موسوعة الآداب الشرعية

ثامنًا: تَقديمُ الكَبيرِ في الكلام


مِن أدَبِ الكَلامِ: تَقديمُ ذَوي السِّنِّ بالبَداءةِ في الكَلامِ إذا تَساوتِ الفضائِلُ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
عن رافِعِ بنِ خَديجٍ، وسَهلِ بنِ أبي حَثْمةَ: ((أنَّ عَبدَ اللَّهِ بنَ سَهلٍ ومُحَيِّصةَ بنَ مَسعودٍ أتَيا خَيبَرَ، فتَفَرَّقا في النَّخلِ، فقُتِل عَبدُ اللَّهِ بنُ سَهلٍ، فجاءَ عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ سَهلٍ وحُوَيِّصةُ ومُحَيِّصةُ ابنا مَسعودٍ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فتَكَلَّموا في أمرِ صاحِبِهم، فبَدَأ عَبدُ الرَّحمَنِ وكان أصغَرَ القَومِ، فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: كَبِّرِ الكُبْرَ))، قال يَحيى أحدُ رواةِ الحديثِ: يَعني: لِيَليَ الكَلامَ الأكبَرُ [838] أخرجه البخاري (6142، 6143) واللَّفظُ له، ومسلم (1669). .
وفي رِوايةٍ: ((فذَهَبَ عَبدُ الرَّحمنِ ليَتَكَلَّمَ قَبلَ صاحِبَيه، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: كَبِّرِ الكُبْرَ في السِّنِّ، فصَمَتَ)) [839] أخرجها مسلم (1669). .
وفي رِوايةٍ: ((فذَهَبَ عَبدُ الرَّحمَنِ يَتَكَلَّمُ، فقال: كَبِّرْ كَبِّرْ، وهو أحدَثُ القَومِ، فسَكَتَ فتَكَلَّما)) [840] أخرجها البخاري (3173). .
وفي أُخرى: ((فتَكَلَّم عَبدُ الرَّحمنِ في أمرِ أخيه، وهو أصغَرُ مِنهم، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: كَبِّرِ الكُبْرَ، أو قال: ليَبدَأِ الأكبَرُ، فتَكَلَّما في أمرِ صاحِبِهما...)) الحَديثَ [841] أخرجها مسلم (1669). .
قال الخَطَّابيُّ: (قَولُه: «الكُبْرَ الكُبْرَ» إرشادٌ إلى الأدَبِ في تَقديمِ ذَوي السِّنِّ والكِبَرِ) [842] ((معالم السنن)) (4/ 10). .
وقال ابنُ بَطَّالٍ: (إكرامُ الكَبيرِ وتَقديمُه في الكَلامِ وجَميعِ الأُمورِ مِن أدَبِ الإسلامِ ومَعالي الأخلاقِ... ولهذا المَعنى قال عليه السَّلامُ: «كَبِّرِ الكُبْرَ»، فأمر أن يَبدَأ الأكبَرُ بالكَلامِ، فكان ذلك سُنَّةً، إلَّا أنَّه دَلَّ حَديثُ ابنِ عُمَرَ [843] يَعني حَديثَ ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أخبروني بشَجَرةٍ مَثَلُها مَثَلُ المسلمِ، تُؤتي أُكُلها كُلَّ حينٍ بإذنِ رَبِّها، ولا تَحُتُّ ورَقَها، فوقَعَ في نَفسي أنَّها النَّخلةُ، فكَرِهتُ أن أتَكَلَّمَ، وثَمَّ أبو بَكرٍ وعُمَرُ، فلمَّا لم يَتَكَلَّما، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هيَ النَّخلةُ، فلمَّا خَرَجتُ مَعَ أبي قُلتُ: يا أبَتاه، وقَعَ في نَفسي أنَّها النَّخلةُ، قال: ما مَنَعَكَ أن تَقولَها؟ لو كُنتَ قُلتَها كان أحَبَّ إليَّ مِن كَذا وكَذا، قال: ما مَنَعني إلَّا أنِّي لم أرَكَ ولا أبا بَكرٍ تَكَلَّمتُما فكَرِهتُ)). أخرجه البخاري (6144). وفي رِوايةٍ: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: إنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرةً لا يَسقُطُ ورَقُها، وهيَ مَثَلُ المسلِمِ، حَدِّثوني ما هيَ؟ فوقَعَ النَّاسُ في شَجَرِ الباديةِ، ووقَعَ في نَفسي أنَّها النَّخلةُ، قال عَبدُ اللهِ: فاستَحيَيتُ، فقالوا: يا رَسولَ اللهِ، أخبِرْنا بها؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هيَ النَّخلةُ قال عَبدُ اللهِ: فحَدَّثتُ أبي بما وقَعَ في نَفسي، فقال: لأن تَكونَ قُلتَها أحَبُّ إليَّ مِن أن يَكونَ لي كَذا وكَذا)). أخرجها البخاري (131) واللَّفظُ له، ومسلم (2811). وفي رِوايةٍ: ((وأُلقيَ في نَفسي، أو رُوعي، أنَّها النَّخلةُ، فجَعَلتُ أُريدُ أن أقولَها، فإذا أسنانُ القَومِ، فأهابُ أن أتَكَلَّمَ، فلمَّا سَكَتوا قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هيَ النَّخلةُ)). أخرجها مسلم (2811). وفي رِوايةٍ: ((فأرَدتُ أن أقولَ: هيَ النَّخلةُ، فإذا أنا أحْدَثُهم)). أخرجها البخاري (2209). أنَّ مَعنى ذلك ليسَ على العُمومِ، وأنَّه إنَّما يَنبَغي أن يُبدَأَ بالأكبَرِ فيما يَستَوي فيه عِلمُ الكَبيرِ والصَّغيرِ، فأمَّا إذا عَلمَ الصَّغيرُ ما يَجهَلُ الكَبيرُ فإنَّه يَنبَغي لمَن كان عِندَه عِلمٌ أن يَذكُرَه ويَنزِعَ به وإن كان صَغيرًا، ولا يُعَدُّ ذلك مِنه سوءَ أدَبٍ، ولا تَنقُّصًا لحَقِّ الكَبيرِ في التَّقدُّمِ عليه؛ لأنَّ النَّبيَّ عليه السَّلامُ حينَ سَأل أصحابَه عنِ الشَّجَرةِ التي شَبَّهَها بالمُؤمِنِ، وفيهمُ ابنُ عُمَرَ وغَيرُه مِمَّن كان دونَه في السِّنِّ، لم يوقِفِ الجَوابَ على الكِبارِ مِنهم خاصَّةً، وإنَّما سَأل جَماعَتَهم ليُجيبَ كُلٌّ بما عَلِمَ، وعلى ذلك دَلَّ قَولُ عُمَرَ لابنِه: «لو كُنتَ قُلتَها كان أحَبَّ إليَّ مِن كَذا وكَذا»؛ لأنَّ عُمَرَ لا يُحِبُّ ما يُخالفُ أدَبَ الإسلامِ وسُنَنَه، وقد كان رَضِيَ اللهُ عنه يَسألُ ابنَ عبَّاسٍ وهو صَبيٌّ مَعَ المَشيَخةِ [844] لفظُه: عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: (كان عُمَرُ يدخِلُني مع أشياخِ بَدرٍ، فكأنَّ بعضَهم وجَدَ في نفسِه، فقال: لمَ تُدخِلُ هذا معنا ولنا أبناءٌ مِثلُه؟! فقال عُمَرُ: إنَّه من حيثُ عَلِمْتُم، فدعا ذاتَ ليلةٍ فأدخله معهم، فما رُئِيتُ أنَّه دعاني يومَئذٍ إلَّا ليُريَهم، قال: ما تقولون في قَولِ اللهِ تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ؟ فقال بعضُهم: أُمِرْنا أن نحمَدَ اللهَ ونستغفِرَه إذا نُصِرْنا وفُتِحَ علينا. وسكت بعضُهم فلم يقُلْ شيئًا، فقال لي: أكذاك تقولُ يا ابنَ عبَّاسٍ؟ فقُلتُ: لا، قال: فما تقولُ؟ قُلتُ: هو أجَلُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعلَمَه له، قال: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فتحُ مَكَّةَ، وذلك علامةُ أجَلِك؛ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا فقال عُمَرُ: ما أعلَمُ منها إلَّا ما تقولُ). أخرجه البخاري (4294). ، وكان ذلك مَعدودًا مِن فضائِلِه) [845] ((شرح صحيح البخاري)) (9/ 317، 318). .
وقال النَّوويُّ: (وفي هذا فضيلةُ السِّنِّ عِندَ التَّساوي في الفضائِلِ، ولهذا نَظائِرُ؛ فإنَّه يُقدَّمُ بها في الإمامةِ وفي وِلايةِ النِّكاحِ نَدبًا، وغَيرِ ذلك) [846] ((شرح مسلم)) (11/ 146). .

انظر أيضا: