أهَمِّيَّةُ الأدَبِ في حَياةِ المُسلِمِ
للأدَبِ مَنزِلةٌ خَطيرةٌ في حَياةِ المُسلِمِ فـ (أدَبُ المَرء عُنوانُ سَعادتِه وفَلاحِه، وقِلَّةُ أدَبِه عُنوانُ شَقاوتِه وبَوارِه، فما استُجلِبَ خَيرُ الدُّنيا والآخِرةِ بمِثلِ الأدَبِ، ولا استُجلِبَ حِرمانُهما بمِثلِ قِلَّةِ الأدَبِ.
فانظُر إلى الأدَبِ مَعَ الوالِدَينِ كَيف نَجَّى صاحِبَه مِن حَبسِ الغارِ حينَ أطبَقَت عليهمُ الصَّخرةُ، والإخلالِ به مَعَ الأُمِّ -تَأويلًا وإقبالًا على الصَّلاةِ- كيف امتُحِنَ صاحِبُه بهَدمِ صَومَعَتِه وضَربِ النَّاسِ له، ورَميِه بالفاحِشةِ!
وتَأمَّلْ أحوالَ كُلِّ شَقيٍّ ومُغتَرٍّ ومُدبِرٍ كَيف تَجِدُ قِلَّةَ الأدَبِ هيَ التي ساقَته إلى الحِرمانِ!
وانظُرْ أدَبَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الصَّلاةِ أن يَتَقدَّمَ بَينَ يَدَيه، فقال: ما كان يَنبَغي لابنِ أبي قُحافةَ أن يَتَقدَّمَ بَينَ يَدَي رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كَيف أَورَثَه مَقامَه والإمامةَ بالأُمَّةِ بَعدَه! فكان ذلك التَّأخُّرُ إلى خَلفِه -وقد أومَأ إليه أنِ اثبُتْ مَكانَك- جَمزًا
[77] الجَمْزُ: نَوعٌ مِنَ السَّيرِ، وجَمَز جَمزًا: عَدا وأسرَعَ. يُنظر: ((العين)) للخليل (6/ 72)، ((الصحاح)) للجوهري (3/ 869)، ((المصباح المنير)) للفيومي (1/ 108). ، وسَعيًا إلى قُدَّامٍ بكُلِّ خُطوةٍ إلى وراءَ مَراحِلَ إلى قُدَّامٍ تَنقَطِعُ فيها أعناقُ المَطيِّ)
[78] ((مدارج السالكين)) (2/ 356، 368-369). .
وقال يوسُفُ بنُ الحُسَينِ الرَّازيُّ: (بالأدَبِ يُفهَمُ العِلمُ، وبالعِلمِ يَصِحُّ العَمَلُ، وبالعَمَلِ تُنالُ الحِكمةُ، وبالحِكمةِ يُفهَمُ الزُّهدُ ويُوفَّقُ له، وبالزُّهدِ تُترَكُ الدُّنيا، وبتَركِ الدُّنيا يُرغَبُ في الآخِرةِ، وبالرَّغبةِ في الآخِرةِ يُنالُ رِضا اللهِ عَزَّ وجَلَّ)
[79] ((شعب الإيمان)) للبيهقي (4/ 559). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (والأدَبُ هو الدِّينُ كُلُّه؛ فإنَّ سَترَ العَورةِ مِنَ الأدَبِ، والوُضوءَ وغُسلَ الجَنابةِ مِنَ الأدَبِ، والتَّطَهُّرَ مِنَ الخُبثِ مِنَ الأدَبِ، حتَّى يَقِفَ بَينَ يَدَيِ اللهِ طاهرًا...)
[80] ((مدارج السالكين)) (2/ 363). .
ومَن يُخِلَّ بالأدَبِ يَخسَرْ كَثيرًا، وقال ابنُ المُبارَكِ: (مَن تَهاونَ بالأدَبِ عوقِبَ بحِرمانِ السُّنَنِ، ومَن تَهاونَ بالسُّنَنِ عوقِبَ بحِرمانِ الفرائِضِ، ومَن تَهاونَ بالفرائِضِ عوقِبَ بحِرمانِ المَعرِفةِ)
[81] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (10/ 239). .
(ويُقالُ: مَثَلُ الإيمانِ كمَثَلِ بَلدةٍ لها خَمسةٌ مِنَ الحُصونِ؛ الأوَّلُ: مِن ذَهَبٍ، والثَّاني: مِن فِضَّةٍ، والثَّالِثُ: مِن حَديدٍ، والرَّابِعُ: مِن آجُرٍّ، والخامِسُ: مِن لَبِنٍ، فما دامَ أهلُ الحِصنِ مُتَعاهِدينَ الذي هو مِن لَبِنٍ لا يَطمَعُ العَدوُّ في الثَّاني، فإذا أهمَلوا ذلك طَمِعوا في الحِصنِ الثَّاني ثُمَّ في الثَّالِثِ حتَّى تَخرَبَ الحُصونُ كُلُّها، فكذلك الإيمانُ في خَمسةٍ مِنَ الحُصونِ؛ أوَّلُها اليَقينُ، ثُمَّ الإخلاصُ، ثُمَّ أداءُ الفرائِضِ، ثُمَّ إتمامُ السُّنَنِ، ثُمَّ حِفظُ الآدابِ، فما دامَ العَبدُ يَحفظُ الآدابَ ويتعاهَدُها فالشَّيطانُ لا يَطمَعُ فيه، فإذا تَرَكَ الآدابَ طَمِع الشَّيطانُ في السُّنَنِ، ثُمَّ في الفرائِضِ، ثُمَّ في الإخلاصِ، ثُمَّ في اليَقينِ.
فيَنبَغي للإنسانِ أن يَحفَظَ الآدابَ في جَميعِ أُمورِه مِنَ الوُضوءِ والصَّلاةِ والبَيعِ والشِّراءِ وغَيرِ ذلك)
[82] ((الغنية لطالبي طريق الحق)) للجيلاني (1/ 116، 117). .
والأدَبُ يَرفعُ الأحسابَ الوَضيعةَ، ويُفيدُ الرَّغائِبَ الجَميلةَ، ويَعِزُّ بلا عَشيرةٍ، وقد قيل: مَن قَعَدَ به حَسَبُه نَهَضَ به أدَبُه
[83] ينظر: ((الإعلام بحرمة أهل العلم والإسلام)) للمقدم (ص: 132). .
وقال العِزُّ بنُ عَبدِ السَّلامِ: (فَصلٌ في تَأديبِ الأهلِ بآدابِ الشَّرعِ. قال اللهُ تعالى:
وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ [مريم: 55] ، وقال:
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه: 132] ، وقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم: 6] ، وإنَّما يَقيهمُ النَّارَ بأمرِهم بالتَّقوى، وحَثِّهم على الطَّاعةِ.
وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مُروهم بالصَّلاةِ لسَبعٍ، واضرِبوهم على تَركِها لعَشرٍ»
[84] لفظُ الحَديثِ: عن عَمرِو بنِ شُعَيبٍ عن أبيه عن جَدِّه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: ((مُروا أولادَكُم بالصَّلاةِ وهم أبناءُ سَبعِ سِنينَ، واضرِبوهم عليها وهم أبناءُ عَشرِ سِنينَ، وفرِّقوا بَينَهم في المَضاجِعِ)). أخرجه أبو داود (495) واللفظ له، وأحمد (6689). صحَّحه ابن الملقن في ((البدر المنير)) (3/238)، وابن القطان في ((النظر في أحكام النظر)) (275)، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (7/184)، والألباني في ((إرواء الغليل)) (247)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (10/166)، وحسَّنه النووي في ((المجموع)) (3/10)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (495) .
تَأديبُ الأهلِ إنعامٌ عليهم، وإحسانٌ إليهم، وفضيلةُ الدُّعاءِ إلى الآدابِ مَأخوذةٌ مِن فَضلِ ذلك الأدَبِ، فأفضَلُ التَّأديباتِ التَّأديبُ بأفضَلِ القُرُباتِ، وأشرَفِ الطَّاعاتِ، وكذلك الأفضَلُ فالأفضَلُ، والأمثَلُ فالأمثَلُ)
[85] ((شجرة المعارف)) (ص: 199، 200). .
الوَسائِلُ المُعينةُ على اكتِسابِ الأدَبِ:
1- تَربيةُ الأولادِ على التِزامِ الأدَبِ مُنذُ الصِّغَرِ.
2- النَّظَرُ في القُرآنِ والسُّنَّةِ والتَّأدُّبُ بآدابِهما.
3- مُطالعةُ سِيَرِ الأنبياءِ والصَّحابةِ والسَّلفِ الصَّالحِ والاقتِداءُ بهم
[86] قال الخطيبُ البَغداديُّ: (الواجبُ أن يكونَ طَلَبةُ الحديثِ أكملَ النَّاسِ أدبًا، وأشَدَّ الخلقِ تواضُعًا، وأعظَمَهم نزاهةً وتديُّنًا، وأقلَّهم طَيشًا وغَضَبًا؛ لدوامِ قَرعِ أسماعِهم بالأخبارِ المشتَمِلةِ على محاسنِ أخلاقِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وآدابِه، وسيرةِ السَّلَفِ الأخيارِ من أهلِ بَيتِه وأصحابِه، وطرائِقِ المحَدِّثين، ومآثِرِ الماضين، فيأخُذوا بأجمَلِها وأحسَنِها، ويَصدِفوا عن أرذَلِها وأدوَنِها). ((الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)) (1/ 78). .
4- تَعليمُ النَّاسِ وتَذكيرُهم بأهَمِّيَّةِ التِزامِ الآدابِ.
5- مُجاهَدةُ النَّفسِ على التِزامِ الآدابِ والعَمَلِ بها.
6- العِلمُ بالأُجورِ المَرتَّبةِ على فِعلِ الآدابِ وأنَّ المُحافظةَ عليها تُقَرِّبُ إلى اللهِ وجنَّتِه.
7- صِدقُ اللُّجوءِ إلى اللهِ تعالى والإكثارُ مِنَ الدُّعاءِ.
8- مُصاحَبةُ أهلِ العِلمِ والصَّالحينَ مِمَّن يَتَأدَّبونَ بآدابِ الإسلامِ.