موسوعة الآداب الشرعية

تَمهيدٌ في التَّرغيبِ في إكرامِ الضَّيفِ


حَثَّ الإسلامُ على إكرامِ الضَّيفِ، وجَعَل له حَقًّا؛ فعن عَبدِ اللَّهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يا عَبدَ اللهِ، ألم أُخبَرْ أنَّك تَصومُ النَّهارَ، وتَقومُ اللَّيلَ؟ فقُلتُ: بَلى يا رَسولَ اللهِ، قال: فلا تَفعَلْ، صُمْ وأفطِرْ، وقُمْ ونَمْ؛ فإنَّ لجَسَدِك عليك حَقًّا، وإنَّ لعَينِك عليك حَقًّا، وإنَّ لزَوجِك عليك حَقًّا، وإنَّ لزَورِك [471] الزَّورُ: الزَّائِرُ، والمصادِرُ كَثيرًا ما توضَعُ مَوضِعَ الأسماءِ والصِّفاتِ، كقَولِهم: رَجُلٌ صَومٌ، أي: صائِمٌ، ونَومٌ، أي: نائِمٌ. والزَّورُ أيضًا جَمعُ الزَّائِرِ، كَقَولِهم: راكِبٌ ورَكْبٌ، وتاجِرٌ وتَجْرٌ. يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (2/ 972). ويُنظر أيضًا: ((معالم السنن)) للخطابي (1/ 281). وقال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (أمَّا حَقُّ الزَّورِ -وهو الزَّائِرُ والضَّيفُ- فهو: القيامُ بإكرامِه، وخِدمَتُه، وتَأنيسُه بالأكلِ مَعَه). ((المفهم)) (3/ 225). عليك حَقًّا، وإنَّ بحَسْبِك أن تَصومَ كُلَّ شَهرٍ ثَلاثةَ أيَّامٍ، فإنَّ لك بكُلِّ حَسَنةٍ عَشرَ أمثالِها؛ فإنَّ ذلك صيامُ الدَّهرِ كُلِّه)) [472] أخرجه البخاري (1975) واللَّفظُ له، ومسلم (1159). .
وجُعِل إكرامُ الضَّيفِ عَلامةً على الإيمانِ باللهِ واليَومِ الآخِرِ؛ فعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فلا يُؤذِ جارَه، ومَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فليُكرِمْ ضَيفَه، ومَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فليَقُلْ خَيرًا أو ليَصمُتْ)) [473] أخرجه البخاري (6018) واللَّفظُ له، ومسلم (47). .
وعن أبي شُريحٍ العَدَويِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((سَمِعَت أذُنايَ، وأبصَرَت عينايَ، حينَ تَكلَّمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: مَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فليُكرِمْ جارَه، ومَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فليُكرِمْ ضَيفَه جائِزَتَه. قال: وما جائِزَتُه يا رَسولَ اللهِ؟ قال: يَومٌ وليلةٌ، والضِّيافةُ ثَلاثةُ أيَّامٍ، فما كان وراءَ ذلك فهو صَدَقةٌ عليه، ومَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فليَقُلْ خيرًا أو ليَصمُتْ)) [474] أخرجه البخاري (6019) واللَّفظُ له، ومسلم (48). .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (لمَّا كان الضَّيفُ مِن حَيثُ إنَّه يَأوي إلى مُضيفِه في حالةٍ يَتَعَيَّنُ على المُضيفِ أن يَقومَ مِنها بمَبلغِ وُسعِه إيمانًا بأنَّ اللَّهَ سُبحانَه وتعالى سَيُخلِفُ عليه ما أنفقَ على ضَيفٍ قَصَده، لا قَرابةَ بَينَه وبَينَه، ولا يَرجوه ولا يَخافُه، بَل مِن حَيثُ إنَّه يَأوي إليه، فكان ذلك مِن خِصالِ الإيمانِ؛ لأنَّ الضَّيفَ قد يأتى في وقتٍ -وهو مَلِكٌ- في زيِّ مِسكينٍ؛ لأنَّه قد يَأتي في وقتٍ لا يُمكِنُه أن يَنتَفِعَ بمُلكِه في مَوضِعٍ لا يُمكِنُه أن يَبتاعَ ما يُريدُه، فيَكونُ المُضيفُ له كالمُتَصَدِّقِ عليه، إلَّا أنَّها صَدَقةٌ كَريمةٌ، أُخرِجَت مُخرَجَ الضِّيافةِ ليَقبَلَها الغَنيُّ، ولا يَستَنكِفَ عنها ذو الوُجدِ، فكان المُؤمِنُ إذا رَأى ذلك مِن أسرارِها رَأى أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ ساقَ إليه ذلك الغَنيَّ ليُضيفَه، فتَصَدَّق عليه بفَضلِه، فهو مِن مَحاسِنِ فِقهِ الإيمانِ) [475] ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (6/ 391، 392). وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: (رَوى أبو تَوبةَ الرَّبيعُ بنُ نافِعٍ عن بَقيَّةَ عنِ الأوزاعيِّ أنَّه قال له: يا أبا عَمرٍو، الضَّيفُ يَنزِلُ بنا فنُطعِمُه الزَّيتونَ والكامَخَ، وعِندَنا ما هو أفضَلُ مِنه؛ العَسَلُ والسَّمنُ! فقال: إنَّما يَفعَلُ هذا مَن لا يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ. ولا أعلَمُ خِلافًا بَينَ العُلماءِ في مَدحِ مُضيفِ الضَّيفِ وحَمدِه والثَّناءِ بذلك عليه، وكُلُّهم يَندُبُ إلى ذلك ويَجعَلُه مِن مَكارِمِ الأخلاقِ وسُنَنِ المُرسَلينَ). ((التمهيد)) (21/ 42، 43). .
وعن عائِشةَ أمِّ المُؤمِنينَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّها قالت: ((أوَّلُ ما بُدِئَ به رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ الوَحيِ الرُّؤيا الصَّالحةُ في النَّومِ، فكان لا يَرى رُؤيا إلَّا جاءَت مِثلَ فَلَقِ الصُّبحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إليه الخَلاءُ، وكان يَخلو بغارِ حِراءٍ فيَتَحَنَّثُ فيه -وهو التَّعَبُّدُ- اللَّياليَ ذَواتِ العَدَدِ قَبل أن يَنزِعَ إلى أهلِه، ويَتَزَوَّدُ لذلك، ثُمَّ يَرجِعُ إلى خَديجةَ فيَتَزَوَّدُ لمِثلِها، حتَّى جاءَه الحَقُّ وهو في غارِ حِراءٍ، فجاءَه المَلَكُ فقال: اقرَأْ، قال: ما أنا بقارِئٍ! قال: فأخَذَني فغَطَّني حتَّى بَلغَ مِنِّي الجَهدَ ثُمَّ أرسَلَني! فقال: اقرَأْ، قُلتُ: ما أنا بقارِئٍ! فأخَذَني فغَطَّني الثَّانيةَ حتَّى بَلغَ مِنِّي الجَهدَ ثُمَّ أرسَلَني! فقال: اقرَأْ، فقُلتُ: ما أنا بقارِئٍ! فأخَذَني فغَطَّني الثَّالثةَ ثُمَّ أرسَلَني! فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ [العلق: 1 - 3] ، فرَجَعَ بها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَرجُفُ فُؤادُه، فدَخَل على خَديجةَ بنتِ خُوَيلِدٍ رَضِيَ اللهُ عنها، فقال: زَمِّلوني زَمِّلوني! فزَمَّلوه حتَّى ذَهَبَ عَنه الرَّوعُ، فقال لخَديجةَ وأخبَرَها الخَبَرَ: لقَد خَشِيتُ على نَفسي! فقالت خَديجةُ: كَلَّا واللَّهِ ما يُخزيك اللهُ أبَدًا؛ إنَّك لتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَحمِل الكَلَّ، وتَكسِبُ المَعدومَ، وتَقرِي الضَّيفُ، وتُعينُ على نَوائِبِ الحَقِّ...)) الحَديثَ [476] أخرجه البخاري (3) واللَّفظُ له، ومسلم (160). .
قال النَّوويُّ: (أمَّا قَولُها: «وتَقرِي الضَّيفَ» فهو بفَتحِ التَّاءِ، قال أهلُ اللُّغةِ: يُقالُ: قَريتُ الضَّيفَ أَقْرِيه قِرًى -بكَسرِ القافِ مَقصورٌ- وقَراءً -بفتحِ القافِ والمَدِّ-، ويُقالُ للطَّعامِ الذي يُضيفُه به: قِرًى، بكَسرِ القافِ مَقصورٌ، ويُقالُ لفاعِلِه: قارٍ، مِثلُ: قَضى فهو قاضٍ ...
قال العُلماءُ رَضِيَ اللهُ عنهم: مَعنى كَلامِ خَديجةَ رَضِيَ اللهُ عنها: إنَّك لا يُصيبُك مَكروهٌ؛ لِما جَعَل اللَّهُ فيك مِن مَكارِمِ الأخلاقِ وكَرَمِ الشَّمائِلِ، وذَكَرَت ضُروبًا مِن ذلك.
وفي هذا دَلالةٌ على أنَّ مَكارِمَ الأخلاقِ وخِصالَ الخَيرِ سَبَبُ السَّلامةِ مِن مَصارِعِ السُّوءِ) [477] ((شرح مسلم)) (2/ 202). .
وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أوصى عِندَ مَوتِه بثَلاثٍ؛ مِنها: ((وأجيزوا الوَفدَ [478] قال ابنُ الجَوزيِّ: (قَولُه: «أجيزوا الوَفدَ» أي أعطُوهم. والجائِزةُ: العَطاءُ). ((كشف المشكل)) (2/ 316). بنَحوِ ما كُنتُ أُجيزُهم)) [479] أخرجه البخاري (3053)، ومسلم (1637). .
قال عياضٌ: (قَولُه: «وأجيزوا الوَفدَ بنَحوِ ما كُنتُ أُجيزُهم» سُنَّةٌ منه عليه السَّلامُ في ذلك لازِمةٌ للأئِمَّةِ بَعدَه للوُفودِ عليهم؛ تَطييبًا لنُفوسِهم، وتَرغيبًا لأمثالِهم مِمَّن يُستَألَفُ، وقَضاءً لحَقٍّ قَصدِهم، ومَعونةً بهم على سَفرِهم، وسَواءٌ عِندَ أهلِ العِلمِ كانوا مُسلِمينَ أو كُفَّارًا؛ لأنَّ الكافِرَ إذا وفَدَ إنَّما يَفِدُ فيما بَينَهم وبَينَ المُسلمينَ وفي مَصالحِهم غالِبًا) [480] ((إكمال المعلم)) (5/ 383). .
وقال النَّوويُّ: (قال العُلماءُ: هذا أمرٌ منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإجازةِ الوُفودِ وضيافتِهم وإكرامِهم؛ تَطيببًا لنُفوسِهم، وتَرغيبًا لغَيرِهم مِنَ المُؤَلَّفةِ قُلوبُهم ونَحوِهم، وإعانةً على سَفَرِهم) [481] ((شرح مسلم)) (11/ 94). .
وعن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال له: ((فِراشٌ للرَّجُلِ، وفِراشٌ لامرَأتِه، والثَّالِثُ للضَّيفِ، والرَّابعُ للشَّيطانِ)) [482] أخرجه مسلم (2084). .
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (أمَّا فِراشُ الضَّيفِ فيَتَعَيَّنُ للمُضيفِ إعدادُه له؛ لأنَّه مِن بابِ إكرامِه، والقيامِ بحَقِّه، ولأنَّه لا يَتَأتَّى له شَرعًا الاضطِجاعُ ولا النَّومُ مَعَ المُضيفِ وأهلِه على فِراشٍ واحِدٍ.
ومَقصودُ هذا الحَديثِ: أنَّ الرَّجُلَ إذا أرادَ أن يَتَوسَّعَ في الفُرُشِ فغايَتُه ثَلاثٌ، والرَّابعُ لا يَحتاجُ إليه؛ فهو مِن بابِ السَّرَفُ) [483] ((المفهم)) (5/ 404، 405). .
وإكرامُ الضَّيفِ وبرُّه مِن سُنَنِ المُرسَلينَ، ألَا تَرى ما صَنَعَ إبراهيُم بضَيفِه حينَ جاءَهم بعِجلٍ سَمينٍ [484] ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (4/ 118، 119). ؟
قال الأبشيهيُّ: (قالوا: المائِدةُ مَرزوقةٌ، أي: مَن كان مِضيافًا وسَّع اللَّهُ عليه.
وقالوا: أوَّلُ مَن سَنَّ القِرى إبراهيمُ الخَليلُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وأوَّلُ مَن ثَرَدَ الثَّريدَ وهَشَمَه هاشِمٌ، وأوَّلُ مَن أفطَرَ جيرانُه على طَعامِه في الإسلامِ عَبدُ اللَّهِ بنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ تعالى عنهما، وهو أوَّلُ مَن وضَعَ مَوائِدَه على الطَّريقِ، وكان إذا خَرَجَ من بَيتِه طَعامٌ لا يَعودُ منه شَيءٌ، فإن لم يَجِدْ مَن يَأكُلُه تَرَكَه على الطَّريقِ.
وقيل لبَعضِ الكُرَماءِ: كَيف اكتَسَبتَ مَكارِمَ الأخلاقِ، والتَّأدُّبَ مَعَ الأضيافِ؟ فقال: كانتِ الأسفارُ تحوِجُني إلى أن أفِدَ على النَّاسِ، فما استَحسَنتُه مِن أخلاقِهمُ اتَّبَعتُه، وما استَقبَحتُه اجتَنَبتُه) [485] ((المستطرف في كل فن مستطرف)) (ص: 191). .
وفيما يلي بيانُ أهمِّ آدابِ الضِيافةِ:

انظر أيضا: