تم اعتماد المنهجية من الجمعية الفقهية السعودية
برئاسة الشيخ الدكتور سعد بن تركي الخثلان
أستاذ الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود
عضو هيئة كبار العلماء (سابقاً)
يَنبَغي للعَبدِ أن يَستَخيرَ رَبَّه في الأُمورِ كُلِّها؛ دَقيقِها وجَليلِها، مِمَّا لا يَدري العَبدُ وَجهَ الصَّوابِ فيه. الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ: 1- عن جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ السُّلَميِّ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُعَلِّمُ أصحابَه الاستِخارةَ في الأُمورِ كُلِّها، كما يُعَلِّمُهمُ السُّورةَ مِنَ القُرآنِ)) الحَديثَ [2431] أخرجه البخاري (7390). . قال العَينيُّ: ("في الأُمورِ كُلِّها" يَعني: في دَقيقِ الأُمورِ وجَليلِها؛ لأنَّه يَجِبُ على المُؤمِنِ رَدُّ الأُمورِ كُلِّها إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ، والتَّبَرُّؤُ مِنَ الحَولِ والقُوَّةِ إليه) [2432] ((عمدة القاري)) (23/ 11). وقال العَينيُّ أيضًا: (مَعنى قَولِه: "في الأُمورِ كُلِّها" أُمورُ الدُّنيا؛ لأنَّ أُمورَ الآخِرةِ لا يُحتاجُ فيها إلى الاستِخارةِ؛ لأنَّ الرَّجُلَ إذا أرادَ أن يُصَلِّيَ أو يَصومَ أو يَتَصَدَّقَ لا حاجةَ فيه إلى الاستِخارةِ، ولَكِن يَحتاجُ إلى الاستِخارةِ في أُمورِ الدُّنيا، مِثلُ: السَّفرِ والنِّكاحِ، وشِراءِ العَبدِ ونَحوِه، وبَيعِه، وبناءِ الدَّارِ، والانتِقالِ إلى وطَنٍ آخَرَ، ونَحوِ ذلك). ((العلم الهيب في شرح الكلم الطيب)) (ص: 332). . وقال ابنُ حَجَرٍ: (قَولُه: "في الأُمورِ كُلِّها"، قال ابنُ أبي جَمرةَ: هو عامٌّ أُريدَ به الخُصوصُ؛ فإنَّ الواجِبَ والمُستَحَبَّ لا يُستَخارُ في فِعلِهما، والحَرامَ والمَكروهَ لا يُستَخارُ في تَركِهما، فانحَصَرَ الأمرُ في المُباحِ وفي المُستَحَبِّ إذا تَعارَضَ مِنه أمرانِ أيُّهما يُبدَأُ به ويُقتَصَرُ عليه [2433] يُنظر: ((بهجة النفوس)) لابن أبي جمرة (2/ 87). . قُلتُ: وتَدخُلُ الاستِخارةُ فيما عَدا ذلك؛ في الواجِبِ والمُستَحَبِّ المُخَيَّرِ، وفيما كان زَمَنُه موسَّعًا. ويَتَناولُ العُمومُ العَظيمَ مِنَ الأُمورِ والحَقيرَ؛ فرُبَّ حَقيرٍ يَتَرَتَّبُ عليه الأمرُ العَظيمُ) [2434] ((فتح الباري)) (11/ 184). . 2- عن أنَسٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((لمَّا انقَضَت عِدَّةُ زَينَبَ قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لزَيدٍ: فاذكُرْها عَلَيَّ، قال: فانطَلَقَ زَيدٌ حَتَّى أتاها وهيَ تُخَمِّرُ عَجينَها، قال: فلَمَّا رَأيتُها عَظُمَت في صَدري، حَتَّى ما أستَطيعُ أن أنظُرَ إليها؛ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذَكَرَها، فوَلَّيتُها ظَهري، ونَكَصتُ على عَقِبي، فقُلتُ: يا زَينَبُ، أرسَلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَذكُرُكِ، قالت: ما أنا بصانِعةٍ شَيئًا حَتَّى أُوامِرَ رَبِّي، فقامَت إلى مَسجِدِها...)) الحديثَ [2435] أخرجه مسلم (1428). . قال النَّوويُّ: ("فقامَت إلى مَسجِدِها" أي: مَوضِعِ صَلاتِها مِن بَيتِها. وفيه استِحبابُ صَلاةِ الاستِخارةِ لِمَن هَمَّ بأمرٍ، سَواءٌ كان ذلك الأمرُ ظاهِرَ الخَيرِ أم لا. وهو موافِقٌ لحَديثِ جابِرٍ في "صَحيحِ البُخاريِّ" قال: "كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُعَلِّمُنا الاستِخارةَ في الأُمورِ كُلِّها، يَقولُ: إذا هَمَّ أحَدُكُم بالأمرِ فليَركَعْ رَكعَتَينِ مِن غَيرِ الفريضةِ..." إلى آخِرِه [2436] أخرجه البخاري (1166) ولَفظُه: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُعَلِّمُنا الاستِخارةَ في الأُمورِ كما يُعَلِّمُنا السُّورةَ مِنَ القُرآنِ؛ يَقولُ: إذا هم أحَدُكُم بالأمرِ فليَركَعْ رَكعَتَينِ مِن غَيرِ الفريضةِ ...)). . ولَعَلَّها استَخارَت لخَوفِها مِن تَقصيرٍ في حَقِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [2437] ((شرح مسلم)) (9/ 228). ويُنظر: ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (2/ 239). . فائِدةٌ: اتَّفقَتِ المَذاهِبُ الأربَعةُ على أنَّ الاستِخارةَ تَكونُ في الأُمورِ التي لا يَدري العَبدُ وَجهَ الصَّوابِ فيها، أمَّا ما هو مَعروفٌ خَيرُه أو شَرُّه، كالعِباداتِ وصَنائِعِ المَعروفِ، والمَعاصي والمُنكَراتِ، فلا حاجةَ إلى الاستِخارةِ فيها، إلَّا إذا أرادَ بَيانَ خُصوصِ الوَقتِ، كالحَجِّ مَثَلًا في هذه السَّنةِ؛ لاحتِمالٍ عَدوٍّ أو فِتنةٍ، والرُّفقةِ فيه، أيُرافِقُ فلانًا أم لا؟ وعَلى هذا فالاستِخارةُ لا مَحَلَّ لَها في الواجِبِ والحَرامِ والمَكروهِ، وإنَّما تَكونُ في المَندوباتِ والمُباحاتِ. والاستِخارةُ في المَندوبِ لا تَكونُ في أصلِه؛ لأنَّه مَطلوبٌ، وإنَّما تَكونُ عِندَ التَّعارُضِ، أي: إذا تَعارَضَ عِندَه أمرانِ أيُّهما يَبدَأُ به أو يَقتَصِرُ عليه؟ أمَّا المُباحُ فيُستَخارُ في أصلِه، وهَل يَستَخيرُ في مُعَيَّنٍ أو مُطلَقٍ؟ على قَولَينِ [2438] يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (3/ 242). .