موسوعة الآداب الشرعية

تاسعًا: تَسليةُ المُغتَمِّ وتَطييبُ نَفسِه


يُستَحَبُّ لكُلٍّ مِنَ الزَّائِرِ والمَزورِ إذا وجَدَ أحَدُهما أخاه مُغتَمًّا حَزينًا أن يُنَفِّسَ عنه ويُسَلِّيَه ويُطَيِّبَ نَفسَه ويُؤنِسَه.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن نَفَّسَ عن مُؤمِنٍ كُربةً مِن كُرَبِ الدُّنيا نَفَّسَ اللهُ عنه كُربةً مِن كُرَبِ يَومِ القيامةِ، ومِن يَسَّر على مُعسِرٍ يَسَّر اللَّهُ عليه في الدُّنيا والآخِرةِ، ومَن سَتَرَ مُسلِمًا سَتره اللَّهُ في الدُّنيا والآخِرةِ، واللهُ في عَونِ العَبدِ ما كان العَبدُ في عَونِ أخيه...)) الحَديثَ [413] أخرجه مسلم (2699). .
2- عن جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ قال: (دخل أبو بكرٍ يَستأذِنُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فوجد النَّاسَ جُلوسًا ببابِه، لم يُؤذَنْ لأحَدٍ منهم، قال: فأُذِنَ لأبي بكرٍ، فدخَل، ثمَّ أقبل عُمَرُ، فاستأذَن فأُذِنَ له، فوَجَد النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جالسًا حولَه نِساؤُه، واجِمًا ساكِتًا، قال: فقال [414] يعني: أبا بكرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللهُ عنه. خِلافًا لِمَن جَعَل قائِلَ هذه المقالةِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه. يُنظر: ((الكوكب الوهاج)) للهرري (16/ 217). : لأقولَنَّ شَيئًا أُضحِكُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رَسولَ اللهِ، لو رَأيتَ بنتَ خارِجةَ [415] قال ابنُ حَجَرٍ: (حَبيبةُ بنتُ خارِجةَ بنِ زَيدٍ، أو بنتُ زَيدِ بنِ خارِجةَ الخَزرجيَّةُ، زَوجُ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ، ووالِدةُ أُمِّ كُلثومٍ ابنَتُه التي ماتَ أبو بَكرٍ وهيَ حامِلٌ بها، فقال: "ذو بَطنِ بنتِ خارِجةَ ما أظُنُّها إلَّا أُنثى"، فكان كذلك). ((الإصابة في تمييز الصحابة)) لابن حجر (8/ 80). قال ابنُ عبدِ البَرِّ: (أمَّا بنتُ خارِجةَ فهي زَوجَتُه، واسمُها حَبيبةُ بنتُ خارِجةَ بنِ زَيدِ بنِ أبي زُهَيرٍ، الذي آخى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَينَه وبَين أبي بَكرٍ إذ قدِمَ المَدينةَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وآخى بَينَ المُهاجِرينَ والأنصارِ، وكان قَولُ أبي بَكرٍ ظَنًّا كاليَقينِ، والعَرَبُ تَقولُ: ظَنُّ الحَليمِ مَهابةٌ). ((الاستذكار)) (7/ 229). ويُنظر: ((الطبقات الكبير)) لابن سعد (3/ 155، 486) و (10/ 338، 429). سَألَتْني النَّفَقةَ، فقُمتُ إليها، فوجَأتُ [416] فوَجَأَت: أي: ضَرَبتُ. والوَجأُ: الضَّربُ باليَدِ. ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (5/ 2122). عُنُقَها! فضَحِكَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقال: هنَّ حَولي كما تَرى، يَسألنَني النَّفَقةَ...)) الحَديثَ [417] أخرجه مسلم (1478). .
قال النَّوويُّ: (قَولُه: «لأقولَنَّ شَيئًا يُضحِكُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم» وفي بَعضِ النُّسَخِ: «أُضحِكُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم»: فيه استِحبابُ مِثلِ هذا، وأنَّ الإنسانَ إذا رَأى صاحِبَه مَهمومًا حَزينًا يُستَحَبُّ له أن يُحَدِّثَه بما يُضحِكُه أو يَشغَلُه ويُطَيِّبُ نَفسَه، وفيه فضيلةٌ لأبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه) [418] ((شرح مسلم)) (10/ 81). .
3- قال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه: ((كُنتُ أنا وجارٌ لي مِنَ الأنصارِ في بَني أُميَّةَ بنِ زَيدٍ، وهم مِن عَوالي المَدينةِ، وكُنَّا نَتَناوبُ النُّزولَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيَنزِلُ يَومًا وأنزِلُ يَومًا، فإذا نَزَلتُ جِئتُه بما حَدَثَ مِن خَبَرِ ذلك اليَومِ مِنَ الوحيِ أو غَيرِه، وإذا نَزَل فَعَل مِثلَ ذلك. وفيه: ... قال عُمَرُ: وكُنَّا قد تحَدَّثنا أنَّ غَسَّان تُنعِلُ الخَيلَ لغَزوِنا، فنَزَل صاحِبي الأنصاريُّ يَومَ نَوبَتِه، فرَجَعَ إلينا عِشاءً، فضَرَبَ بابي ضَربًا شَديدًا، وقال: أثَمَّ هو؟ ففزِعتُ فخَرَجتُ إليه، فقال: قد حَدَثَ اليَومَ أمرٌ عَظيمٌ! قُلتُ: ما هو، أجاءَ غَسَّانُ؟ قال: لا، بَل أعظَمُ مِن ذلك وأهوَلُ، طَلَّقَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نِساءَه! فقُلتُ: خابَت حَفصةُ وخَسِرَت، قد كُنتُ أظُنُّ هذا يوشِكُ أن يَكونَ! فجَمَعتُ عليَّ ثيابي، فصَلَّيتُ صَلاةَ الفَجرِ مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فدَخَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَشرُبةً له فاعتَزَل فيها، ودَخَلتُ على حَفصةَ، فإذا هيَ تَبكي، فقُلتُ: ما يُبكيك ألم أكُنْ حَذَّرتُك هذا، أطَلَّقكُنَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قالت: لا أدري، ها هو ذا مُعتَزِلٌ في المَشرُبةِ، فخَرَجتُ فجِئتُ إلى المِنبَرِ، فإذا حَولَه رَهطٌ يَبكي بَعضُهم، فجَلستُ مَعَهم قَليلًا، ثُمَّ غَلبَني ما أجِدُ، فجِئتُ المَشرُبةَ التي فيها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقُلتُ لغُلامٍ له أسوَدَ: استَأذِنْ لعُمَرَ...، وفيه: فقال أي: الغلامُ: قد أذِنَ لك النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فدَخَلتُ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فإذا هو مُضطَجِعٌ على رِمالِ حَصيرٍ، ليسَ بَينَه وبَينَه فِراشٌ، قد أثَّرَ الرِّمالُ بجَنبِه، مُتَّكِئًا على وِسادةٍ مَن أدَمٍ حَشوُها ليفٌ! فسَلَّمتُ عليه، ثُمَّ قُلتُ وأنا قائِمٌ: يا رَسولَ اللهِ، أطلَّقتَ نِساءَك؟ فرَفعَ إليَّ بَصَرَه فقال: لا. فقُلتُ: اللهُ أكبَرُ! ثُمَّ قُلتُ وأنا قائِمٌ أستَأنِسُ: يا رَسولَ اللهِ، لو رَأيتَني وكُنَّا -مَعشَرَ قُرَيشٍ- نَغلبُ النِّساءَ، فلمَّا قدِمنا المَدينةَ إذا قَومٌ تَغلِبُهم نِساؤُهم، فتَبَسَّمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! ثُمَّ قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، لو رَأيتَني ودَخَلتُ على حَفصةَ فقُلتُ لها: لا يَغُرَّنَّك أن كانت جارَتُك أوضَأَ مِنك، وأحَبَّ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -يُريدُ: عائِشةَ-، فتَبَسَّمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَبَسُّمةً أُخرى! فجَلستُ حينَ رَأيتُه تَبَسَّمَ...)) الحَديثَ [419] أخرجه البخاري (5191). .
وفي رِوايةٍ: ((فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أطَلَّقتَهنَّ؟ قال: لا، قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي دَخَلتُ المَسجِدَ والمُسلمونَ يَنكُتونَ بالحَصى، يَقولونَ: طَلَّقَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نِساءَه! أفأنزِلُ فأخبِرُهم أنَّك لم تُطَلِّقْهنَّ؟ قال: نَعَم، إن شِئتَ. فلم أزَلْ أُحَدِّثُه حتَّى تَحَسَّر [420] أي: زال وانكَشَف. ((إكمال المعلم)) لعياض (5/ 41). الغَضَبُ عن وَجهِه، وحتَّى كَشَّرَ [421] قال الخَليلُ: (الكَشرُ: بُدُوُّ الأسنانِ عِندَ التَّبَسُّمِ). ((العين)) (5/ 291). وقال ابنُ السِّكِّيتِ: (يُقالُ للرَّجُلِ إذا تَبَسَّمَ: تَبَسَّمَ فلانٌ، وبَسمَ، وابتَسَمَ، وكَشَّرَ، وانكَلَّ، وافتَرَّ، كُلُّ ذلك منه تَبدو الأسنانُ، فإذا اشتَدَّ ضَحِكُه قيل: قَهقَهَ، وكَركَرَ، وزَهزَقَ، فإذا أفرَطَ قيل: استَغرَبَ ضَحِكًا). ((إصلاح المنطق)) (ص: 295). فضَحِكَ، وكان مِن أحسَنِ النَّاسِ ثَغرًا...)) [422] أخرجها مسلم (1479). .
قال عياضٌ: (فيه بَسطُ نَفسِ الغَضبانِ، وتَسليةُ المُغتَمِّ بما يُباحُ مِنَ الحَديثِ، لا بالسُّخفِ مِنَ الكَلامِ والأفعالِ) [423] ((إكمال المعلم)) (5/ 37). .
وقال ابنُ هُبَيرةَ: (في هذا مِنَ الفِقهِ أنَّ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه ذَكَر صورةَ حالِه مَعَ امرَأتِه على نَوعِ انبساطٍ وطيبِ كَلامٍ مَمزوجٍ بيَسيرٍ مِنَ المَزحِ في حَقِّ نَفسِه، مُستَجلِبًا بذلك تَبَسُّمَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلا جَرَمَ أنَّه أصابَ مَقصَدَه، وتَبَسَّمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكذلك عن حَديثِه عن حَفصةَ حتَّى تَبَسَّمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثانيةً) [424] ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (1/ 129). وقال خالِدُ بنُ صَفوانَ: (لا بَأسَ بالمُفاكَهةِ تُخرِجُ الرَّجُلَ مِن حالِ العُبوسِ). ((محاضرات الأدباء)) للراغب (1/ 346). .

انظر أيضا: