موسوعة الآداب الشرعية

أولًا: الإخلاصُ


يَنبَغي لطالِبِ العِلمِ أن يَستَحضِرَ النِّيَّةَ، ويَقصِدَ بتَعَلُّمِه وَجهَ اللهِ تعالى [2280] يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (2/ 170)، ((المجموع شرح المهذب)) للنووي (1/ 28). قال الشَّافِعيُّ: (كُلُّ ما أُنزِلَ في كِتابِه جَلَّ ثَناؤُه رَحمةٌ وحُجَّةٌ، عَلِمَه مَن عَلِمَه، وجَهِلَه مَن جَهِلَه... فحَقٌّ على طَلبةِ العِلمِ بُلوغُ غايةِ جُهدِهم في الاستِكثارِ مِن عِلمِه، والصَّبرُ على كُلِّ عارِضٍ دونَ طَلَبِه، وإخلاصُ النِّيَّةِ للهِ في استِدراكِ عِلمِه نَصًّا واستِنباطًا، والرَّغبةُ إلى اللهِ في العَونِ عليه؛ فإنَّه لا يُدرَكُ خَيرٌ إلَّا بعَونِه). ((الرسالة)) (1/ 19). وقال الماوَرديُّ: (... ويَقصِدُ طَلبَ العِلمِ واثِقًا بتَيسيرِ اللهِ، قاصِدًا وجهَ اللهِ تعالى بنيَّةٍ خالصةٍ وعَزيمةٍ صادِقةٍ، وليَحذَرْ أن يَطلُبَه لمِراءٍ أو رياءٍ؛ فإنَّ المُماريَ به مَهجورٌ لا يَنتَفِعُ، والمُرائيَ به مَحقورٌ لا يَرتَفِعُ. واعلَمْ أنَّ لكُلِّ مَطلوبٍ باعِثًا، والباعِثُ على المَطلوبِ شَيئانِ: رَغبةٌ أو رَهبةٌ، فليَكُنْ طالبُ العِلمِ راغِبًا راهبًا، أمَّا الرَّغبةُ ففي ثَوابِ اللهِ تعالى لطالبي مَرضاتِه، وحافِظي مُفتَرَضاتِه. وأمَّا الرَّهبةُ فمِن عِقابِ اللهِ تعالى لتارِكي أوامِرِه، ومُهمِلي زواجرِه. فإذا اجتَمَعَتِ الرَّغبةُ والرَّهبةُ أدَّيا إلى كُنهِ العِلمِ وحَقيقةِ الزُّهدِ؛ لأنَّ الرَّغبةَ أقوى الباعِثَينِ على العِلمِ، والرَّهبةُ أقوى السَّبَبَينِ في الزُّهدِ). ((أدب الدنيا والدين)) (ص: 47، 48). وقال الزَّرنوجيُّ: (لا بُدَّ له مِنَ النِّيَّةِ في زَمانِ تَعَلُّمِ العِلمِ؛ إذِ النِّيَّةُ هيَ الأصلُ في جَميعِ الأفعالِ؛ لقَولِه عَليه السَّلامُ: «إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ». ويَنبَغي أن يَنويَ المُتَعَلِّمُ بطَلَبِ العِلمِ رِضاءَ اللهِ والدَّارَ الآخِرةَ، وإزالةَ الجَهلِ عن نَفسِه وعن سائِرِ الجُهَّالِ، وإحياءَ الدِّينِ وإبقاءَ الإسلامِ؛ فإنَّ بَقاءَ الإسلامِ بالعِلمِ، ولا يَصِحُّ الزُّهدُ والتَّقوى مَعَ الجَهلِ). ((تعليم المتعلم طريق التعلم)) (ص: 66). وقال ابنُ الصَّلاحِ في آدابِ طالِبِ الحَديثِ: (أوَّلُ ما عليه: تَحقيقُ الإخلاصِ، والحَذَرُ مِن أن يَتَّخِذَه وُصلةً إلى شَيءٍ مِنَ الأغراضِ الدُّنيَويَّةِ). ((معرفة أنواع علوم الحديث)) (ص: 245). وقال ابنُ جَماعةَ في آدابِ طالِبِ العِلمِ في نَفسِه: (... حُسنُ النِّيَّةِ في طَلَبِ العِلمِ بأن يَقصِدَ به وَجهَ اللهِ تعالى، والعَمَلَ به وإحياءَ الشَّريعةِ، وتَنويرَ قَلبِه، وتَحليةَ باطِنِه، والقُربَ مِنَ اللهِ تعالى يَومَ القيامةِ، والتَّعَرُّضَ لِما أعَدَّ لأهلِه مِن رِضوانِه وعَظيمِ فَضلِه. قال سُفيانُ الثَّوريُّ: "ما عالجتُ شَيئًا أشَدَّ عَليَّ مِن نيَّتي". ولا يَقصِدَ به الأغراضَ الدُّنيَويَّةَ مِن تَحصيلِ الرِّياسةِ والجاهِ والمالِ، ومُباهاةِ الأقرانِ، وتَعظيمِ النَّاسِ له، وتَصديرِه في المَجالسِ، ونَحوِ ذلك، فيَستَبدِلَ الأدنى بالذي هو خَيرٌ. قال أبو يوسُفَ: "أريدوا بعِلمِكُمُ اللَّهَ تعالى؛ فإنِّي لم أجلِسْ مَجلسًا قَطُّ أنوي فيه أن أتَواضَعَ إلَّا لم أقُمْ حتَّى أعلوَهم، ولم أجلِسْ مَجلسًا قَطُّ أنوي فيه أن أعلوَهم إلَّا لم أقُمْ حتَّى أفتَضِحَ". والعِلمُ عِبادةٌ مِنَ العِباداتِ وقُربةٌ مِنَ القُرَبِ، فإن خَلصَت فيه النِّيَّةُ قُبِل وزَكا ونَمَت بَرَكَتُه، وإن قَصِدَ به غَيرَ وَجهِ اللهِ تعالى حَبِطَ وضاعَ، وخَسِرَت صَفقَته، ورُبَّما تَفوتُه تلك المَقاصِدُ ولا يَنالُها؛ فيَخيبُ قَصدُه، ويَضيعُ سَعيُه)) ((تذكرة السامع والمتكلم)) (ص: 86، 87). وقال السِّعديُّ: (يَتَعَيَّنُ على أهلِ العِلمِ مِنَ المُتَعَلِّمينَ والمُعَلِّمينَ أن يَجعَلوا أساسَ أمرِهمُ الذي يَبنونَ عَليه حَرَكاتِهم وسَكَناتِهمُ الإخلاصَ الكامِلَ والتَّقَرُّبَ إلى اللهِ تعالى بهذه العِبادةِ، التي هيَ أجَلُّ العِباداتِ وأكمَلُها وأنفعُها وأعَمُّها، ويَتَفقَّدوا هذا الأصلَ النَّافعَ في كُلِّ دَقيقٍ مِن أمورِهم وجَليلٍ. فإن دَرَسوا أو دارَسوا، أو بَحَثوا أو ناظَروا، أو أسمَعوا أوِ استَمَعوا، أو كَتَبوا أو حَفِظوا، أو كَرَّروا دُروسَهمُ الخاصَّةَ، أو راجَعوا عَليها أو على غَيرِها الكُتُبَ الأُخرى، أو جَلسوا مَجلِسَ عِلمٍ، أو نَقَلوا أقدامَهم لمَجالِسِ العِلمِ، أوِ اشتَرَوا كُتُبًا أو ما يُعينُ على العِلمِ، كان الإخلاصُ للهِ واحتِسابُ أجرِه وثَوابِه مُلازِمًا لهم؛ ليَصيرَ اشتِغالُهم كُلُّه قُربةً وطاعةً، وسَيرًا إلى اللهِ وإلى كَرامَتِه، وليَتَحَقَّقوا بقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَن سَلكَ طَريقًا يَلتَمِسُ فيه عِلمًا سَهَّل اللَّهُ له [به] طَريقًا إلى الجَنَّةِ» [أخرجه مسلم (2699) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه]، فكُلُّ طَريقٍ حِسِّيٍّ أو مَعنَويٍّ يَسلُكُه أهلُ العِلمِ يُعينُ على العِلمِ أو يُحَصِّلُه فإنَّه داخِلٌ في هذا... ثمَّ الحذَرَ الحذَرَ مِن طَلَبِ العِلمِ للأغراضِ الفاسِدةِ والمَقاصِدِ السَّيِّئةِ؛ مِنَ المُباهاةِ والمُماراةِ والرِّياءِ والسُّمعةِ، وأن يجعلَه وسيلةً للأمورِ الدُّنيويَّةِ والرِّياسةِ، فليسَت هذه حالَ أهلِ العِلمِ الَّذينَ هم أهلُه في الحَقيقةِ، ومَن طَلبَ العِلمَ أو استَعمَله في أغراضِه السَّيِّئةِ فليسَ له في الآخِرةِ مِن خَلاقٍ)). ((الفتاوى السعدية)) (ص: 623، 629). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكتابِ
1- قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمةِ [البينة: 5].
2- قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر: 2-3] .
3- قال تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي [الزمر: 11 - 14] .
4- قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك: 2] .
قال الفُضَيلُ بنُ عِياضٍ في قَولِه تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا: (أخلَصُه وأصوَبُه؛ فإنَّ العَمَلَ إذا كان خالصًا ولَم يَكُنْ صَوابًا لَم يُقبَلْ، وإذا كان صَوابًا ولَم يَكُنْ خالصًا لَم يُقبَلْ، حَتَّى يَكونَ خالصًا صَوابًا، والخالِصُ إذا كان للهِ، والصَّوابُ إذا كان على السُّنَّةِ) [2281] يُنظر: ((الإخلاص والنية)) لابن أبي الدنيا (22)، ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (8/ 95). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الأعمالُ بالنِّيَّةِ، ولكُلِّ امرِئٍ ما نَوى، فمَن كانت هِجرتُه إلى اللهِ ورَسولِه فهِجرتُه إلى اللهِ ورَسولِه، ومَن كانت هِجرتُه لدُنيا يُصيبُها، أوِ امرَأةٍ يَتَزَوَّجُها، فهِجرتُه إلى ما هاجَرَ إليه)) [2282] أخرجه البخاري (54) واللفظ له، ومسلم (1907). .
2- عن أبي أُمامةَ الباهليِّ رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: أرأيتَ رَجُلًا غزا يلتَمِسُ الأجرَ والذِّكرَ، ما له؟ فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا شيءَ له، فأعادها ثلاثَ مرَّاتٍ، يقولُ له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا شَيءَ له، ثم قال: إنَّ اللهَ لا يَقبَلُ من العَمَلِ إلَّا ما كان له خالِصًا، وابتُغِيَ به وَجهُه)) [2283] أخرجه من طرقٍ: النسائي (3140) واللفظ له، والطبراني (8/165) (7628). حسنه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (1331)، وجوَّد إسنادَه ابنُ رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (1/81)، وابن حجر في ((فتح الباري)) (6/35)، والصنعاني في ((سبل السلام)) (4/68)، وحسَّنه العراقي في ((تخريج الإحياء)) (5/112). .
3- عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((قال اللهُ تبارك وتعالى: أنا أغنى الشُّرَكاءِ عنِ الشِّركِ، مَن عَمِلَ عَمَلًا أشرَكَ فيه مَعيَ غَيري تَرَكتُه وشِركَه)) [2284] أخرجه مسلم (2985). .
4- عن أُبَيِّ بنِ كَعبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بَشِّرْ هذه الأُمَّةَ بالسَّناءِ، والنصْرِ، والتمْكينِ، فمَن عمِلَ منهم عمَلَ الآخِرةِ للدُّنْيا، لم يكُنْ له في الآخرةِ نَصيبٌ)) [2285] أخرجه أحمد (21223) واللفظ له، وابن حبان (405)، والحاكم (8074). صححه ابن حبان، والألباني في ((صحيح الجامع)) (2825)، وصحح إسناده الحاكم، وقواه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (21223). .
5- عن سُلَيمانَ بنِ يَسارٍ، قال: تَفَرَّق النَّاسُ عن أبي هُرَيرةَ، فقال له ناتِلُ [2286] وفي روايةٍ: (فقال له ناتِلٌ الشَّاميُّ)، وهو ناتِلُ بنُ قَيسٍ الحزاميُّ الشَّاميُّ من أهلِ فِلَسطينَ، وهو تابعيٌّ، وكان أبوه صَحابيًّا وكان ناتِلٌ كَبيرَ قَومِه. يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (13/ 50). وينُظر أيضًا: ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (6/ 1805). أهلِ الشَّامِ: أيُّها الشَّيخُ، حَدِّثْنا حَديثًا سَمِعتَه مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: نَعَم، سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقضى يَومَ القيامةِ عليه: رَجُلٌ استُشهِدَ، فأُتيَ به، فعَرَّفَه نِعَمَه، فعَرَفَها، قال: فما عَمِلْتَ فيها؟ قال: قاتَلْتُ فيك حَتَّى استُشهِدْتُ، فقال: كذَبْتَ، ولَكِنَّك قاتَلتَ لأن يُقالَ: جَريءٌ، فقد قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به، فسُحِبَ على وَجهِه، حَتَّى ألقيَ في النَّارِ. ورَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلمَ وعَلَّمَه، وقَرَأ القُرآنَ، فأُتيَ به، فعَرَّفَه نِعَمَه، فعَرَفَها، قال: فما عَمِلْتَ فيها؟ قال: تَعَلَّمتُ العِلمَ وعَلَّمْتُه، وقَرَأتُ فيك القُرآنَ، قال: كذَبتَ، ولَكِنَّك تَعَلَّمتَ العِلمَ ليُقالَ: عالِمٌ، وقَرَأتَ القُرآنَ ليُقالَ: هو قارِئٌ، فقد قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به، فسُحِبَ على وَجهِه، حَتَّى ألقِيَ في النَّارِ. ورَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عليه، وأعطاه من أصنافِ المالِ كُلِّه، فأُتيَ به، فعَرَّفَه نِعَمَه، فعَرَفَها، قال: فما عَمِلْتَ فيها؟ قال: ما تَرَكتُ من سَبيلٍ تُحِبُّ أن يُنفَقَ فيها إلَّا أنفَقْتُ فيها لَك، قال: كذَبتَ، ولَكِنَّك فعَلْتَ ليُقالَ: هو جَوادٌ، فقد قيلَ، ثُمَّ أمِرَ به فسُحِبَ على وَجهِه، ثُمَّ ألقِيَ في النَّارِ)) [2287] أخرجه مسلم (1905). .
6- وعَنِ الوليدِ بنِ أبي الوليدِ أبي عُثمانَ المَدَنيِّ، أنَّ عُقبةَ بنَ مُسلِمٍ حَدَّثَه أنَّ شُفَيًّا الأصبَحيَّ حَدَّثَه أنَّه دَخلَ المَدينةَ، فإذا هو برجُلٍ قدِ اجتَمَعَ عليه النَّاسُ، فقال: مَن هذا؟ فقالوا: أبو هُرَيرةَ، فدَنَوتُ مِنه حَتَّى قَعَدتُ بَينَ يَدَيه وهو يُحَدِّثُ النَّاسَ، فلمَّا سَكَتَ وخَلا قُلتُ له: أسألُك بحَقٍّ وبحَقٍّ لَمَا حَدَّثَتْني حَديثًا سَمِعتَه مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَقَلتَه وعَلِمتَه، فقال أبو هُرَيرةَ: أفعَلُ، لأُحَدِّثَنَّك حَديثًا حَدَّثَنيه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَقَلتُه وعَلِمتُه، ثُمَّ نَشَغَ أبو هُرَيرةَ نَشغةً [2288] النَّشغُ: الشَّهيقُ وما أشبَهَه حتَّى يكادَ يَبلُغُ به الغَشيُ، وإنَّما يفعَلُه الإنسانُ أسَفًا على فائتٍ، وشَوقًا إلى ذاهِبٍ. يُنظر: ((غريب الحديث)) لأبي عبيد (5/ 217، 218)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (4/ 542). فمَكَثنا قَليلًا ثُمَّ أفاقَ، فقال: لأُحَدِّثَنَّك حَديثًا حَدَّثَنيه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذا البَيتِ ما مَعَنا أحَدٌ غَيري وغَيرُه، ثُمَّ نَشَغَ أبو هُرَيرةَ نَشغةً شَديدةً، ثُمَّ أفاقَ فمَسَحَ وجهَه، فقال: أفعَلُ، لأُحَدِّثَنَّك حَديثًا حَدَّثَنيه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا وهو في هذا البَيتِ ما مَعَنا أحَدٌ غَيري وغَيرُه، ثُمَّ نَشَغَ أبو هُرَيرةَ نَشغةً شَديدةً، ثُمَّ مالَ خارًّا على وجهِه! فأسنَدتُه علَيَّ طَويلًا، ثُمَّ أفاقَ فقال: حَدَّثَني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أنَّ اللهَ تَبارك وتعالى إذا كان يَومُ القيامةِ يَنزِلُ إلى العِبادِ ليَقضيَ بينَهم، وكُلُّ أمَّةٍ جاثيةٌ، فأوَّلُ مَن يَدعو به رَجُلٌ جَمعَ القُرآنَ، ورَجُلٌ قُتِلَ في سَبيلِ اللهِ، ورَجُلٌ كثيرُ المالِ، فيَقولُ اللهُ للقارِئِ: ألم أعلِّمْك ما أنزَلتُ على رَسولي؟ قال: بلى يا رَبِّ، قال: فماذا عَمِلْتَ فيما عَلِمتَ؟ قال: كُنتُ أقومُ به آناءَ الليلِ وآناءَ النَّهارِ، فيَقولُ اللهُ له: كذَبْتَ، وتَقولُ له المَلائِكةُ: كذَبْتَ، ويَقولُ اللهُ: بَل أرَدتَ أن يُقالَ: إنَّ فُلانًا قارِئٌ، فقد قيلَ ذاك. ويُؤتى بصاحِبِ المالِ فيَقولُ اللهُ له: ألم أُوسِّعْ عليك حَتَّى لَم أدَعْك تَحتاجُ إلى أحَدٍ؟ قال: بلى يا رَبِّ، قال: فماذا عَمِلْتَ فيما آتيتُك؟ قال: كُنتُ أصِلُ الرَّحِمَ وأتَصَدَّقُ، فيَقولُ اللهُ له: كذَبْتَ، وتَقولُ له المَلائِكةُ: كذَبْتَ، ويَقولُ اللهُ تعالى: بَل أرَدتَ أن يُقالَ: فُلانٌ جَوادٌ، فقد قيلَ ذاك. ويُؤتى بالذي قُتِلَ في سَبيلِ اللهِ، فيَقولُ اللهُ له فيماذا قُتِلْتَ؟ فيَقولُ: أُمِرْتُ بالجِهادِ في سَبيلِك فقاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ، فيَقولُ اللهُ تعالى له: كذَبْتَ، وتَقولُ له المَلائِكةُ: كذَبْتَ، ويَقولُ اللهُ: بَل أرَدتُ أن يُقالَ: فُلانٌ جَريءٌ، فقد قيلَ ذاك. ثُمَّ ضَربَ رَسولُ اللهِ صَلى اللهُ عليه وسَلَّمَ على رُكبَتي، فقال: يا أبا هُريرةَ، أولئك الثَّلاثةُ أوَّلُ خَلقِ اللهِ تُسَعَّرُ بهمُ النَّارُ يَومَ القيامةِ)). وقال الوليدُ أبو عُثمانَ: فأخبَرَني عُقبةُ بنُ مُسلِمٍ أنَّ شُفَيًّا هو الذي دَخَلَ على مُعاويةَ فأخبَرَه بهذا. قال أبو عُثمانَ: وحَدَّثَني العَلاءُ بنُ أبي حَكيمٍ أنَّه كان سَيَّافًا لمُعاويةَ فدَخَلَ عليه رَجُلٌ، فأخبَرَه بهذا عن أبي هُرَيرةَ، فقال مُعاويةُ: قد فُعِلَ بهؤلاء هذا، فكَيف بمَن بَقيَ مِنَ النَّاسِ؟! ثُمَّ بَكى مُعاويةُ بُكاءً شَديدًا حَتَّى ظَنَنَّا أنَّه هالِكٌ، وقُلْنا: قد جاءَنا هذا الرَّجُلُ بشَرٍّ، ثُمَّ أفاقَ مُعاويةُ ومَسَحَ عن وَجهِه، وقال: صَدَقَ اللهُ ورَسولُه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود: 15، 16] [2289] أخرجه الترمذي (2382) واللفظ له، وابن خزيمة (2482)، وابن حبان (408). صَحَّحه ابن خزيمة، وابن حبان، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2382)، وصَحَّح إسناده الحاكم في ((المستدرك)) (1547)، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (11/266): أصلُه عندَ مُسلِمٍ. .

انظر أيضا: