التَّرغيبُ في الأدَبِ والحَثُّ عليه
أوَّلًا: مِنَ القُرآنِ الكَريمِ1- قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6] .
أي: يا أيُّها الذينَ آمَنوا اجعَلوا بَينَ أنفُسِكُم وأهليكُم وبَينَ النَّارِ حاجِزًا يَقيكُم مِنها؛ بتَعليمِ أنفُسِكُمُ العِلمَ النَّافِعَ، وقيامِكُم بالعَمَلِ الصَّالِحِ، وتَعليمِ أهليكُم وتَأديبِهم، وأمرِهم بالمَعروفِ، ونَهيِهم عنِ المُنكَرِ
[29] ((التفسير المحرر- الدرر السنية)) (39/ 169). .
قال عَليُّ بنُ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه: (
قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا يَقولُ: عَلِّموهم وأدِّبوهم)
[30] ((جامع البيان)) لابن جرير (23/ 103، 104). .
قال الْكِيَا الهَرَّاسيُّ: (وهذا يَدُلُّ على أنَّ علينا تَعليمَ أولادِنا وأهلينا الدِّينَ والخَيرَ، وما لا يُستَغنى عنه مِنَ الأدَبِ)
[31] ((أحكام القرآن)) (4/ 426). .
2- وقال مُحَمَّدُ بنُ عَليٍّ: (أدَّبَ اللهُ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأحسَنِ الآدابِ، فقال:
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199] ، فلَمَّا وعى قال:
وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحشر: 7] )
[32] ((البيان والتبين)) للجاحظ (2/ 20). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ1- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّما بُعِثتُ لأُتَمِّمَ صالِحَ الأخلاقِ)) [33] أخرجه أحمد (8952) واللفظ له، والحاكم (4221)، والبيهقي (20820). صَحَّحه الحاكِمُ، وقال: على شَرط مُسلِم، وابن عبد البر في ((التمهيد)) (24/333)، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (7/152)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (2349)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (8952). .
2- عن أبي موسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ثَلاثةٌ لَهم أجرانِ: رَجُلٌ مِن أهلِ الكِتابِ آمَن بنَبيِّه وآمَنَ بمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والعَبدُ المَملوكُ إذا أدَّى حَقَّ اللهِ وحَقَّ مَواليه، ورَجُلٌ كانت عِندَه أَمَةٌ فأدَّبَها فأحسَنَ تَأديبَها، وعَلَّمَها فأحسَنَ تَعليمَها [34] قال الكرمانيُّ: (الأدَبُ هو حُسنُ الأحوالِ والأخلاقِ... فإن قُلتَ: أليس التَّأديبُ داخِلًا تَحتَ التَّعليمِ؟ قُلتُ: لا؛ إذِ التَّأديبُ يَتَعَلَّقُ بالمروءاتِ والتَّعليمِ بالشَّرعيَّاتِ، أيِ الأوَّلُ عُرفيٌّ، والثَّاني شَرعيٌّ، أوِ الأوَّلُ دُنيَويٌّ، والثَّاني أُخرَويٌّ دينيٌّ). ((الكواكب الدراري)) (2/ 89). وقال رَشيد رِضا: (بَلغَ مِن عِنايةِ مُحَمَّدٍ رَسولِ اللهِ وخاتَمِ النَّبيِّينَ بتَعليمِ النِّساءِ وتَربيَتِهنَّ أن ذَكَرَ فيمَن يُؤتيهمُ اللهُ تعالى أجْرَهم مَرَّتَينِ يَومَ القيامةِ -أي: مُضاعَفًا- قَولَه: «أيُّما رَجُلٍ كانت عِندَه وليدةٌ فعَلَّمَها فأحسَنَ تَعليمَها، وأدَّبَها فأحسَنَ تَأديبَها، ثُمَّ أعتَقَها وتَزَوَّجَها؛ فله أجرانِ». فقَرَنَ ثَوابَ التَّعليمِ والتَّأديبِ بثَوابِ العِتقِ الذي كان يُرَغِّبُ فيه كَثيرًا فوقَ ما شَرَعَه اللهُ تعالى فيه مِن أسبابِ تَحريرِه وعِتقِه). ((حقوق النساء في الإسلام)) (ص: 63). ، ثُمَّ أعتَقَها فتَزَوَّجَها، فله أجرانِ)) [35] أخرجه البخاري (97) واللَّفظُ له، ومسلم (154). .
3- وقال جابِرُ بنُ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما:
((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لي حينَ استَأذَنتُه: هَل تَزَوَّجتَ بِكرًا أم ثَيِّبًا؟ فقُلتُ: تَزَوَّجتُ ثَيِّبًا، فقال: هَلَّا تَزَوَّجتَ بِكرًا تُلاعِبُها وتُلاعِبُك؟ قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، تُوُفِّيَ والِدي -أوِ استُشهدَ- ولي أخَواتٌ صِغارٌ، فكَرِهتُ أن أتَزَوَّجَ مِثلَهنَّ فلا تُؤَدِّبَهنَّ، ولا تَقومَ عليهنَّ، فتَزَوَّجتُ ثَيِّبًا لتَقومَ عليهنَّ وتُؤَدِّبَهنَّ)) الحَديثَ
[36] أخرجه البخاري (2967) واللَّفظُ له، ومسلم (715). .
ثالِثًا: مِن أقوالِ السَّلَفِ والعُلَماءِ والحكماءِ- قال عَبدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما لِرَجُلٍ: (أدِّبِ ابنَك؛ فإنَّك مسؤولٌ عن ولَدِك ماذا أدَّبتَه، وماذا عَلَّمتَه، وإنَّه مَسؤولٌ عن بِرِّك وطَواعيَتِه لك)
[37] ((السنن الكبرى)) للبيهقي (3/ 120). .
- وقال مُحَمَّدُ بنُ سِيرينَ: (ثَلاثةٌ ليس مَعَهم غُربةٌ: حُسنُ الأدَبِ، وكَفُّ الأذى، ومُجانَبةُ الرَّيبِ)
[38] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (2/ 276). .
- وقال سُفيانُ الثَّوريُّ: (كان يُقالُ: حُسنُ الأدَبِ يُطفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ عَزَّ وجَلَّ)
[39] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (6/ 362) و(7/ 79). .
- وقال عَبدُ اللَّهِ بنُ المُبارَكِ: (كادَ الأدَبُ أن يَكونَ ثُلُثَيِ الدِّينِ)
[40] ((صفة الصفوة)) لابن الجوزي (2/ 330). .
- وعن حَبيبٍ الجَلَّابِ، قال: (قيلَ لابنِ المُبارَكِ: ما خَيرُ ما أُعطيَ الرَّجُلُ؟ قال: غَريزةُ عَقلٍ، قيلَ: فإن لم يَكُنْ؟ قال: أدَبٌ حَسَنٌ، قيلَ: فإن لم يَكُنْ؟ قال: أخٌ صالِحٌ يَستَشيرُه، قيل: فإن لم يَكُنْ؟ قال: صَمتٌ طَويلٌ، قيلَ: فإن لم يَكُنْ؟ قال: مَوتٌ عاجِلٌ)
[41] ((روضة العقلاء)) لابن حبان (ص: 17). .
- وقال أبو الحَسَنِ القُرَشيُّ: (كان يُقالُ: لا زينةَ أحسَنُ مِن زينةِ الحَسَبِ، ولا حَسَبَ لِمَن لا أدَبَ له، ولا أدَبَ لمَن لا مُروءةَ له، ومَن كان مِن أهلِ الأدَبِ مِمَّن لا حَسَبَ له بَلَغَ به أدَبُه مَراتِبَ ذَوي الأحسابِ، ويُقالُ: تَركُ الأدَبِ داعيةٌ إلى كَسادِ المَرءِ، وتَأديبُ المَرءِ نَفسَه داعيةٌ إلى نَفاقِه
[42] النَّفاقُ: بالفتحِ، يُقالُ: نَفقَ البَيع نَفاقًا بالفَتحِ، أي: راجَ، ونَفقَتِ البضاعةُ: راجَت ورُغِبَ فيها، ونَفقَتِ الأيِّمُ تَنفُقُ نَفاقًا: إذا كَثُرَ خُطَّابُها. ينظر: ((تهذيب اللغة)) لأبي منصور الأزهري (9/ 157)، ((الصحاح)) للجوهري (4/ 1560)، ((المعجم الوسيط)) (2/ 942). [43] ((موضح أوهام الجمع والتفريق)) للخطيب البغدادي (2/ 310). .
- وقال ابنُ المُقَفَّعِ: (أفضَلُ ما يورِثُ الآباءُ الأبناءَ: الثَّناءُ الحَسَنُ، والأدَبُ النَّافِعُ، والإخوانُ الصَّالِحونَ)
[44] ((الأدب الصغير)) (ص: 45). .
(وقال ابنُ المُقَفَّعِ: ما نَحنُ إلى ما نَتَقَوَّى به على حَواسِّنا مِنَ المَطعَمِ والمَشرَبِ بأحوَجَ مِنَّا إلى الأدَبِ الذي هو لِقاحُ عُقولِنا؛ فإنَّ الحَبَّةَ المَدفونةَ في الثَّرى لا تَقدِرُ أن تَطلُعَ زَهرَتُها ونَضارَتُها إلَّا بالماءِ الذي يَعودُ إليها مِن مُستَودَعِها)
[45] نقلًا عن ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص: 232).. .
- وقال القَرافيُّ: (اعلَمْ أنَّ قَليلَ الأدَبِ خَيرٌ مِن كَثيرٍ مِنَ العَمَلِ... وقال الرَّجُلُ الصَّالحُ
[46] وهو رويم بن أحمد البغدادي كما في ((الفروق)) للقرافي (3/ 96). لابنِه: يا بُنيَّ اجعَلْ عَمَلَك مِلحًا وأدَبَك دَقيقًا، أي: ليَكُنِ استِكثارُك مِنَ الأدَبِ أكثَرَ مِنِ استِكثارِك مِنَ العَمَلِ؛ لكَثرةِ جَدواه، ونَفاسةِ مَعناه)
[47] ((الفروق)) (4/ 272). .
- (وكان يُقالُ: مَن أدَّب ابنَه صَغيرًا قَرَّت عَينُه كَبيرًا)
[48] ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (1/ 361). .
- (وكان يُقالُ: مَن أدَّب ابنَه أرغَمَ أنفَ عَدوِّه)
[49] ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (1/ 363). .
- ورَأى بَعضُهم غُلامًا جَميلًا لا أدَبَ له، فقال: أيُّ بَيتٍ لو كان له أساسٌ
[50] ينظر: ((البصائر والذخائر)) لأبي حيان (1/ 121). !
- (وحَكى الأصمَعيُّ أنَّ أعرابيًّا قال لابنِه: يا بُنَيَّ، العَقلُ بلا أدَبٍ كالشَّجَرِ العاقِرِ، ومَعَ الأدَبِ دِعامةٌ أيَّد اللَّهُ بها الألبابَ، وحِليةٌ زَيَّنَ اللَّهُ بها عَواطِلَ الأحسابِ، فالعاقِلُ لا يَستَغني وإن صَحَّت غَريزَتُه عنِ الأدَبِ المُخرِجِ زَهرَتَه، كَما لا تَستَغني الأرضُ وإن عَذُبَت تُربَتُها عنِ الماءِ المُخرِجِ ثَمَرَتَها.
وقال بَعضُ الحُكَماءِ: الأدَبُ صورةُ العَقلِ، فصَوِّرْ عَقلَك كَيف شِئتَ.
وقال آخَرُ: العَقلُ بلا أدَبٍ كالشَّجَرِ العاقِرِ، ومَعَ الأدَبِ كالشَّجَرِ المُثمِرِ.
وقيلَ: الأدَبُ أحَدُ المَنصِبَينِ.
وقال بَعضُ البُلَغاءِ: الفضلُ بالعَقلِ والأدَبِ، لا بالأصلِ والحَسَبِ؛ لأنَّ مَن ساءَ أدَبُه ضاعَ نَسَبُه، ومَن قَلَّ عَقلُه ضَلَّ أصلُه.
وقال بَعضُ الأُدَباءِ: ذَكِّ قَلبَك بالأدَبِ كما تُذكى النَّارُ بالحَطَبِ، واتَّخِذِ الأدَبَ غُنْمًا، والحِرصَ عليه حَظًّا، يَرتَجيك راغِبٌ، ويَخافُ صَولتَك راهِبٌ، ويُؤَمَّلُ نَفعُك، ويُرجى عَدلُك.
وقال بَعضُ العُلَماءِ: الأدَبُ وسيلةٌ إلى كُلِّ فضيلةٍ، وذَريعةٌ إلى كُلِّ شَريعةٍ.
وقال بَعضُ الفُصَحاءِ: الأدَبُ يَستُرُ قَبيحَ النَّسَبِ.
وقال بَعضُ الشُّعَراءِ فيه:
فما خَلَق اللهُ مِثلَ العُقولِ
ولا اكتَسَبَ النَّاسُ مِثلَ الأدَبْ
وما كَرَمُ المَرءِ إلَّا التُّقى
ولا حَسَبُ المَرءِ إلَّا النَّسَبْ
وفي العِلمِ زَينٌ لأهلِ الحِجا
وآفةُ ذي الحِلمِ طَيشُ الغَضَبْ
وأنشَدَ الأصمَعيُّ:
وإن يَكُ العَقلُ مَولودًا فلستُ أرى
ذا العَقلِ مُستَغنيًا عن حادِثِ الأدَبِ
إنِّي رَأيتُهما كالماءِ مُختَلِطًا
بالتُّربِ تَظهَرُ مِنه زَهرةُ العُشبِ
وكُلُّ مَن أخطَأته في مَوالِدِه
غَريزةُ العَقلِ حاكى البَهْمَ في الحَسَبِ)
[51] ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص: 232). .
- (وقال رَجُلٌ مِن قيسٍ لِرَجُلٍ مِن قُرَيشٍ: اطلُبِ الأدَبَ؛ فإنَّه زيادةٌ في العَقلِ، ودَليلٌ على المُروءةِ، وصِلةٌ في المَجلِسِ، ثُمَّ قال:
تَعلَّمْ فليس المَرءُ يُخلَقُ عالِمًا
وليس أخو عِلمٍ كمَن هو جاهِلُ
فإنَّ كَبيرَ القَومِ لا عِلمَ عِندَه
صَغيرٌ إذا التفَّتْ عليه المَحافِلُ
ولا تَرضَ مِن عَيشٍ بدونٍ ولا يَكُنْ
نَصيبَك إرثٌ قدَّمَته الأوائِلُ
وكان يُقالُ: مَن قَعَدَ به حَسَبُه، نَهَضَ به أدَبُه.
وكان يُقالُ: الأدَبُ خَيرُ ميراثٍ، وحُسنُ الخُلُقِ خَيرُ قَرينٍ، والتَّوفيقُ خَيرُ قائِدٍ.
وقال يَحيى بنُ مُعاذٍ: مَن تَأدَّبَ بأدَبِ اللَّهِ صارَ مِن أهلِ مَحَبَّةِ اللهِ.
وقالوا: مَن كَثُرَ أدَبُه شَرُف وإن كان وضيعًا، وسادَ وإن كان غَريبًا، وكَثُرَتِ الحاجةُ إليه وإن كان فقيرًا.
وقالوا: الأدَبُ اللَّازِمُ خَيرٌ مِنَ الحَسَبِ المُضافِ.
وقال بَعضُ الحُكَماءِ: أحسَنُ الحِليةِ الأدَبُ، ولا حَسَبَ لِمَن لا مُروءةَ لَه، ولا مُروءةَ لِمَن لا أدَبَ لَه، ومَن تَأدَّبَ مِن غَيرِ أهلِ الحَسَبِ ألحَقَه الأدَبُ بهم.
وقال آخَرُ: يَتَشَعَّبُ مِنَ الأدَبِ التَّشَرُّفُ وإن كان صاحِبُه دَنيًّا، والعِزُّ وإن كان صاحِبُه مَهينًا، والقُربُ وإن كان صاحِبُه قَصيًّا، والغِنى وإن كان فقيرًا، والنُّبلُ وإن كان حَقيرًا، والمَهابةُ وإن كان وضيعًا، والسَّلامةُ وإن كان سَفيهًا.
وسَمِعَ بَعضُ الحُكَماءِ رَجُلًا يَقولُ: أنا غَريبٌ، فقال: الغَريبُ مَن لا أدَبَ له)
[52] يُنظر: ((لباب الآداب)) لأسامة بن منقذ (ص: 228-234). .
- (وَصَف أعرابيٌّ الأدَبَ في مَجلِسِ مُعتَمِرِ بنِ سُليمانَ، فقال: الأدَبُ أدَبُ الدِّينِ، وهو داعيةٌ إلى التَّوفيقِ، وسَبَبٌ إلى السَّعادةِ، وزادٌ مِنَ التَّقوى، وهو أن تَعلَمَ شَرائِعَ الإسلامِ، وأداءَ الفرائِضِ، وأن تَأخُذَ لنَفسِك بحَظِّها مِنَ النَّافِلةِ، وتَزيدَ ذلك بصِحَّةِ النِّيَّةِ، وإخلاصِ النَّفسِ، وحُبِّ الخَيرِ، مُنافِسًا فيه، مُبغِضًا للشَّرِّ نازِعًا عنه، ويَكونَ طَلَبُك للخَيرِ رَغبةً في ثَوابِه، ومُجانَبَتُك للشَّرِّ رَهبةً مِن عِقابِه، فتَفوزَ بالثَّوابِ، وتَسلَمَ مِنَ العِقابِ، ذلك إذا اعتَزَلتَ رُكوبَ الموبِقاتِ، وآثَرتَ الحَسَناتِ المُنجياتِ.
وقال أعرابيٌّ: الأديبُ مَنِ اعتَصَمَ بعِزِّ الأدَبِ مِن ذِلَّةِ الجَهلِ، ولم يَتَورَّطْ في هَفوةٍ، وكان أدَبُه زُلفى إلى الحُظوةِ في دُنياه وأُخراه.
قال مَنصور الفقيه:
ليسَ الأديبُ أخا الرِّوا
يةِ للنَّوادِرِ والغَريبِ
ولشِعرِ شَيخِ المُحَدِّثينَ
أبي نواسٍ أو حَبيبِ
بَل ذو التَّفضُّلِ والمُرو
ءةِ والعَفافِ هو الأديبُ
وكان يُقالُ: مَن لم يَصلُحْ على أدَبِ اللَّهِ لم يَصلُحْ على اختيارِه لنَفسِه
[53] نَسَبَه ابنُ عَبدِ البَرِّ في مَوضِعٍ آخَرَ للهلاليِّ، قال: (قال الهِلاليُّ: مَن لم يَصلُحْ على أدَبِ اللَّهِ لم يَصلُحْ على اختيارِه لنَفسِه، ومَن تعَزَّز بمَعصيةِ اللهِ أذاقَه اللهُ ذُلًّا بحَقٍّ). ((بهجة المجالس)) (1/ 394). .
وقال الحُطَيئةُ:
إذا نَكَباتُ الدَّهرِ لم تَعِظِ الفتى
عنِ الجَهلِ يَومًا لم تَعِظْه أنامِلُه
ومَن لم يُؤَدِّبْه أبوه وأُمُّه
تُؤَدِّبُه رَوعاتُ الرَّدى وزَلازِلُه
فدَعْ عنك ما لا تَستَطيعُ ولا تُطِعْ
هَواك ولا يَذهَبْ بحَقِّك باطِلُه
وقال آخَرُ:
مَن لم يُؤَدِّبْه والِداه
أدَّبَه اللَّيلُ والنَّهارُ
وقال مُحَمَّدُ بنُ جَعفَرٍ: الأدَبُ رياسةٌ، والحَزمُ كِياسةٌ، والغَضَبُ نارٌ، والصَّخَبُ عارٌ.
وقال ابنُ القِرِّيَّةِ: تَأدَّبوا فإن كُنتُم مُلوكًا سُدتُم، وإن كُنتُم أوساطًا رُفِعتُم، وإن كُنتُم فُقَراءَ استَغنَيتُم.
قال شَبيبُ بنُ شَيبةَ: اطلُبوا الأدَبَ فإنَّه عَونٌ على المُروءةِ، وزيادةٌ في العَقلِ، وصاحِبٌ في الغُربةِ، وحِليةٌ في المَجالِسِ)
[54] ((بهجة المجالس)) (1/ 110-112). .
-وقال بَعضُهم:
خَيرُ ما ورَّثَ الرِّجالُ بَنيهم
أدَبٌ صالِحٌ وحُسنُ الثَّناءِ
هو خَيرٌ مِنَ الدَّنانيرِ والأوراقِ
في يَومِ شِدَّةٍ أو رَخاءِ
تلك تَفنى والدِّينُ والأدَبُ الصَّا
لحُ لا يَفنَيانِ حتَّى اللِّقاءِ
إذا تَأدَّبتَ يا بُنَيَّ صَغيرًا
كُنتَ يَومًا تُعَدُّ في الكُبَراءِ
وإذا ما أضَعتَ نَفسَك أُلفِيتَ
كَبيرًا في زُمرةِ الغَوغاءِ
ليسَ عَطفُ القَضيبِ إن كان
رَطبًا وإذا كان يابسًا بسَواءِ
[55] ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (1/ 362)، ((بهجة المجالس)) لابن عبد البر (1/ 109، 769). -وقال السَّمَرقَنديُّ: (يَنبَغي للرَّجُلِ أن يَتَعَلَّمَ شَيئًا مِنَ العِلمِ والأدَبِ وإن كان قَليلًا؛ لأنَّ القَليلَ مِنهما كَثيرٌ، وإنَّ الرَّجُلَ إذا عَلِمَ كَلمةً مِنَ العِلمِ والأدَبِ كان له فَضلٌ على مَن لا يَتَعَلَّمُ شَيئًا.
وقال عليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ تعالى عنه: لكُلِّ شَيءٍ قيمةٌ، وقيمةُ المَرءِ ما يُحسِنُ ويَعلمُ.
ورُويَ عنِ الشَّعبيِّ أنَّه قال: لو أنَّ رَجُلًا سافَر مِن أقصى الشَّامِ إلى أقصى اليَمَنِ وتَعلَّمَ كَلِمةً مِنَ العِلمِ لم يُضَيِّعْ سَفَرَه...
وقال بَعضُ الحُكَماءِ: إنَّ العِلمَ النَّافِعَ والأدَبَ الصَّالحَ كَسبٌ لا يَغصِبُه مِنك غاصِبٌ، ولا يَسلُبُه مِنك سالِبٌ، وهما جَمالُك وزينَتُك وقِوامُ دينِك ودُنياك وآخِرَتِك، فاجتَهِدْ في تَعَلُّمِهما)
[56] ((بستان العارفين)) (ص: 377). .
- (وقالتِ الحُكَماءُ: الأدَبُ أحَدُ المُنصِفين. وقالوا: نِعمَ العَونُ لمَن لا عَونَ له الأدَبُ. وقال الأحنَفُ: الأدَبُ نورُ العَقلِ كَما أنَّ النَّارَ في الظُّلمةِ نورُ البَصَرِ.
وقالتِ الحُكَماء: جاهُك بالمالِ إنَّما يَصحَبُك ما صَحِبَك المالُ، وجاهُك بالأدَبِ غَيرُ زائِلٍ.
وقد جَمَعَ اللهُ تعالى لنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جُملةً مِنَ الأدَبِ في قَولِه سُبحانَه:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90] ، وأمَر بذلك عِبادَه؛ فيَجِبُ على الإنسانِ أن يُؤَدِّبَ نَفسَه قَبلَ أن يُؤَدِّبَ لسانَه، وأن يُهَذِّبَ أخلاقَه قَبلَ أن يُهَذِّبَ ألفاظَه.
قيل للعَبَّاسِ بنِ عَبدِ المُطَّلِبِ رَضِيَ اللهُ عنه: أنتَ أكبَرُ أم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قال: هو أكبَرُ مِنِّي، وأنا أسَنُّ مِنه.
قال الشَّاعِرُ:
مَن خانَه نَسَبٌ فليُطلُبِ الأدَبا
ففيه مَنبَهةٌ إن حَلَّ أو ذَهَبا
فاطلُبْ لنَفسِك آدابًا تَعِزُّ بها
حتَّى تَسودَ به مَن يَملِكُ الذَّهَبا
إنَّ الأديبَ ليُحيي ذِكرَ والِدِه
كالغَيثِ يُحيي نَداه حَيثُما انسَكَبا
وقال آخَرُ:
كُنِ ابنَ مَن شِئتَ واكتَسِبْ أدَبًا
يُغنيك مأثورُه عنِ الحَسَبِ
إنَّ الفَتى مَن يَقولُ ها أنا ذا
ليسَ الفتى مَن يَقولُ كان أبي)
[57] يُنظر: ((عين الأدب والسياسة)) لأبي الحسن بن هذيل (ص: 120). .
- (ومِن فضيلةِ الأدَبِ أنَّه مَمدوحٌ بكُلِّ لسانٍ، ومُتَزَيَّنٌ به في كُلِّ مَكانٍ، وباقٍ ذِكرُه على أيَّامِ الزَّمانِ.
وقد شُبِّهَ العالمُ الشَّريفُ العَديمُ الأدَبِ بالبُنيانِ الخَرابِ الذي كُلَّما عَلا سُمكُه كان أشَدَّ لوَحشَتِه، وبالنَّهرِ اليابسِ الذي كُلَّما كان أعرَضَ وأعمَقَ كان أشَدَّ لوُعورَتِه، وبالأرضِ الجَيِّدةِ المُعَطَّلةِ التي كُلَّما طال خَرابُها ازدادَ نَباتُها غَيرُ المُنتَفَعِ به التِفافًا، وصارَ للهَوامِّ مَسكَنًا)
[58] يُنظر: ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص: 231، 232). .
- وقال ابنُ جَماعةَ: (إنَّ مِن أهَمِّ ما يُبادِرُ به اللَّبيبُ شَرخَ شَبابِه ويُدئِبُ نَفسَه في تَحصيلِه واكتِسابِه حُسنَ الأدَبِ الذي شَهِدَ الشَّرعُ والعَقلُ بفَضلِه، واتَّفقَتِ الآراءُ والألسِنةُ على شُكرِ أهلِه، وإنَّ أحَقَّ النَّاسِ بهذه الخَصلةِ الجَميلةِ وأولاهم بحيازةِ هذه المَرتَبةِ الجَليلةِ أهلُ العِلمِ الذينَ حَلُّوا به ذِروةَ المَجدِ والسَّناءِ، وأحرَزوا به قَصَباتِ السَّبقِ إلى وِراثةِ الأنبياءِ؛ لعِلمِهم بمَكارِمِ أخلاقِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وآدابِه، وحُسنِ سِيرةِ الأئِمَّةِ الأطهارِ مِن أهلِ بَيتِه وأصحابِه، وبما كان عليه أئِمَّةُ عُلماءِ السَّلفِ، واقتَدى بهَديِهم فيه مَشايِخُ الخَلَفِ.
قال ابنُ سِيرينَ: كانوا يَتَعَلَّمونَ الهَديَ كَما يَتَعَلَّمونَ العِلمَ.
وقال الحَسَنُ: إن كان الرَّجُلُ ليَخرُجُ في أدَبٍ يَكسِبُه السِّنينَ ثُمَّ السِّنينَ.
وقال سُفيانُ بنُ عُيَينةَ: إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو الميزانُ الأكبَرُ، وعليه تُعرَضُ الأشياءُ: على خُلُقِه وسيرَتِه وهَديِه، فما وافقَها فهو الحَقُّ، وما خالفها فهو الباطِلُ.
وقال بَعضُهم لابنِه: يا بُنَيَّ، لأن تَتَعَلَّمَ بابًا مِنَ الأدَبِ أحَبُّ إليَّ مِن أن تَتَعَلَّمَ سَبعينَ بابًا مِن أبوابِ العِلمِ.
وقيل للشَّافِعيِّ رَضِيَ اللهُ عنه: كَيف شَهوتُك للأدَبِ؟ فقال: أسمَعُ بالحَرفِ مِنه مِمَّا لم أسمَعْه فتَودُّ أعضائي أنَّ لها أسماعًا تَتَنَعَّمُ به. قيل: وكَيف طَلبُك له؟ قال: طَلبُ المَرأةِ المُضِلَّةِ وَلَدَها وليسَ لها غَيرُه)
[59] ((تذكرة السامع والمتكلم)) (ص: 31، 32). .
- وقال السَّفَّارينيُّ: (اعلَمْ أنَّ تَعَلُّمَ الآدابِ وحُسنَ السَّمتِ والقَصدَ والحَياءَ والسِّيرةَ مَطلوبٌ شَرعًا وعُرفًا...
وقال النَّخَعيُّ: كانوا إذا أتَوا الرَّجُلَ ليَأخُذوا عنه نَظَروا إلى سَمتِه وصَلاتِه وإلى حالِه، ثُمَّ يَأخُذونَ عنه.
وقال عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه: تَأدَّبوا ثُمَّ تَعَلَّموا.
وقال ابنُ عبَّاسٍ: اطلُبِ الأدَبَ؛ فإنَّه زيادةٌ في العَقلِ، ودَليلٌ على المُروءةِ مُؤنِسٌ في الوَحدةِ، وصاحِبٌ في الغُربةِ، ومالٌ عِندَ القِلَّةِ. رَواه الأصبَهانيُّ في مُنتَخَبِه.
وقال أبو عَبدِ اللَّهِ البَلخيُّ: أدَبُ العِلمِ أكثَرُ مِنَ العِلمِ.
وقال الإمامُ عَبدُ اللَّهِ بنُ المُبارَكِ: لا يَنبُلُ الرَّجُلُ بنَوعٍ مِنَ العِلمِ ما لم يُزَيِّنْ عِلمَه بالأدَبِ. ذَكَره الحاكِمُ في تاريخِه.
ويُروى عنه أيضًا أنَّه قال: طَلبتُ العِلمَ فأصَبتُ مِنه شَيئًا، وطَلبتُ الأدَبَ فإذا أهلُه قد بادوا.
وقال بَعضُ الحُكَماءِ: لا أدَبَ إلَّا بعَقلٍ، ولا عَقلَ إلَّا بأدَبٍ)
[60] ((غذاء الألباب)) (1/ 36). وينظر: ((الغنية لطالبي طريق الحق)) للجيلاني (1/ 116)، ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (3/ 552). .
- وكان يُقالُ: أربَعةٌ يَسودُ بها العَبدُ: العِلمُ، والأدَبُ، والفِقهُ، والأمانةُ
[61] ((لباب الآداب)) لأسامة بن منقذ (1/ 229). .
- وقال بَكر أبو زَيد: (لقد تَوارَدَت موجِباتُ الشَّرعِ على أنَّ التَّحَلِّيَ بمَحاسِنِ الأدَبِ، ومَكارِمِ الأخلاقِ، والهَديِ الحَسَنِ، والسَّمتِ الصَّالحِ: سِمةُ أهلِ الإسلامِ، وأنَّ العِلمَ -وهو أثمَنُ دُرَّةٍ في تاجِ الشَّرعِ المُطَهَّرِ- لا يَصِلُ إليه إلَّا المُتَحَلِّي بآدابِه، المُتَخَلِّي عن آفاتِه؛ ولهذا عناها العُلماءُ بالبَحثِ والتَّنبيهِ، وأفرَدوها بالتَّأليفِ، إمَّا على وَجهِ العُمومِ لكافَّةِ العُلومِ، أو على وَجهِ الخُصوصِ، كَآدابِ حَمَلةِ القُرآنِ الكَريمِ، وآدابِ المُحَدِّثِ، وآدابِ المُفتي، وآدابِ القاضي، وآدابِ المُحتَسِبِ، وهكذا)
[62] ((حلية طالب العلم)) (ص: 138). .