موسوعة الآداب الشرعية

رابعًا: عَدَمُ قَولِ: "عليك السَّلامُ" ابتِداءً


من السُّنَّة أن يَقولَ المُسَلِّمُ: (السَّلامُ عليكُم ورَحمةُ اللهِ وبَرَكاتُه)، وألا يبتدئ السَّلام بقوله: (عليك السَّلامُ) [71] يُنظر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/ 205)، ((المسالك في شرح موطأ مالك)) لابن العربي (7/ 509)، ((الأذكار)) للنووي (ص: 250). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
فعن أبي جُرَيٍّ جابِرِ بنِ سُلَيمٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((رَأيتُ رَجُلًا يَصدُرُ النَّاسُ عن رأيِه [72] يريدُ أنَّ النَّاسَ ينصَرِفون عمَّا يراه ويستصوِبُه ويَحكُمُ به، يقالُ: صَدَر عن المكانِ، أي: رجَع عنه، وصَدَر إليه، أي: جاءه، فالوارِدُ: الجائي، والصَّادِرُ: المنصَرِفُ، شَبَّه المنصَرِفين عن حَضرتِه بعدَ توَجُّهِهم إليها ليسألوه عن أمرِ دينِهم وعمَّا يُهِمُّهم من مصالِحِ مَعادِهم ومَعاشِهم بالواردةِ إذا صدروا عن المنهَلِ بعدَ رِيٍّ. يُنظر: ((الميسر في شرح مصابيح السنة)) للتوربشتي (2/ 448، 449). لا يقولُ شَيئًا إلَّا صَدَروا عنه، قُلْنا: مَن هذا؟ قالوا: رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قُلتُ: عليك السَّلامُ يا رَسولَ اللهِ، مَرَّتَينِ، قال: لا تَقُلْ: عليك السَّلامُ؛ فإنَّ عليك السَّلامُ تَحيَّةُ المَيِّتِ، قُل: السَّلامُ عليكم)) [73] أخرجه أبو داودَ (4084) واللفظُ له، والتِّرمِذيُّ (2722). صحَّحه لغيرِه الألبانيُّ في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (770)، وقال الوادعيُّ في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (196): يَرْتقي إلى الصِّحَّةِ، وقال الترمذيُّ: حَسنٌ صحيحٌ، وجوَّد إسنادَه العراقيُّ في ((تخريج الإحياء)) (3/151)، وحسَّنه الذَّهبيُّ في ((المهذب)) (8/4253) وقال: لبعضِه طرقٌ عن جابرٍ. وذهَب إلى تصحيحِه ابنُ دقيقِ العيدِ في ((الاقتراح)) (129)، وابنُ القيِّمِ في ((زاد المعاد)) (2/383)، وابنُ حجرٍ كما في ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (5/322). .
قال الخَطَّابيُّ: (قَولُه: «عليك السَّلامُ تَحيَّةُ الميِّتِ» يوهمُ أنَّ السُّنَّةَ في تَحيَّةِ الميِّتِ أن يُقالَ له: عليك السَّلامُ، كما يَفعَلُه كثيرٌ مِنَ العامَّةِ، وقد ثَبَتَ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه دَخَل المَقبَرةَ، فقال: السَّلامُ عليكُم أهلَ دارِ قَومِ مُؤمِنينَ [74] أخرجه مسلم (974) مِن حَديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، بلفظ: ((السَّلامُ عَليكُم دارَ قَومٍ مُؤمِنينَ)). ، فقَدَّمَ الدُّعاءَ على اسمِ المَدعوِّ له كهُو في تَحيَّةِ الأحياءِ، وإنَّما قال ذلك القَولَ مِنه إشارةً إلى ما جَرَت به العادةُ مِنهم في تَحيَّةِ الأمواتِ؛ إذ كانوا يُقَدِّمونَ اسمَ الميِّتِ على الدُّعاءِ، وهو مَذكورٌ في أشعارِهم، كقَولِ الشَّاعِرِ [75] البيتُ لعَبدةَ بنِ الطبيبِ. انظر: ((شعر عبدة)) (ص: 87)، ((الشعر والشعراء)) لابن قتيبة (2/ 718)، ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (1/ 402). :
عليك سَلامُ اللَّهِ قَيسُ بنَ عاصِمٍ
ورَحمَتُه ما شاءَ أن يَتَرَحَّما
وكقَولِ الشَّمَّاخِ [76] يُنظر: ((ديوان الشماخ- الملحق)) (ص: 448)، ((شرح ديوان الحماسة)) للتبريزي (1/ 453). وقابل بـ: ((الشعر والشعراء)) لابن قتيبة (1/ 307)، ((الأغاني)) للأصفهاني (9/ 109). :
عليك سَلامٌ مِن أديمٍ وبارَكَت
يَدُ اللهِ في ذاك الأديمِ المُمَزَّقِ
فالسُّنَّةُ لا تَختَلِفُ في تَحيَّةِ الأحياءِ والأمواتِ) [77] ((معالم السنن)) (4/ 194، 195). .
وقال التُّورِبِشْتيُّ: (لم يُرِدْ بقَولِه هذا أنَّ الميِّتَ يَنبَغي أن تَكونَ تَحيَّتُه على هذه الصِّيغةِ؛ فإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يُسَلِّمُ على الأمواتِ تَسليمَه على الأحياءِ، فيَقولُ: «السَّلامُ عليكُم أهلَ الدِّيارِ مِنَ المُؤمِنينَ» [78] أخرجه مسلم (975) مِن حَديثِ بُرَيدةَ بنِ الحُصَيبِ الأسلَميِّ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وإنَّما أرادَ به أنَّ هذه التَّحيَّةَ يَصلُحُ أن يُحَيِّيَ بها الأمواتَ لا الأحياءَ؛ وذلك لمَعنيينِ، أحَدُهما: أنَّ تلك الكَلِمةَ شُرِعَت لجَوابِ التَّحيَّةِ، ومِن حَقِّ المُسلِمِ أن يُحيِّيَ صاحِبَه بما شُرِعَ له مِنَ التَّحيَّةِ، فيُجيبُه هو بما شُرِعَ له مِنَ الجَوابِ، فليس له أن يَجعَلَ الجَوابَ مَكانَ التَّحيَّةِ، وأمَّا في حَقِّ الميِّتِ فإنَّ الغَرَضَ مِنَ التَّسليمِ عليه أن تَشمَلَه بَرَكةُ السَّلامِ، والجَوابُ غيرُ مُنتَظَرٍ هنالك؛ فله أن يُسَلِّمَ عليه بكِلتا الصِّيغَتينِ.
ووجهٌ آخَرُ: وهو أنَّ إحدى فوائِدِ السَّلامِ: أن يُسمِعَ المُسلِمُ أخاه المُسلِمَ ليَجعَلَ له الأمنَ مِن قِبَلِه، وإذا بَدَأ بقَولِه: عليك، لم يَحصُلْ له الأمنُ حتَّى يَلحَقَ به السَّلامُ، بَل يَزدادُ به استيحاشًا، ويَتَوهَّمُ أنَّه يَدعو عليه، فأُمِر بالمُسارَعةِ إلى إيناسِ الأخِ المُسلِمِ بتَقديمِ السَّلامِ، وهذا المَعنى غيرُ مَطلوبٍ في الميِّتِ؛ فساغَ للمُسلمِ أن يَفتَتِحَ مِنَ الكلمَتينِ بأيَّتِهما شاءَ) [79] ((الميسر في شرح مصابيح السنة)) للتوربشتي (2/ 449). ويُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (6/ 605، 606)، ((الكاشف عن حقائق السنن)) للطيبي (5/ 1555)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (4/ 1344). .

انظر أيضا: