موسوعة الآداب الشرعية

سابعًا: الإقبالُ على الشَّيخِ والمُعَلِّمِ وعَدَمُ الالتِفاتِ والجُلوسُ بسَكينةٍ ووَقارٍ


مِنَ الأدَبِ مَعَ المُعَلِّمِ أوِ الشَّيخِ: الإقبالُ عليه، وعَدَمُ الالتِفاتِ، والجُلوسُ بَينَ يَدَيه بسَكينةٍ وتَواضُعٍ ووَقارٍ [2416] قال الآجُرِّيُّ: (مَن كان يَقرَأُ على غَيرِه ويَتَلَقَّنُ، فيَنبَغي له أن يُحسِنَ الأدَبَ في جُلوسِه بَينَ يَدَيه، ويَتَواضَعَ في جُلوسِه، ويَكونَ مُقبِلًا عليه). ((أخلاق أهل القرآن)) (ص: 135). وقال الخَطيبُ البَغداديُّ: (يَجِبُ أن يُقبِلَ على المُحَدِّثِ بوَجهِه، ولا يَلتَفِتَ عنه، ولا يُسارَّ أحَدًا في مَجلسِه، ولا يَحكيَ عن غَيرِه خِلافَ رِوايَتِه). ((الجامع لأخلاق الراوي)) (1/ 198). وقال النَّوويُّ: (يَقعُدُ قِعدةَ المُتَعَلِّمينَ لا قِعدةَ المُعَلِّمينَ، ولا يَرفعْ صَوتَه رَفعًا بَليغًا مِن غَيرِ حاجةٍ، ولا يَضحَكْ ولا يُكثِرِ الكَلامَ بلا حاجةٍ، ولا يَعبَثْ بيَدِه ولا غَيرِها، ولا يَلتَفِتْ بلا حاجةٍ، بَل يُقبِلُ على الشَّيخِ مُصغيًا إليه، ولا يَسبِقْه إلى شَرحِ مَسألةٍ أو جَوابِ سُؤالٍ...). ((المجموع)) (1/ 37). ويُنظر: ((التبيان)) للنووي (ص: 48). وقال ابنُ جماعةَ: (لا يتكَلَّمْ في أثناءِ دَرسِ غَيرِه أو دَرسِه بما لا يتعَلَّقُ به أو بما يقطَعُ عليه بحثَه، وإذا شَرَع بعضُهم في درسٍ فلا يتكَلَّمْ بكلامٍ يتعَلَّقُ بدَرسٍ فُرِغ ولا بغيرِه ممَّا لا تفوتُ فائدةٌ، إلَّا بإذنٍ مِنَ الشَّيخِ وصاحِبِ الدَّرسِ. وإن أساء بعضُ الطَّلَبةِ أدَبًا على غيِره لم ينهَرْه غيرُ الشَّيخِ إلَّا بإشارتِه أو سرًّا بينهما على سبيلِ النَّصيحةِ، وإن أساء أحَدٌ أدَبَه على الشَّيخِ تعَيَّن على الجماعةِ انتهارُه ورَدُّه والانتصارُ للشَّيخِ بقَدرِ الإمكانِ وَفاءً لحَقِّه، ولا يشارِكْ أحَدٌ من الجماعةِ أحَدًا في حديثِه ولا سِيَّما الشَّيخِ. قال بعضُ الحُكَماءِ: من الأدَبِ ألَّا يشارِكَ الرَّجُلَ في حديثِه وإن كان أعلَمَ به منه). ((تذكرة السامع والمتكلم)) (ص: 119، 120). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَلَسَ ذاتَ يَومٍ على المِنبَرِ وجَلَسْنا حَولَه)) [2417] أخرجه البخاري (921) واللفظ له، ومسلم (1052). .
هذا الحَديثُ بَوَّبَ له البُخاريُّ في ((الجامِعِ المُسنَدِ الصَّحيحِ)) بقَولِه: (بابُ: يَستَقبلُ الإمامُ القَومَ، واستِقبالِ النَّاسِ الإمامَ إذا خَطَبَ، واستَقبَلَ ابنُ عُمَرَ وأنَسٌ رَضيَ اللهُ عنهمُ الإمامَ) [2418] ((صحيح البخاري)) (2/ 10). ويُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (8/ 249). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (مِن حِكمةِ استِقبالِهم للإمامِ التَّهَيُّؤُ لسَماعِ كَلامِه، وسُلوكُ الأدَبِ مَعَه في استِماعِ كَلامِه، فإذا استَقبَلَه بوَجهِه وأقبَلَ عليه بجَسَدِه وبقَلبِه وحُضورِ ذِهنِه، كان أدعى لتَفهُّمِ مَوعِظَتِه) [2419] ((فتح الباري)) (2/ 402). .
2- عن أُسامةَ بنِ شَريكٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((أتَيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه كَأنَّما على رُؤوسِهم الطَّيرُ، فسَلَّمتُ ثُمَّ قَعَدتُ، فجاءَ الأعرابُ مِن هاهنا وهاهنا، فقالوا: يا رَسولَ اللهِ، أنَتَداوى؟ فقال: تَداوَوا؛ فإنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ لَم يَضَعْ داءً إلَّا وَضَع له دَواءً، غَيرَ داءٍ واحِدٍ: الهَرَمِ)) [2420] أخرجه أبو داود (3855) واللفظ له، والترمذي (2038)، وابن ماجه (3436). صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (6061)، والحاكم في ((المستدرك)) (416)، وابن عبد البر في ((التمهيد)) (5/281)، وابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (95)، وقال الترمذي: حسن صحيح. .
2- عَنِ البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: ((خَرَجْنا مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في جِنازةٍ، فلَمَّا انتَهَينا إلى القَبرِ ولَم يُلحَدْ، فجَلَسَ وجَلَسنا حَولَه كَأنَّ على رُؤوسِنا الطَّيرَ)) [2421] أخرجه أبو داود (3212)، والنسائي (2001) واللفظ له، وابن ماجه (1549). صحَّحه القرطبي في ((التذكرة)) (119)، وابن القيم في ((الروح)) (1/269)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (2001)، وحسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (141). .
3- عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قامَ على المِنبَرِ، فقال: إنَّما أخشى عليكُم مِن بَعدي ما يُفتَحُ عليكُم مِن بَرَكاتِ الأرضِ، ثُمَّ ذَكَرَ زَهرةَ الدُّنيا، فبَدَأ بإحداهما، وثَنَّى بالأُخرى، فقامَ رَجُلٌ فقال: يا رَسولَ اللهِ، أوَ يَأتي الخَيرُ بالشَّرِّ؟ فسَكَتَ عنه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قُلنا: يوحى إليه، وسَكَتَ النَّاسُ كَأنَّ على رُؤوسِهم الطَّيرَ...)) الحَديثَ [2422] أخرجه البخاري (2842) واللفظ له، ومسلم (1052) بنحوه. .
قال الخَطيبُ البَغداديُّ: (قال أبو بَكرِ بنُ الأنباريِّ: قَولُهم: جُلَساءُ فُلانٍ كَأنَّما على رُؤوسِهم الطَّيرُ، في هذا قَولانِ؛ أحَدُهما: أن يَكونَ المَعنى أنَّهم يَسكُنونَ فلا يَتَحَرَّكونَ، ويَغُضُّونَ أبصارَهم، والطَّيرُ لا يَقَعُ إلَّا على ساكِنٍ، يُقالُ للرَّجُلِ إذا كان حَليمًا وقورًا: إنَّه لساكِنُ الطَّيرِ الطَّائِرِ، أي: كَأنَّ على رَأسِه طَيرًا لسُكونِه، والقَولُ الثَّاني: أنَّ الأصلَ في قَولِهم: كَأنَّما على رُءوسِهمُ الطَّيرُ أنَّ سُلَيمانَ بنَ داوُدَ كان يَقولُ للرِّيحِ: أقِلِّينا، وللطَّيرِ: أظِلِّينا، فتُقِلُّه وأصحابَه الرِّيحُ، وتُظِلُّهمُ الطَّيرُ، وكان أصحابُه يَغُضُّونَ أبصارَهم هَيبةً له وإعظامًا، ويَسكُنونَ فلا يَتَحَرَّكونَ ولا يَتَكَلَّمونَ بشَيءٍ إلَّا أن يَسألَهم عنه فيُجيبوا، فقيلَ للقَومِ إذا سَكَنوا: هم حُلَماءُ وُقَراءُ، كَأنَّما على رُؤوسِهم الطَّيرُ؛ تَشبيهًا بأصحابِ سُلَيمانَ عليه السَّلامُ) [2423] ((الجامع لأخلاق الراوي)) (1/ 192). ويُنظر: ((الزاهر في معاني كلمات الناس)) لابن الأنباري (1/ 189، 190). .

انظر أيضا: