًا وخُفيةً فهو مِنَ المُعتَدينَ الذينَ لا يُحِبُّهم؛ فقَسَّمَتِ الآيةُ النَّاسَ إلى قِسمَينِ: داعٍ للهِ تَضَرُّعًا وخُفيةً، ومُعتَدٍ بتَركِ ذلك) [2192] ((مجموع الفتاوى)) (15/ 22). .

انظر أيضا: