عاشرًا: السَّلامُ مَعَ الاستِئذانِ
مِن السُّنَّةِ أن يُسَلِّمَ قَبلَ أن يَستَأذِنَ إذا دَخَل بيتًا غيرَ بَيتِه
[112] قال النَّوويُّ: (السُّنَّةُ: أن يُسَلِّمَ ثُمَّ يَستَأذِنَ، فيَقومَ عِندَ البابِ بحيثُ لا يَنظُرُ إلى مَن في داخِلِه، ثُمَّ يَقولُ: السَّلامُ عليكُم، أأدخُلُ؟ فإن لم يُجِبْه أحَدٌ قال ذلك ثانيًا وثالثًا، فإن لم يُجِبْه أحَدٌ انصَرَف... وهذا الذي ذَكرناه مِن تَقديم السَّلامِ على الاستِئذانِ هو الصَّحيحُ). ((الأذكار)) (ص: 259، 260). وقال ابنُ القَيِّمِ: (صَحَّ عَنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم التَّسليمُ قَبل الاستِئذانِ فِعلًا وتَعليمًا... وفي هذه السُّنَنِ رَدٌّ على مَن قال: يُقَدَّمُ الاستِئذانُ على السَّلامِ، ورَدٌّ على مَن قال: إن وقَعَت عينُه على صاحِبِ المَنزِلِ قَبلَ دُخولِه بَدَأ بالسَّلامِ، وإن لم تَقَعْ عينُه عليه بَدَأ بالاستِئذانِ، والقَولانِ مُخالِفانِ للسُّنَّةِ). ((زاد المعاد)) (2/ 392، 393). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ والآثارِ:أ- مِنَ الكِتابِ1- قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور: 27] .
2- قال تعالى:
فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [النور: 61] .
أي: فإذا دَخَلتُم -أيُّها المُسلِمونَ- بُيوتَكُم أو بُيوتَ غيرِكُم، فليُسلِّمْ بَعضُكُم على بَعضٍ
تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً أي: ليُحَيِّ بَعضُكُم بَعضًا -أيُّها المُسلِمونَ- بالسَّلامِ تَحيَّةً شَرَعَها اللهُ لكُم كثيرةَ الخَيراتِ والبَرَكاتِ، عَظيمةَ الثَّوابِ والحَسَناتِ، جَميلةً في ألفاظِها، حَسَنةً في مَعانيها، تَجلِبُ المَحَبَّةَ والمَودَّةَ، وتَطيبُ بها نَفسُ سامِعيها
[113] ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية (19/ 488، 489). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ1- عن كَلَدةَ بنِ حَنبَلٍ رَضيَ اللهُ عنه:
((أنَّ صَفوانَ بنَ أُميَّةَ بَعَثَه بلَبَنٍ ولِبَأٍ [114] لِبَأٌ، كعِنَبٍ: هو أوَّلُ ما يُحلَبُ عِندَ الوِلادةِ. يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (4/ 221)، ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (7/ 407). وضَغابِيسَ [115] الضَّغابِيسُ: صِغارُ القِثَّاءِ، واحِدُها ضُغبوسٌ، ومِنه قيلَ للرَّجُلِ الضَّعيفِ: ضُغبوسٌ؛ تَشبيهًا له به. يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (4/ 153). إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأعلى الوادي، قال: فدَخَلتُ عليه ولَم أُسَلِّمْ ولَم أستَأذِنْ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ارجِعْ فقُل: السَّلامُ عليكُم، أأدخُلُ؟)) [116] أخرجه أبو داود (5176)، والترمذي (2710) واللفظ له، وأحمد (15425). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2710)، وشعيب الأرناؤوط ف في تخريج ((سنن أبي داود)) (5176)، وجوَّده ابنُ القيم في ((زاد المعاد)) (2/379). .
2- عن رِبعيٍّ، قال: حَدَّثَنا رَجُلٌ مِن بَني عامِرٍ:
((أنَّه استَأذَنَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو في بيتٍ، فقال: آلِجُ؟ فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لخادِمِه: اخرُجْ إلى هذا فعَلِّمْه الاستِئذانَ، فقُلْ له: قُلْ: السَّلامُ عليكُم، آدْخُلُ؟ فسَمِعَه الرَّجُلُ، فقال: السَّلامُ عليكُم، آدْخُلُ؟ فأذِنَ له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فدَخَل)) [117] أخرجه أبو داود (5177) واللفظ له، وأحمد (23127). صَحَّحه ابنُ القيم في ((زاد المعاد)) (2/392)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (5177)، والوادعي على شرط الشيخين في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1496)، وصَحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (23127). .
3- عن عَبدِ اللهِ بنِ بُسرٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال:
((كانَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا أَتى بابَ قَومٍ لم يَستقبِلِ البابَ مِن تِلقاءِ وَجهِه، ولكِنْ مِن رُكنِه الأيمَنِ أو الأيسَرِ، ويقولُ: السَّلامُ عليكم، السَّلامُ عليكم؛ وذلك أنَّ الدُّورَ لم يكنْ عليها سُتورٌ يَومَئذٍ)) [118] أخرجه أبو داود (5186) واللفظ له، وأحمد (17694) بنحوه. جود إسناده الألباني في ((هداية الرواة)) (4597)، وحسنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((زاد المعاد)) (2/380). .
4- عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه أو غيرِه:
((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم استَأذَنَ على سَعدِ بنِ عُبادةَ، فقال: السَّلامُ عليكُم ورَحمةُ اللهِ، فقال سَعدٌ: وعليك السَّلامُ ورَحمةُ اللهِ، ولم يُسمِعِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى سَلَّمَ ثَلاثًا، ورَدَّ عليه سَعدٌ ثَلاثًا، ولم يُسمِعْه، فرَجَعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واتَّبَعَه سَعدٌ، فقال: يا رَسولَ اللهِ، بأبي أنتَ وأمِّي! ما سَلَّمتَ تسليمةً إلَّا هي بأذُني، ولقَد رَدَدتُ عليك ولم أُسمِعْك، أحبَبتُ أن أستَكثِرَ مِن سَلامِك، ومِنَ البَرَكةِ! ثُمَّ أدخَلَه البيتَ فقَرَّب له زَبيبًا، فأكل نَبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا فرَغَ قال: أكَلَ طَعامَكُمُ الأبرارُ، وصَلَّت عليكُمُ المَلائِكةُ، وأفطَرَ عِندَكُمُ الصَّائِمونَ)) [119] أخرجه أحمد (12406) واللفظ له، وعبد الرزاق (19425)، والبيهقي (14788). صحح إسناده النووي في ((الأذكار)) (247)، والعراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/16)، والألباني في ((آداب الزفاف)) (97)، وشعيب الأرناؤوط على شرط الشيخين في تخريج ((مسند أحمد)) (12406). .
5- عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه
((أنَّه أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو في مَشرَبةٍ [120] المَشرَبةُ: كالخِزانةِ تكونُ للإنسانِ، مرتَفِعة عن وَجهِ الأرضِ. يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (4/ 154). له، فقال: السَّلامُ عليك يا رَسولَ اللهِ، السَّلامُ عليكُم، أيَدخُلُ عُمَرُ؟)) [121] أخرجه أبو داود (5201) واللفظ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (10153). صَحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (5201). وذهب إلى تصحيحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (5201). وأخرجه أحمد (2756)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (10154)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (1085) باختِلافٍ يَسيرٍ مِن حَديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما؛ ولفظ أحمد: عن ابن عباس، قال: ((جاء عمرُ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو في مَشْرُبةٍ له، فقال: السلامُ عليكَ يا رسولَ اللهِ، السلامُ عليكَ، أيدخُلُ عمرُ؟)). صَحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (4/267)، والألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (827)، وشعيب الأرناؤوط على شرط مسلم في تخريج ((مسند أحمد)) (2756). .
ج- مِنَ الآثارِ1- عن زَيدِ بنِ أسلَمَ، قال: (بَعَثَني أبي إلى ابنِ عُمَرَ، فقُلتُ: أألِجُ؟ فقال: لا تَقُلْ هكذا، ولكِنْ قُلْ: السَّلامُ عليكُم، فإذا قيل: وعليكُم، فادخُلْ)
[122] أخرجه ابنُ أبي شيبة (26188). .
2- عن عَطاءٍ، قال: (سَمِعتُ أبا هُرَيرةَ يَقولُ: إذا قال: أأدخُلُ؟ ولم يُسَلِّمْ، فقُل: لا، حتَّى تَأتيَ بالمِفتاحِ. قُلتُ: السَّلامُ؟ قال: نَعَمْ)
[123] أخرجه البخاريُّ في ((الأدب المفرد)) (1083). صَحَّح إسنادَه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (6/478). .
وفي لفظٍ عن عَطاءٍ، عن أبي هُرَيرةَ فيمَن يَستَأذِنُ قَبلَ أن يُسَلِّمَ، قال: (لا يُؤذَنُ له حتَّى يَبدَأَ بالسَّلامِ)
[124] أخرجه ابن أبي شيبة كما في ((الدر المنثور)) للسيوطي (6/173)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (1066). صحَّح إسنادَه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (813). .
وفي آخَرَ: (إذا دَخَل ولم يَقُلْ: السَّلامُ عليكُم، فقُل: لا، حتَّى يَأتيَ بالمِفتاحِ: السَّلامُ)
[125] أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (1067). صحَّحه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (817). .
فائِدةٌ:قال ابنُ عاشورٍ في قَولِه تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور: 27] : (ظاهِرُ الآيةِ أنَّ الاستِئذانَ واجِبٌ، وأنَّ السَّلامَ واجِبٌ، غيرَ أنَّ سياقَ الآيةِ لتَشريعِ الاستِئذانِ، وأمَّا السَّلامُ فتَقَرَّرَت مَشروعيَّتُه مِن قَبلُ في أوَّلِ الإسلامِ، ولم يكُنْ خاصًّا بحالةِ دُخولِ البُيوتِ، فلم يكُنْ للسَّلامِ اختِصاصٌ هنا، وإنَّما ذُكِر مَعَ الاستِئذانِ للمُحافَظةِ عليه مَعَ الاستِئذانِ؛ لئَلَّا يُلهيَ الاستِئذانُ الطَّارِقَ فيَنسى السَّلامَ، أو يَحسَبَ الاستِئذانَ كافيًا عَنِ السَّلامِ... وقال ابنُ العَرَبيِّ في «أحكام القُرآنِ»: قال جَماعةٌ: الاستِئذانُ فَرضٌ، والسَّلامُ مُستَحَبٌّ
[126] قال ابنُ العَرَبيِّ: (قال جَماعةٌ: الاستِئذانُ فَرضٌ، والسَّلامُ مُستَحَبٌّ. وبيانُه: أنَّ التَّسليمَ كيفيَّةٌ في الإذنِ. رَوى مُطَرِّفٌ عَن مالكٍ عَن زيدِ بنِ أسلَمَ أنَّه استَأذَنَ على ابنِ عُمَرَ، فقال: أألِجُ؟ فأذِنَ له ابنُ عُمَرَ. قال زيدٌ: فلمَّا قَضيتُ حاجَتي أقبَل عليَّ ابنُ عُمَرَ، فقال: ما لك واستِئذانَ العَرَبِ؟ إذا استَأذَنتَ فقُل: السَّلامُ عليكُم، فإذا رَدَّ عليك السَّلامَ، فقُل: أأدخُلُ؟ فإن أذِنَ لك فادخُلْ. فعَلَّمَه سُنَّةَ السَّلامِ). ((أحكام القُرآنِ)) (3/ 371). ...
وأقولُ: ليس قَرنُ الاستِئذانِ بالسَّلامِ في الآيةِ بمُقتَضٍ مُساواتَهما في الحُكمِ إذا كانت هنالك أدِلَّةٌ أخرى تُفرِّقُ بينَ حُكمَيهما، وتلك أدِلَّةٌ مِنَ السُّنَّةِ، ومِنَ المَعنى فإنَّ فائِدةَ الاستِئذانِ دَفعُ ما يُكرَهُ عَنِ المَطروقِ المَزورِ، وقَطعُ أسبابِ الإنكارِ أوِ الشَّتمِ أوِ الإغلاظِ في القَولِ، مَعَ سَدِّ ذَرائِعِ الرَّيبِ، وكُلُّها أو مَجموعُها يَقتَضي وُجوبَ الاستِئذانِ.
وأمَّا فائِدةُ السَّلامِ مَعَ الاستِئذانِ فهي تَقويةُ الأُلفةِ المُتَقَرِّرةِ، فلا تَقتَضي أكثَرَ مِن تَأكُّدِ الاستِحبابِ.
فالقُرآنُ أمَرَ بالحالةِ الكامِلةِ، وأحال تَفصيلَ أجزائِها على تَبيينِ السُّنَّةِ، كما قال تعالى:
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] .
وقد أُجمِلَت حِكمةُ الاستِئذانِ في قَولِه تعالى:
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرونَ [النور: 27] ، أي: ذلكمُ الاستِئذانُ خيرٌ لكُم، أي: فيه خيرٌ لكُم ونَفعٌ، فإذا تَدَبَّرتُم عَلِمتُم ما فيه مِن خيرٍ لكُم كما هو المَرجوُّ مِنكُم.
وقد جَمَعَتِ الآيةُ الاستِئذانَ والسَّلامَ بواوِ العَطفِ المُفيدِ التَّشريكَ فقَط، فدَلَّت على أنَّه إن قَدَّمَ الاستِئذانَ على السَّلامِ أو قَدَّمَ السَّلامَ على الاستِئذانِ فقَد جاءَ بالمَطلوبِ مِنه، وورَدَ في أحاديثَ كثيرةٍ الأمرُ بتَقديمِ السَّلامِ على الاستِئذانِ، فيَكونُ ذلك أَولى، ولا يُعارِضُ الآيةَ)
[127] ((التحرير والتنوير)) (18/ 198، 199). .