موسوعة الآداب الشرعية

رابعًا: تَصريحُ المُستَأذِنِ باسمِه


يَنبَغي إذا قال صاحِبُ البَيتِ: مَنِ الطَّارِقُ؟ أو: مَن هذا؟ أن يُصَرِّحَ المُستَأذِنُ باسمِه دونَ تَعميةٍ، ولا يَقتَصِرَ على قَولِ: أنا [679] قال النَّوويُّ: (السُّنَّةُ لمَنِ استَأذَنَ بدَقِّ البابِ ونَحوِه، فقيل له: مَن أنتَ؟ أن يَقولَ: فُلانُ بنُ فُلانٍ، أو فُلانٌ الفُلانيُّ، أو فُلانٌ المَعروفُ بكَذا، أو فُلانٌ فقَط، ونَحوَ ذلك مِنَ العِباراتِ، بحَيثُ يَحصُلُ التَّعريفُ التَّامُّ به، والأَولى ألَّا يَقتَصِرَ على قَولِه: أنا، أوِ الخادِمُ، ونَحوَ هذا... ولا بَأسَ أن يَصِف نَفسَه بما يُعرَفُ به إذا لم يَعرِفْه المُخاطَبُ بغَيرِه، وإن تَضَمَّن ذلك صورةَ تَبجيلٍ له بأن يُكَنِّيَ نَفسَه أو يَقولَ: أنا القاضي فُلانٌ، أوِ المُفتي، أوِ الشَّيخُ والأميرُ، ونَحوُه للحاجةِ، وقد ثَبَتَ في هذا أحاديثُ كَثيرةٌ؛ مِنها: عن أبي قتادةَ -واسمُه الحارِثُ بنُ رِبعيٍّ- في حَديثِ الميضَأةِ المُشتَمِلِ على مُعجِزاتٍ وعُلومٍ، قال: «فرَفعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَأسَه، فقال: مَن هذا؟ قُلتُ: أنا أبو قتادةَ» رَواه مُسلِمٌ [681].     وعن أبي ذَرٍّ -واسمُه جُندُبُ بنُ جُنادةَ- قال: «خَرَجتُ ليلةً فإذا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَمشي وحدَه، فجَعَلتُ أمشي في ظِلِّ القَمَرِ، فالتَفتَ فرَآني، قال: مَن هذا؟ فقُلتُ: أبو ذَرٍّ». رَواه البخاريُّ [6443] ومسلمٌ [94].     وعن أُمِّ هانِئٍ -واسمُها فاخِتةُ، وقيل: فاطِمةُ، وقيل: هِندٌ- قالت: «أتَيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يَغتَسِلُ، وفاطِمةُ تَستُرُه، فقال: مَن هذه؟ فقُلتُ: أنا أمُّ هانِئٍ». رَواه البخاري [280] ومسلم [336]). ((المجموع)) (4/ 622، 623). ويُنظر: ((الأذكار)) (ص: 260، 261). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن أنَسِ بنِ مالكٍ، عن مالِكِ بنِ صَعصَعةَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((بينا أنا عِندَ البَيتِ بَينَ النَّائِمِ واليَقظانِ -وذَكَرَ: يَعني رَجُلًا بَينَ الرَّجُلينِ- فأُتيتُ بطَستٍ مِن ذَهَبٍ، مُلئَ حِكمةً وإيمانًا، فشُقَّ مِنَ النَّحرِ إلى مَراقِّ البَطنِ [680] مَراقُّ البَطنِ: ما سَفُل منه ورَقَّ مِن جِلدِه، واحِدُها مَرَقٌّ. يُنظر: ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (3/ 182). ، ثُمَّ غُسِل البَطنُ بماءِ زَمزَمَ، ثُمَّ مُلئَ حِكمةً وإيمانًا، وأُتيتُ بدابَّةٍ أبيَضَ دونَ البَغلِ وفوقَ الحِمارِ: البُراقُ، فانطَلقتُ مَعَ جِبريلَ حتَّى أتَينا السَّماءَ الدُّنيا، قيل: مَن هذا؟ قال: جِبريلُ، قيل: مَن مَعَكَ؟ قال: مُحَمَّدٌ، قيل: وقد أُرسِلَ إليه؟ قال: نَعَم، قيل: مَرحَبًا به، ولنِعْمَ المَجيءُ جاءَ! فأتَيتُ على آدَمَ فسَلَّمتُ عليه، فقال: مَرحَبًا بكَ مِنِ ابنٍ ونَبيٍّ، فأتَينا السَّماءَ الثَّانيةَ، قيل: مَن هذا؟ قال: جِبريلُ، قيل: مَن مَعَكَ؟ قال: مُحَمَّدٌ، قيل: أُرسِل إليه، قال: نَعَم، قيل: مَرحَبًا به، ولنِعمَ المَجيءُ جاءَ! فأتَيتُ على عيسى ويَحيى فقالا: مَرحَبًا بكَ مِن أخٍ ونَبيٍّ، فأتَينا السَّماءَ الثَّالثةَ، قيل: مَن هذا؟ قيل: جِبريلُ، قيل: مَن مَعَكَ؟ قيل: مُحَمَّدٌ، قيل: وقد أُرسِل إليه؟ قال: نَعَم، قيل: مَرحَبًا به، ولنِعمَ المَجيءُ جاءَ! فأتَيتُ على يوسُفَ فسَلَّمتُ عليه، قال: مَرحَبًا بكَ مِن أخٍ ونَبيٍّ، فأتَينا السَّماءَ الرَّابعةَ، قيل: مَن هذا؟ قال: جِبريلُ، قيل: مَن مَعَكَ؟ قيل: مُحَمَّدٌ، قيل: وقد أُرسِلَ إليه؟ قيل: نَعَم، قيل: مَرحَبًا به، ولنِعمَ المَجيءُ جاءَ، فأتَيتُ على إدريسَ فسَلَّمتُ عليه، فقال: مَرحَبًا بكَ مِن أخٍ ونَبيٍّ، فأتَينا السَّماءَ الخامِسةَ، قيل: مَن هذا؟ قال: جِبريلُ، قيل: ومَن مَعَك؟ قيل: مُحَمَّدٌ، قيل: وقد أُرسِل إليه؟ قال: نَعَم، قيل: مَرحَبًا به، ولنِعمَ المَجيءُ جاءَ، فأتَينا على هارونَ فسَلَّمتُ عليه، فقال: مَرحَبًا بكَ مِن أخٍ ونَبيٍّ، فأتَينا على السَّماءِ السَّادِسةِ، قيل: مَن هذا؟ قيل: جِبريلُ، قيل: مَن مَعَك؟ قيل: مُحَمَّدٌ...)) الحديثَ [681] أخرجه البخاري (3207) واللفظ له، ومسلم (164). .
2- عن شريك بن أبي نمر، عن سعيد بن المسيب، أخبرني أبو موسى الأشعري، ((أنَّه تَوضَّأ في بَيتِه ثُمَّ خَرَجَ، فقال: ((لألزَمَنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولأكونَنَّ مَعَه يومي هذا، قال: فجاءَ المَسجِدَ، فسَأل عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالوا: خَرَجَ وَجْهَ هاهنا [682] أي: قَصْدَ هذه الجِهةِ. يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (7/ 408). ، قال فخَرَجتُ على أثَرِه أسألُ عنه، حتَّى دَخَل بِئرَ أَرِيسَ، قال: فجَلستُ عِندَ البابِ، وبابُها مِن جَريدٍ، حتَّى قَضى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حاجَتَه وتَوضَّأ، فقُمتُ إليه، فإذا هو قد جَلسَ على بئرِ أَرِيسَ وتَوسَّطٌ قُفَّها [683] قال عياضٌ: (الأشبَهُ بالقُفِّ هنا البناءُ الذي حولَ البِئرِ. قال ابنُ دُرَيدٍ: القُفُّ: الغليظُ المرتَفِعُ من الأرضِ. ومثلُ هذا هو الذي يتَّفِقُ للجماعةِ الجُلوسُ عليه وتَدَلِّي أرجُلِهم منه في البئرِ، ومقابَلةُ أحَدِهم من الجانِبِ الآخَرِ). ((إكمال المعلم)) (7/ 408). ويُنظر: ((جمهرة اللغة)) لابن دريد (1/ 161). ، وكشَف عن ساقَيه، ودَلَّاهما في البئرِ، قال: فسَلَّمتُ عليه، ثُمَّ انصَرَفتُ فجَلسَتُ عِندَ البابِ، فقُلتُ: لأكونَنَّ بَوَّابَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اليومَ، فجاءَ أبو بَكرٍ فدَفعَ البابَ، فقُلتُ: مَن هذا؟ فقال أبو بَكرٍ: فقُلتُ: على رِسْلِك [684] قال عياضٌ: (على رِسْلِك: بفَتحِ الرَّاءِ وكَسرِها، وهما بمعنى التَّثبُّتِ والسُّكونِ. وقيل: بالفَتحِ، أي: على رِفقِك ولِينِك، وأصلُه من السَّيرِ اللَّيِّنِ، وبالكَسرِ: على تُؤَدتِك وتَركِ العَجَلةِ، وهما متقارِبانِ). ((إكمال المعلم)) (7/ 408، 409). ، قال: ثُمَّ ذَهَبتُ فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، هذا أبو بَكرٍ يستَأذِنُ، فقال: ائذَنْ له، وبَشِّرْه بالجنَّةِ، قال: فأقبَلتُ حتَّى قُلتُ لأبي بَكرٍ: ادخُلْ، ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُبَشِّرُك بالجَنَّةِ، قال: فدَخَل أبو بَكرٍ، فجَلسَ عن يمينِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مَعَه في القُفِّ، ودَلَّى رِجليه في البئرِ كما صَنَعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكشَف عن ساقَيه، ثُمَّ رَجَعتُ فجَلستُ، وقد تَرَكتُ أخي يتَوضَّأُ ويلحَقُني، فقُلتُ: إن يُرِدِ اللهُ بفُلانٍ -يُريدُ أخاه- خَيرًا يأتِ به، فإذا إنسانٌ يُحَرِّكُ البابَ، فقُلتُ: مَن هذا؟ فقال: عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، فقُلتُ: على رِسْلِك، ثُمَّ جِئتُ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فسَلَّمتُ عليه وقُلتُ: هذا عُمرُ يستَأذِنُ، فقال: ائذَنْ له وبَشِّرْه بالجنَّةِ، فجِئتُ عُمَرَ فقُلتُ: أذِنَ ويُبَشِّرُك رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالجَنَّةِ، قال فدَخَل فجَلسَ مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في القُفِّ عن يسارِه، ودَلَّى رِجلَيه في البئرِ، ثُمَّ رَجَعتُ فجَلَستُ فقُلتُ: إن يرِدِ اللهُ بفُلانٍ خَيرًا -يعني أخاه- يأتِ به، فجاءَ إنسانٌ فحَرَّك البابَ، فقُلتُ: مَن هذا؟ فقال: عُثمانُ بنُ عَفَّانَ، فقُلتُ: على رِسْلِك، قال: وجِئتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأخبَرتُه، فقال: ائذَنْ له وبَشِّره بالجَنَّةِ، مَعَ بَلوى تُصيبُه، قال: فجِئتُ فقُلتُ: ادخُلْ، ويُبَشِّرُك رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالجَنَّةِ مَعَ بَلوى تُصيبُك، تُصيبُك، قال: فدَخَل فوجَدَ القُفَّ قد مُلئَ، فجَلسَ وِجاهَهم مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ. قال شَريكٌ: فقال سَعيدُ بنُ المُسَيِّبِ: فأوَّلْتُها قُبورَهم)) [685] أخرجه البخاري (3674)، ومسلم (2403) واللفظ له. .
3- عن أمِّ هانئٍ بنتِ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((ذَهَبتُ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عامَ الفتحِ، فوجَدتُه يَغتَسِلُ، وفاطِمةُ ابنَتُه تَستُرُه، قالت: فسَلَّمتُ عليه، فقال: مَن هذه؟ فقُلتُ: أنا أمُّ هانِئٍ بنتُ أبي طالبٍ، فقال: مَرحَبًا بأُمِّ هانِئٍ...)) [686] أخرجه البخاري (357) واللفظ له، ومسلم (336). .
4- عن عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها قالت: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَهِرَ، فلمَّا قَدِم المدينةَ قال: ليت رجُلًا من أصحابي صالحًا يحرُسُني اللَّيلةَ، إذ سَمِعْنا صوتَ سِلاحٍ، فقال: مَن هذا؟ فقال: أنا سَعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ، جِئتُ لأحرُسَك، ونام النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) [687] أخرجه البخاري (2885) واللفظ له، ومسلم (2410). .
وفي رِوايةٍ: ((سَهِرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَقدَمَه المَدينةَ ليلةً، فقال: ليتَ رَجُلًا صالحًا مِن أصحابي يَحرُسُني اللَّيلةَ، قالت: فبَينا نَحنُ كذلك سَمِعْنا خَشخَشةَ [688] خَشخَشةُ السِّلاحِ، أي: صوتُ حَكِّ بَعضِه ببَعضٍ أو صوتُه عندَ تحريكِه. يُنظر: ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (2/ 478)، ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (4/ 355). سِلاحٍ، فقال: مَن هذا؟ قال: سَعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما جاءَ بك؟ قال: وقَعَ في نَفسي خَوفٌ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فجِئت أحرُسُه، فدَعا له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ نامَ)) [689] أخرجها مسلم (2410). .
5- عن جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((أتيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في دَينٍ كان على أبي، فدَقَقتُ البابَ، فقال: مَن ذا؟ فقُلتُ: أنا، فقال: أنا أنا! كأنَّه كَرِهَها)) [690] أخرجه البخاري (6250) واللفظ له، ومسلم (2155). .
قال الخَطَّابيُّ: (قَولُه: "أنا" لا يَتَضَمَّنُ الجَوابَ عَمَّا سَأل، ولا يُفيدُ العِلمَ بما استُعلِمَ، وكان الجَوابُ أن يَقولَ: أنا جابرٌ؛ ليَقَعَ بتَعريفِ الاسمِ تَعيينُ الشَّخصِ الذي وقَعَتِ المَسألةُ عنه، فلمَّا قال: أنا، لم يَزِدْ عليه، صارَ كَأنَّه تَعَرُّفٌ إلى نَفسِه، فاستَقصَرَه عليه، فكان ذلك مَعنى الكَراهةِ) [691] ((أعلام الحديث)) (3/ 2233). وقال ابنُ هُبَيرةَ: (في هذا الحديثِ مِن الفِقهِ كراهيةُ أن يقولَ الرَّجُلُ إذا طَرَق بابَ أخيه أو بابَ بَيتِه، فقيل: مَن ذا؟ أن يقولَ: أنا؛ لأنَّ قَولَه: أنا، كَلِمةٌ تتناوَلُ كُلَّ طارقٍ، فلم يَرُدَّ على معنى طَرقِه البابِ شيئًا يُستدَلُّ به عليه؛ فلذلك كَرِهه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والسُّنَّةُ أنَّه إذا طَرَق البابَ أن يُتبِعَ ذلك اسمَه حتَّى في بيتِه نَفسِه؛ ليَعلَمَ به أهلُ دارِه فيتأهَّبوا لدُخولِه). ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (8/ 287). .
وقال أيضًا: (قَولُه: أنا، ليسَ بجَوابٍ لقَولِه: مَن هذا؟ لأنَّ الجَوابَ هو ما كان بَيانًا للمَسألةِ.
وإنَّما تَكونُ المَكاني جَوابًا وبَيانًا عِندَ المُشاهَدةِ لا مَعَ المُغايَبةِ، وإنَّما كان قَولُه: مِن هذا؟ هو ما كان استِكشافًا للإبهامِ، فأجابَه بقَولِه: أنا، فلم يَزُلِ الإبهامُ، وكان وَجهُ البَيانِ أن يَقولَ: أنا جابرٌ؛ ليَقَعَ به التَّعريفُ ويَزولَ مَعَه الإشكالُ والإبهامُ، وقد يَكونُ ذلك مِن أجلِ تَركِه الاستِئذانَ بالسَّلامِ [692] قال ابنُ حَجَرٍ: (قيل إنَّما كَرِهَ ذلك؛ لأنَّ جابرًا لم يَستَأذِنْ بلَفظِ السَّلامِ، وفيه نَظَرٌ؛ لأنَّه ليسَ في سياقِ حَديثِ جابرٍ أنَّه طَلبَ الدُّخولَ، وإنَّما جاءَ في حاجَتِه فدَقَّ البابَ ليَعلمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمَجيئِه؛ فلذلك خَرَجَ له. وقال الدَّاوديُّ: إنَّما كَرِهَه؛ لأنَّه أجابَه بغَيرِ ما سَأله عنه؛ لأنَّه لمَّا ضَرَبَ البابَ عُرِف أنَّ ثَمَّ ضارِبًا، فلمَّا قال: أنا، كَأنَّه أعلمَه أنَّ ثَمَّ ضارِبًا، فلم يَزِدْه على ما عَرَف مِن ضَربِ البابِ، قال: وكان هذا قَبلَ نُزولِ آيةِ الاستِئذانِ، قُلتُ: وفيه نَظَرٌ؛ لأنَّه لا تَنافيَ بَينَ القِصَّةِ وبَينَ ما دَلَّت عَليه الآيةُ، ولعَلَّه رَأى أنَّ الاستِئذانَ يَنوبُ عن ضَربِ البابِ، وفيه نَظَرٌ؛ لأنَّ الدَّاخِلَ قد يَكونُ لا يَسمَعُ الصَّوتَ بمُجرَّدِه، فيَحتاجُ إلى ضَربِ البابِ؛ ليَبلُغَه صَوتُ الدَّقِّ، فيَقرُبَ أو يَخرُجَ فيَستَأذِنَ عليه حينَئِذٍ). ((فتح الباري)) (11/ 35). ، واللَّهُ أعلَمُ) [693] ((معالم السنن)) (4/ 154). .
وقال ابنُ الجَوزيِّ: (اعلَمْ أنَّ كَراهيةَ هذه الكَلِمةِ لوجهَينِ؛ أحَدُهما: أنَّها ليسَت بجَوابِ قَولِه: "مَن ذا؟"، فبَقيَ سُؤالُ الرَّسولِ عليه السَّلامُ الذي انتَظَرَ جَوابَه بلا جَوابٍ.
ودُقَّ البابُ يَومًا على بَعضِ العُلماءِ، فقال: مَن؟ فقال الدَّاقُّ: أنا، فقال: هذا دَقٌّ ثانٍ!
والثَّاني: أنَّ لفظةَ "أنا" مِن غَيرِ أن يُضافَ إليها "فُلانٌ" تَتَضَمَّنُ نَوعَ كِبرٍ، كَأنَّه يَقولُ: أنا الذي لا أحتاجُ أن أُسَمِّيَ نَفسي، أو: أتَكَبَّرُ على تَسميَتِها؛ فيُكرَهُ لهذا أيضًا) [694] ((كشف المشكل)) (3/ 29، 30). .
فائدةٌ:
قال الخطيب البغدادي: (ويُكرَهُ للطَّالِبِ إذا استَأذَنَ فقيل: مَن ذا؟ أن يَقول: أنا، مِن غَيرِ أن يُسَمِّيَ نَفسَه.
عن عبدِ اللهِ بنِ بُرَيدةَ، عن أبيه، قال: «خَرَجَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى المَسجِدِ وأبو موسى يَقرَأُ، فقال: مَن هذا؟ فقُلتُ: أنا بُرَيدةُ، فقال: قد أُعطِيَ هذا مِزمارًا مِن مَزاميرِ آلِ داودَ» [695] أخرجه مسلم (793) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُه: عن عبدِ اللهِ بنِ بُرَيدةَ عن أبيه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ عَبدَ اللهِ بنَ قَيسٍ -أوِ الأشعَريَّ- أُعطيَ مِزمارًا مِن مَزاميرِ آلِ داودَ. .
 وعن جابرٍ، قال: «استَأذَنتُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في دَينٍ كان على أبي، فقال: مَن هذا؟ فقُلت: أنا، فقال: أنا أنا! كَأنَّه كَرِهَ ذلك» [696] أخرجه البخاري (6250)، ومسلم (2155) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُ البخاريِّ: عن مُحَمَّدِ بنِ المُنكَدِرِ، قال: سَمِعتُ جابرًا رَضِيَ اللهُ عنه يَقولُ: أتَيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في دَينٍ كان على أبي، فدَقَقتُ البابَ، فقال: مَن ذا؟ فقُلتُ: أنا، فقال: أنا أنا! كَأنَّه كَرِهَها. .
وعنِ الحَسَنِ بنِ مَحبوبِ بنِ أبي أُمَيَّةَ، قال: قدِمَ علينا عليُّ بنُ عاصِمٍ الواسِطيُّ ببَغدادَ، فحَدَّثَنا في بَعضِ مَجالسِه، قال: قدِمتُ البَصرةَ، فأتَيتُ مَنزِلَ شُعبةَ، فدَقَقتُ عليه البابَ، فقال: مَن هذا؟ فقُلتُ: أنا، فقال: يا هذا، ما لي صَديقٌ يُقالُ له: أنا! ثُمَّ خَرَجَ إليَّ فقال: حَدَّثَني مُحَمَّدُ بنُ المُنكَدِرِ، عن جابِرِ بنِ عبدِ اللَّهِ، قال: «أتَيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حاجةٍ لي، فضَرَبتُ عليه البابَ، فقال: مَن هذا؟ قُلتُ: أنا، فقال: أنا أنا! كَأنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَرِهَ قَولي هذا، أو قَولَه هذا».
وعن أحمَدَ بنِ يَحيى، قال: دَقَّ رَجُلٌ على رَجُلٍ البابَ، فقال: مَن ذا؟ قال: ها أنا ذا، قال: يا ها أنا ذا، ادخُلْ! قال: فبَقيَ لقَبُ الرَّجُلِ ها أنا ذا!
وعن مُحَمَّدِ بنِ سَلامٍ، عن أبيه، قال: دَقَقتُ على عَمرِو بنِ عُبَيدٍ البابَ، فقال: مَن هذا؟ فقُلتُ: أنا، فقال: لا يَعلمُ الغَيبَ إلَّا اللهُ!
وسَمِعتُ عليَّ بنَ المُحسِنِ القاضيَ يَحكي عن بَعضِ الشُّيوخِ أنَّه كان إذا دُقَّ بابُه، فقال: مَن ذا؟ فقال الذي على البابِ: أنا، يَقولُ الشَّيخَ: أنا هم دَقَّ!) [697] يُنظر: ((الجامع لأخلاق الراوي)) (1/162). .

انظر أيضا: