موسوعة الآداب الشرعية

عاشرًا: الوَرَعُ وأكلُ الحلالِ


يَنبَغي لطالِبِ العِلمِ أن يَكونَ وَرِعًا، وأن يُطَيِّبَ مَطعَمَه [2315] قال ابنُ جَماعةَ: (أن يَأخُذَ نَفسَه بالورَعِ في جَميعِ شَأنِه ويَتَحَرَّى الحَلالَ في طَعامِه وشَرابِه ولباسِه ومَسكَنِه وفي جَميعِ ما يَحتاجُ إليه هو وعِيالُه ليَستَنيرَ قَلبُه ويَصلُحَ لقَبولِ العِلمِ ونورِه والنَّفعِ به، ولا يَقنَعَ لنَفسِه بظاهرِ الحِلِّ شَرعًا مَهما أمكَنَه التَّورُّعُ ولم تُلجِئْه حاجةٌ، أو يَجعَلَ حَظَّه الجَوازَ، بَل يَطلُبُ الرُّتبةَ العاليةَ، ويَقتَدي بمَن سَلف مِنَ العُلماءِ الصَّالحينَ في التَّورُّعِ عن كَثيرٍ مِمَّا كانوا يُفتونَ بجَوازِه، وأحَقُّ مَنِ اقتُديَ به في ذلك سَيِّدُنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ حَيثُ لم يَأكُلِ التَّمرةَ التي وجَدَها في الطَّريقِ خَشيةَ أن تَكونَ مِنَ الصَّدَقةِ؛ عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: مَرَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بتَمرةٍ في الطَّريقِ، قال: لولا أنِّي أخافُ أن تَكونَ مِنَ الصَّدَقةِ لأكَلتُها)) [أخرجه البخاري (2431) واللَّفظُ له، ومسلم (1071)]. مَعَ بُعدِ كَونِها مِنها، ولأنَّ أهلَ العِلمِ يُقتَدى بهم ويُؤخَذُ عنهم، فإذا لم يَستَعمِلوا الوَرَعَ فمَن يَستَعمِلُه؟!). ((تذكرة السامع والمتكلم)) (ص: 91). .
فائِدةٌ في أكلِ الحلالِ دونَ الشِّبَعِ:
قال ابنُ جَماعةَ: (مِن أعظَمِ الأسبابِ المُعينةِ على الاشتِغالِ والفَهمِ وعَدَمِ المَلالِ أكلُ القَدرِ اليَسيرِ مِنَ الحَلالِ...
وسَبَبُ ذلك أنَّ كَثرةَ الأكلِ جالبةٌ لكَثرةِ الشُّربِ، وكَثرتُه جالِبةٌ للنَّومِ والبَلادةِ وقُصورِ الذِّهنِ وفُتورِ الحَواسِّ وكَسَلِ الجِسمِ، هذا مَعَ ما فيه مِنَ الكَراهيةِ الشَّرعيَّةِ والتَّعَرُّضِ لخَطَرِ الأسقامِ البَدَنيَّةِ، كما قيل:
فإنَّ الدَّاءَ أكثَرُ ما تَراه ... يَكونُ مِنَ الطَّعامِ أوِ الشَّرابِ
ولم يُرَ أحَدٌ مِنَ الأولياءِ والأئِمَّةِ العُلماءِ يَتَّصِفُ أو يوصَفُ بكَثرةِ الأكلِ ولا حُمِدَ به، وإنَّما يُحمَدُ كَثرةُ الأكلِ مِنَ الدَّوابِّ التي لا تَعقِلُ، بَل هيَ مُرصَدةٌ للعَمَلِ، والذِّهنُ الصَّحيحُ أشرَفُ مِن تَبديدِه وتَعطيلِه بالقَدرِ الحَقيرِ مِن طَعامٍ يَؤولُ أمرُه إلى ما قد عُلِمَ، ولو لم يَكُنْ مِن آفاتِ كَثرةِ الطَّعامِ والشَّرابِ إلَّا الحاجةُ إلى كَثرةِ دُخولِ الخَلاءِ لكان يَنبَغي للعاقِلِ اللَّبيبِ أن يَصونَ نَفسَه عنه، ومَن رامَ الفلاحَ في العِلمِ وتَحصيلَ البُغيةِ مِنه مَعَ كَثرةِ الأكلِ والشُّربِ والنَّومِ، فقد رامَ مُستَحيلًا في العادةِ.
والأَولى أن يَكونَ أكثَرَ ما يَأخُذُ مِنَ الطَّعامِ ما ورَدَ في الحَديثِ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ما مَلأ ابنُ آدَمَ وِعاءً شَرًّا مِن بَطنِه، بحَسْبِ ابنِ آدَمَ لُقَيماتٌ يُقِمنَ صُلبَه، فإن كان لا مَحالةَ فثُلُثٌ لطَعامِه، وثُلُثٌ لشَرابِه، وثُلُثٌ لنَفسِه» رَواه التِّرمذيُّ [2316] أخرجه الترمذي (2380)، وابن ماجه (3349)، وأحمد (17186) من حديثِ المِقدامِ بنِ مَعدِي كَرِبَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ الترمذيِّ: ((ما مَلأ آدَميٌّ وِعاءً شَرًّا مِن بَطنٍ؛ بحَسْبِ ابنِ آدَمَ أكَلاتٌ يُقِمنَ صُلبَه، فإن كان لا مَحالةَ فثُلثٌ لطَعامِه وثُلُثٌ لشَرابِه وثُلُثٌ لنَفَسِه)). صَحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (5236)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2380)، وقال الترمذي: حسن صحيح، وحَسَّنه البغوي في ((شرح السنة)) (7/293)، وابن باز في ((التعليقات البازية)) (554). .
فإن زاد على ذلك فالزِّيادةُ إسرافٌ خارِجٌ عنِ السُّنَّةِ، وقد قال اللهُ تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا [الأعراف: 31]، قال بَعضُ العُلماءِ: جَمَعَ اللَّهُ بهذه الكَلِماتِ الطِّبَّ كُلَّه) [2317] ((تذكرة السامع والمتكلم)) (ص: 90، 91). .

انظر أيضا: